عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب. قال : (لا يلبس المحرم القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف. إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئًا به زعفران أو ورس ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين ) . (متفق عليه).
هذا الحديث الشريف الذي رواه ابن عمر أخرجه البخاري في أحد عشر موضعًا من صحيحه يستنبط في كل موضع منها فوائد فقهية بما يدل على عظم الفوائد في هذا الحديث وجلالتها وكثرتها من هذه المواضع الإحدى عشر : ستة مواضع في كتاب اللباس في أبواب القميص والبرانس والسراويل والعمائم والثوب المزعفر والنعال السبتية أما المواضع الخمسة الباقية ففي كتاب العلم باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله قال ابن حجر في شرحه في هذا الموضع : إن مطابقة الجواب للسؤال غير لازم ، بل إذا كان السبب خاصًا والجواب عامًا جاز .
وحمل الحكم على عموم اللفظ لا على خصوص السبب لأنه جواب وزيادة فائدة ويؤخذ منه أيضًا أن المفتي إذا سئل عن واقعة واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال تعين عليه أن يفصّل الجواب ، ولهذا قال (فإن لم يجد نعلين) فكأنه سأل عن حالة الاختيار فأجابه عنها وزاده حالة الاضطرار ، وهي ليست أجنبية عن السؤال لأن حالة السفر تقتضي ذلك ، وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة ، بل المراد أن الجواب يكون مفيدًا للحكم المسئول عنه (انتهى) .
ومنها في كتاب الصلاة بأن الصلاة في القميص والسراويل والتُّبَّان والقياء (أي تجوز الصلاة بغيرها من الثياب) ذلك لأن المحرم يؤدي الصلاة وهو يلبس هذه الملابس السابقة .
أما في كتاب الحج فجاء في باب ما يلبس المحرم وباب ما ينهي من الطيب للمحرم والمحرمة.
وعنده قال الحافظ في الفتح: والحكمة في منع المحرم من الطيب أنه من دواعي الجماع ومقدماته التي تفسد الإحرام وبأنه ينافي حال المحرم فإن المحرم أشعث أغبر.
أما الموضع الحادي عشر فهو في كتاب جزاء الصيد باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين.
هذا ولقد أورد الحديث مسلم كما أورده أصحاب السنن ومالك في الموطأ .
كما جاء حديث ابن عباس في الصحيحين من خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عرفة يقول: السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين يعني للمحرم.
والحديث جاء جوابًا عن سؤال قال المازري في (المعلم) : سئل عليه الصلاة والسلام عما يلبس المحرم فأجاب بما يترك لباسه وإنما عدل عليه السلام إلى ذلك لأن المتروك ينحصر والملبوس لا ينحصر . فحصر له ما يترك ليبين أن ما سواه مباح لباسه .
وقال النووي : قال العلماء : هذا من بديع الكلام وجزله فإنه -صلى الله عليه وسلم- سئل عما يلبس المحرم فقال : لا يلبس كذا وكذا ، نحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما سوى ذلك وكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه منحصر وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر فضبط الجميع بقوله -صلى الله عليه وسلم- (لا يلبس كذا وكذا) يعني : ويلبس ما سواه .
قال الزرقاني في شرح الموطأ : المحرم : اسم فاعل من أحرم بمعنى دخل في الحرمة أي أدخل نفسه وصيرها متلبسًا بالسبب المقتضي للحرمة لأنه دخل في عبادة الحج والعمرة أو هما معًا فحرم عليه الأنواع السبعة : لبس المخيط، والطيب ، ودهن الرأس واللحية ، وإزالة الشعر والظفر والجماع ومقدماته والصيد . انتهى .
فالإحرام نية الدخول في النسك (الحج أو العمرة) وهذه النية تكون مقارنة للتجرد من الثياب والتلبية وقال الزرقاني : فأركان الحج مثلاً الإحرام والطواف والوقوف والسعي . والنية فعل كل واحد من الأربعة تقربًا إلى الله تعالى.
وقال النووي : أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم لبس شيء من هذه المذكورات وأنه نبه بالقميص والسراويل على جميع ما في معناها وهو ما كان محيطًا مخيطًا معمولاً على قدر البدن أو قدر عضو منه كالجوش والتُّبَّان والقفاز وغيرها .
ونبه -صلى الله عليه وسلم- بالعمائم والرانس على كل ساتر مخيطًا كان أو غيره حتى العصابة فإنها حرام ، فإن احتاج إليها لشجة أو صداع أو غيرها شدها ولزمته الفدية ، ونبه -صلى الله عليه وسلم- بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرها وهذا كله حكم الرجال وأما المرأة فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر من مخيط وغيره إلا ستر وجهها .
قال ابن حجر : المقصود هنا الرجال ولا يلتحق المرأة في ذلك لذا قال (ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين) (وقال) وتحريم المخيط أي ما يلبس على الموضع الذي جعل له ولو في بعض البدن فأما لو ارتدى بالقميص فلا بأس . (انتهى) . (أي لو وضع القميص على كتفيه كهيئة الرداء فلا بأس).
وقال ابن المنذر : أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس . (انتهى) .
وقال الخطابي : ذكر العمائم والبرانس معًا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر . قال : (ومن النادر المكتل يحمله على رأسه . (قال ابن حجر : قلت : ) إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صح ما قال ، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيئة الحامل لحاجته لا يضر على مذهبه ، ومما لا يضر أيضًا الانغماس في الماء فإنه لا يسمى لابسًا كذا ستر الرأس باليد .
