التربية بين الأصالة والتجديد (3)

كلنا يسمع بالصيحات تتعالى منذرة بالمشكلات الاقتصادية داعية للإصلاح وإلى ‏مؤسسات الأمن الغذائي ومظلة التأمينات إلى غير ذلك – والمجتمع الذي عاش فيه ‏رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاصة في سنوات ما بعد الهجره يصل في فقره إلى ‏درجة عجيبة من شواهدها :

‏(1) ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( إنا كنا لننظر ‏الهلال ثم الهلال ثلاثة أهله في شهرين وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم نار – قال عروة قلت يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت الأسودان : ‏التمر والماء …).‏

‏(2) روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال إني

‏لأول العرب رميًا بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى

الله ‏عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر (1) حتى إن أحدنا ليضع ‏كما تضع الشاة ما له خلط (ما له خلط بكسر الخاء أي لا يختلط بعضه ببعض ‏من شدة جفافه وتفتته ) ‏

‏(3) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال والله الذي لا إله إلا

هو إن ‏كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني ‏من شدة الجوع …)‏

‏(4) روى البخاري عنه أيضًا أن سائلا سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم-

عن ‏الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ( أو لكلكم ثوبان ) ؟.‏

تأمل هذه الحياة العجيبة في فقرها من تلك العبارات اليسيرة فماذا أحدثت دعوة ‏النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا المجتمع لقد بُعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ‏في عالم أصيب بزلزال شديد هزه هزًا عنيفًا حتى أصبح كل شيء في غير محلة – ‏رأى الإنسان وقد هانت عليه انسانيته فأخذ يسجد للحجر والشجر والشمس ‏والقمر وما لا ينفع ولا يضر – رأى أنفسا فسدت حتى أنها ترى المر عذبًا والخبيث ‏طيبًا – رأى المجتمع يكره الصديق الناصح ويحب العدو الظالم – رأى مجتمعًا ‏أصبح الذئب فيه راعيًا والخصم الجائر قاضيًا – المجرم فيه سعيدًا حظيًا والصالح ‏محرومًا شقيًا – المعروف فيه منكرًا والمنكر معروفًا شرب الخمر ضياع للعقول والأبدان ‏‏- الخلاعة والفجور إلى حد ضياع الأنساب – فساد في كل مناحي الحياة لا يكفيه ‏أجيال من المصلحين – لكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يكن مصلحًا كعامة ‏المصلحين يعالج معايب اجتماعية أو خلقية أو اقتصادية أو سياسية. بل قد أتى ‏البيت من بابه ووضع على القفل مفتاحه فانحلت تلك العقد التي أعيت جميع ‏المصلحين – دعا الناس فقال : ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) فلما انحلت عقدة ‏الشرك تلتها جميع العقد تنحل سهلة ميسورة.‏

شهادات الأجانب لما قام الرسول – صلى الله عليه وسلم- (2)

قال موير ( لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالا منه وقت ظهور محمد ولا نعلم ‏نجاحا تم كالذي تركه عند وفاته.‏

وتقول دائرة المعارف البريطانية ( لقد صادف محمد النجاح الذي لم ينل مثله نبي ‏ولا مصلح ديني في زمن من الأزمنة.‏

ويقول يوزوت أسمث ( إن محمدًا أعظم المصلحين على الإطلاق دون منازع ).‏

ويقول هيل إن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثرًا في تاريخ البشر وكل رجال ‏الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيرًا عميقًا في حضارة عصرهم وأقوامهم ولكنا لا نعرف ‏في التاريخ أن دينا أنتشر بهذه السرعة وغير العالم بأثره المباشر كما فعل الإسلام ‏ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيدًا مالكًا لزمانة ولقومه كما كان محمد. ‏لقد أخرج أمة إلى الوجود ومكن لعبادة الله في الأرض وفتحها لرسالة الطهر ‏والفضيلة ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين وأصل النظام ‏والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى ) ‏

من صور التحول العجيب ‏

* عمر بن الخطاب كان في جاهليته رجلاً قبلي الفكر والطبيعة والعاطفة محدود ‏الإدراك همه السكر واللهو حتى يقال عنه ( والله لا يؤمن حتى يؤمن حمار خطاب ‏‏) ‏

يصبح بعد الإسلام عمر العبقري الفذ قائد الدولة رمز العدل، لا يكون إلا ومعه الحزم ‏والرحمة وسعة الأفق وصدق العزيمة وحسن الفراسة حتى يملأ أسماع الدنيا ‏وأبصارها بالآثار الحسنة والطيبة.‏

‎* عبد الله بن مسعود راعى الإبل المحتقر المهان في قريش لا يجيد إلا خدمة ‏سيده نحيل الجسم قصير القامة، دقيق الساقين – يصبح بعد الإسلام رجل ‏الفقه والرأى يقول عنه عمر لأهل الكوفة : لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي.‏

* خالد بن الوليد رجل العصابات في الجاهلية – فارس يستعين به رؤساء ‏قريش في المعارك القبلية فينال ثقتهم وثناءهم – يصبح بعد الإسلام سيف الله ‏المسلول الذي إذا خرج من غمده لم يعد إلا والنصر معه – ينزل على الروم ‏كالصاعقة يترك ذكرًا خالدًا في التاريخ.‏

‎*سلمان الفارسي كان أبوه رئيسًا للدين المجوسي وكان هو الذي يوقد النار ‏التي يعبدونها ثم ينتقل من رق إلى رق ومن قسوة إلى قسوة ثم بعد الإسلام يطلع ‏على العالم كحاكم لعاصمة الأمبراطورية الفارسية التي كان بالأمس أحد ‏رعاياها المغمورين. وهذا لا يغير من زهادته وتقشفه بل يراه الناس يسكن كوخًا ‏ويحمل الأثقال على رأسه.‏

من الجاهلية إلى الإسلام ‏

كان المجتمع الذي بعث فيه النبي – صلى الله عليه وسلم- مثل هذا الإيمان في فوضى ‏من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع. لا يخضون ‏لسلطان ولا يقرون بنظام ولا ينخرطون في سلك. يسيرون على الأهواء ويركبون ‏العمياء ويخبطون خبط عشواء.‏

فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها واعترفوا لله بالملك ‏والسلطان والأمر والنهي. ولأنفسهم بالعبودية والطاعة المطلقة. وأعطوا من ‏أنفسهم القياد واستسلموا للحكم الإلهي استسلامًا كاملاً. تنازلوا عن أهوائهم ‏وأنانيتهم وأصبحوا عبيدًا لله لا يفعلون إلا ما يرضي مالكهم وسيدهم.‏

لقد كان هذا التغيير الذي أحدثه النبي – صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين أغرب ‏ما في التاريخ – كان غريبًا في سرعته وعمقه وسعته وشموله ووضوحه وسهولة ‏فهمه.‏

إذن فما هو طريق الإصلاح والتربية الذي اتبعه النبي – صلى الله عليه وسلم- ؟.‏

للبحث بقية إن شاء الله.‏

———

‏(1) الحبلة بضم الحاء وسكون الباء والسمر بفتح السين المشددة وضم الميم نوعان ‏من الشجر معروفان بالبادية.‏

(2) عن كتاب الرسول للأستاذ سعيد حوى.‏