الرسول -صلى الله عليه وسلم- معلمًا :
كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي المدرسة الأولى التي كان يلتف المسلمون الأوائل فيها حول النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليهم القرآن ويعظهم ثم أصبح بعد ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانًا للدعوة. فلما هاجر كان المسجد هو مكان العلم والفتوى والقضاء والعبادة وكان من خصائص تعليمه لصحبه الكرام:
أولاً: تقسيم المواعظ وتفريقها مع الأوقات. وذلك لأن كثرة العلم ينسى بعضه بعضًا ولأن دوام التذكرة في حياة المسلم أمر ضروري لتصحيح سلوكه وصرف الشيطان عنه. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة منا ( رواه البخاري ).
هذا ولا يمنع ذلك أن تكون بعض المواعظ من النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثت في أوقات نادرة وكانت طويلة كما روى مسلم عن عمرو بن أخطب قال صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا.
ثانيًا: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب الناس بقدر إدراكهم وفهمهم وحسب خبراتهم. ففيهم البدوى والحضري والصغير والكبير والذكر والأنثى. فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال:
جاء رجل من بني فزارة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال إن امرأتي ولدت غلامًا أسود وإني أنكرته فقال له النبي: هل لك من إبل ؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها ؟ قال حمر، قال هل فيها أورق (1) ؟ قال: إن فيها لورقًا، قال: فأني أتاها ذلك ؟ قال: عسى أن يكون نزعة عرق (2)، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ( متفق عليه).
ثالثًا: وضوح البيان: حيث كان -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم تكلم ثلاثًا لكي يفهم عنه وإذا تكلم تكلم كلامًا مفصلاً يبينه فيحفظه من سمعه منه. قال أنس رضي الله عنه يصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( كان إذا تكلم أعادها ثلاثًا حتى يفهم عنه ) رواه البخاري.
رابعًا: الرفق بالأصحاب حتى يتعلم جاهلهم: روى مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عليه قال: بينا أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل في القوم فقلت يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم. فقلت واثكل أمياه (3) ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني (4) ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم. قال ومنا رجال يتطيرون. قال ذلك شئ يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم … إلخ الحديث.
فانظر رفقه في تعليم الرجل حديث العهد بالإسلام وانظر كيف يعطيه الجواب عن مسائله بقدر ما يحتاج للعمل لم يفصل فيه لأن الرجل لا يزال قريب عهد بالجاهلية.
وفي ذلك أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وغيره واللفظ له: دخل أعرابي المسجد والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس فصلى فلما فرغ قال اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا. فالتفت إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لقد تحجرت(5) واسعًا، فلم يلبث أن بال في المسجد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه. حتى إذا فرغ قال أهريقوا عليه سجلا من ماء، ثم قال إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) وفي رواية ابن حبان فقال الأعرابي بعد أن فقه في الإسلام: فقام إلى (بتشديد الياء) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤنبني ولم يسبني وقال: إنما بني هذا المسجد لذكر الله والصلاة.
بعض الأساليب التربوية التي عالج بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجتمع الجاهلي(6)
أولاً: القدوة الحسنة :
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة والمثل الذي يحتذي من المسلمين جميعًا وهذا ما يدعو القرآن الكريم إليه بقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (7) وقد استدل علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على صحة الاحتجاج بأفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو كثيرًا للاقتداء به فمن ذلك صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر ليراه الناس فيتعلموا. فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ( …. ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام عليه (8) فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: يأيها الناس إني إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ) رواهمسلم.
وفي سياق حجة الوداع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى الجمرات من بطن الوادي وهو على الراحلة يقول ( لتأخذوا مناسككم فإني لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتي هذه … ) رواهمسلم. ولقد وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت ( كان خلقه القرآن ).
هذا وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصحح للناس أعمالهم بسلوكه ويدلهم على ذلك : عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها – وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلى الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (متفقعليه).