وقال البغوي : لا يجوز للرجل المحرم لبس هذه الثياب ولو عامدًا فتجب عليه الفدية وهي دم شاة .
(قال النووي) : قال العلماء : والحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل : وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته وامتناعه عن ارتكاب المحظورات وليتذكر به الموت ولباس الأكفان ويتذكر البعث يوم القيامة والناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة .
قال ابن دقيق العيد : المنع من الزعفران والورس وهو نبت يكون باليمن يصبغ به : دليل على المنع من أنواع الطيب وعداه القانسون إلى ما يساوي في المعنى من المطيبات .
وفي الحديث النهي عن لبس الخفاف وقوله -صلى الله عليه وسلم- فمن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين.
وقد أورد البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بعرفات : من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل .
اختلف العلماء في حكم المحرم الذي لا يجد نعلين ووجد خفين فهل يجب عليه قطعهما من أسفل الكعبين وإن لم يفعل أثم وفدى أو أنه يباح له لبسهما بلا قطع وليس عليه فدية .
فالجمهور على القطع للخفين أسفل الكعبين مستدلين بحديث ابن عمر، وأحمد على عدم القطع مستدلاً بحديث ابن عباس.
قال الجمهور في حديث ابن عباس أنه مطلق يحمل على المقيد في حديث ابن عمر – وأصحاب القول الثاني قالوا بأن حديث ابن عباس متأخر عن حديث ابن عمر وهو في وقت الحاجة فلا يتأخر البيان عن وقت الحاجة فهو ناسخ لحديث ابن عمر ولكني وجدت العيني في العمدة قد رجح قول الجمهور بقوله : والأحسن من هذا أن يقال أن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قد روى في بعض طرقه الصحيحة موافقته لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في قطع الخفين رواه النسائي في سننه . عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا لم يجد إزارًا فليلبس السراويل وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ولقطعهما أسفل من الكعبين وهذا إسناد صحيح. (انتهى) ولكن الألباني وصف هذه الزيادة في حديث ابن عباس (وليقطعهما أسفل من الكعبين ) بالشذوذ.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : أولاً أمرهم بقطعها ثم رخص لهم في لبسها مطلقًا من غير قطع وهذا هو الذي يجب حمل الحديث عليه .
وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين أي النتوئين العظميين على جانبي كل رجل . وقد خالف في ذلك الإمامية من الشيعة الروافض وهو من فرق الضلال ومعلوم أن خلاف فرق الضلال غير معتبر فلا ينظر إليه (1).
والحاصل جواز لبس السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعل بغير فتق للسراويل ولا قطع للخف إلا أنه لا يجوز استخدامها لغير الواحد .
والمرأة المحرمة تلبس كافة أنواع الثياب الساترة لبدنها غير أنها لا تتنقب ولا تلبس القفازين فتخلع ما على وجهها من برقع ونقاب ونزيل ما على كفيها من القفازين. ولا بأس أن تضع المرأة على وجهها خمارًا تغطي به وجهها عند مرور الرجل غير المحارم قريبًا منها ولو لمس ذلك الغطاء وجهها.
لقول عائشة وأم سلمة وأسماء رضي الله عنهن : كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- و نحن محرمات فيمر بنا الرّكب فتسدل إحدانا الثوب على وجهها من فوق رأسها فإذا جاوزنا كشفناه (والله أعلم)
معاني بعض المفردات :
السراويل : مفرد على صيغة الجمع وجمعه سراويلات وهو يذكر ويؤنث واللفظة أعجمية عُرّبت .
البرانس : جمع برنس ثوب رأسه منه ملتزق به لباس للنساك في صدر الإسلام ويلبسه المغاربة الآن .
الخفاف: جمع خف بضم الخاء وهو ما يلبس في الرجل ويكون إلى منتصف الساق .
الورس: نبات أصفر تصبغ به الثياب رائحته طيبة .
الزعفران: نبات يصبغ به أيضًا.
الانتقاب: تخمير المرأة وجهها بحيث تجعل لعينها خرقين تنظر منهما .
التبان: بالضم والتشديد سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة فقط .
الجوش: الدرع يلبس على الصدر .
(1) فرق الضلال الثنتان والسبعون تختلف مع أهل السنة والجماعة في مسائل بعضها من الأصول وبعضها من الفروع ولا عبرة لما يقع منهم من خلاف على كل حال فمن مسائل الفروع ما قالته الشيعة من مسح القدمين بدل الغسل . وإنكارهم المسح على الخفين فيتحقق الإجماع رغم مخالفتهم، فمخالفتهم للإجماع لا تزيل الإجماع. ومن مسائل الأصول التي خالفوا فيها كإنكار المعتزلة عذاب القبر أو ردهم أحاديث الآحاد في أمر الاعتقاد فأقوالهم ضلال لا يجوز مشابهتهم فيها وقد نقل الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله تعالى في أحاديث الإحكام عن أبي بكر بن العربي قوله : (خبر الواحد أصل عظيم لا ينكره إلا زائغ . وقد أجمعت الصحابة على الرجوع إليه) فتدبر .
(2) من وهب له في أمر الحج مال للزاد أو الراحلة أو الثياب ولم يكن واجدًا بحيث لا يمكنه أن يحج حجة الفريضة بدون ذلك فلا يلزمه قبوله وذلك لعظم المنة عليه.
فالله أكرم يعطيه أجر الحج بنيته الصادقة.
وكذلك من وهب له إزار فلا يلزم بقبوله فإن لم يجده إلا موهوبًا جاز له لبس السراويل بغير فدية كما سبق والله أعلم.