ومن ذلك ما رواه ابن حبان في شأن عثمان بن حنيف رضي الله عنه عندما شغله قيام الليل عن حق زوجته قال ( … فلقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا عثمان: أما لك فيّ ( بتشديد الياء ) أسوه؟ قال: وما ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي ؟ قال: أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار وإن لأهلك عليك حقًا وإن لجسدك عليك حقًا … ) (9)
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى (10) في عنقه السيف. وهو يقول لم تراعوا لم تراعوا (11) (متفقعليه).
وعن علي رضي الله عنه قال: إنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا إلى العدو وكان أشد الناس بأسًا ( رواهأحمد).
هذا وإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يتعلمون الدين والسلوك من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فترى البخاري في كتاب الصلاة يروى عن عثمان بن عفان وضوءه ثم يشهد أنه وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويروى عن جابر بن عبد الله أنه يصلى في ثوب واحد ورداؤه موضوع ويحتج على صحة ذلك بقوله رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلى هكذا. ويروى عن مالك بن الحويرث أنه يقوم فيصلى ثم يقول: إني لأصلى بكم وما أريد الصلاة. أصلى كما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلى. ومن أمثلة ذلك ما لا يقع تحت حصر بل قد تتعدى القدوة أكثر من ذلك. روى مسلم أن ابن عمر كان يأتي مسجد قباء كل سبت ويقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت.
فلا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل الذي يحتذي والقدوة الذي يقتدي به في كل أمر: زوجًا في بيته، أبًا مع أبنائه، قائدًا لجنده، معلمًا لأتباعه، عابدًا لربه، قدوة في الكرم والجود، قدوة في الشجاعة والإقدام، قدوة في الحلم والصفح ، قدوة في العلم والعبادة، قدوة حتى في ملبسه ونومه وسيره وسائر عمله. وإن التعليم بالقدوة لهو أنجح الوسائل فيقول الشاعر في ذلك:
يأيها الرجل المعلم غيره | هلا لنفسك كان ذا التعليم | |
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى | كما يصح به وأنت سقيم | |
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم | |
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها | فإذا انتهت عنه فأنت حكيم | |
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدي | بالعلم منك وينفع التعليم |
ونحن اليوم إذا راجعنا صفحة حياتنا وسألنا عن مشاكلنا لوجدنا: الطبيب يحذر من التدخين ومن أضراره والسيجار في فمه، والاقتصادي يدعو إلى التقشف وخاتم الذهب والعقيق يملأ كفه فضلا عن أصابعه، والواعظ ينهى عن فحش القول بالقول الفاحش ،والذين يدعون إلى الحرص على الوقت يضيعون الأوقات سدى، والله سبحانه يقول ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (12)
وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا ينقلون منه العلم بالاقتداء ثم تراهم يعلمون ذلك بالقدوة إلى الحيل الذي يليهم حتى إن الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام أهل المدينة يأخذ بعمل أهل المدينة ويقدمه على حديث الآحاد لأنه نقل بالتواتر العملي.
والله نسأل أن يعين العلماء والأمراء على أن يكونوا قدوة لنا في العلم والعمل.
—
(1) الاورق: الذي به سواد.
(2) نزعه عرق: الأصل والنسب من الأجداد البعيدة يظهر في الأبناء.
(3) واثكل أمياه بضم الثاء وسكون الكاف وفتح اللام وضم الهمزة وفتح الياء كلمة مثل ثكلتني أمي دعاء يراد به التعجب الشديد عند الغضب.
(4) كهرني: انتهرني.
(5) تحجرت = ضيقت.
(6) وهو ما أشرنا إلى بعض صفاته في عدد ربيع الأول 1403.
(7) الأحزاب آية 21.
(8) وقف على المنبر.
(9) راجع مقال الحقوق الزوجية (الزواج شرعة إسلامية ) مجلة التوحيد عدد ذي الحجة 1402.
(10) عرى = أي أن الفرس لا سرج عليه.
(11) لم تراعوا = أي أنتم في أمان.
(12) الصف آية 2، 3.