التربية بين الأصالة والتجديد (2)

إذا كان الهدف من حياة الإنسان واضح في قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) فالهدف إذًا من عمل الإنسان وسعيه أن يرضى عنه الله تعالى- قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له) ويقول سبحانه (يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور).

فيكون الهدف من التربية إذن إعداد الجيل الذي يرضى عنه الله تعالى.

وفي إطار هذا الإرضاء يكون سعي الإنسان في حياته موقنًا أن الله يراه. ومن ثم فهو لا يظلم أحدًا سواء كان أمام الناس أو كان خاليًا وحده. وإن حدث ووقع في ظلم أحد أو أذنب فهو يعلم أن له ربًا غفارًا للذنوب فهو يسرع بالإقلاع عن الذنب والتوبة منه. هذا وإذا كان في عمل أتقنه لأنه يعلم أن الله يكتب له في صحيفته ذلك كله وسوف يحاسبه.

هذا ومن الضروري لأسلوب التربية الذين يتبع أن يضع في حسابه طبيعة المجتمع ومشكلاته وإمكاناته حتى يكون وضوح الهدف والإمكانات معين على التخطيط السليم. فما هي المشكلات التي تواجهنا في مجتمعنا والتي تطلب منا وضع الحل المناسب بأسلوب التربية:

مشكلات اقتصادية تتضح في قلة الإنتاج والتظالم في التوزيع واضطراب في العمالة كمًا وكيفًا.

عجز هنا وركود هناك، وتضخم في الأسعار.

مشكلات اجتماعية منها الأنانية وحب الذات، ومنها التبذل في عرض المرأة في الأسواق طلبًا لرواج السلع فتكون صورة في الإعلانات وحقيقة في واجهة المحلات.

مشكلات اعتقاديه منها كثير من الناس يطوفون حول القبور ويتمسحون بها ويطلبون منها دفع الضر وجلب النفع. ومنها نسبة علم الغيب لغير الله تعالى. فإذا كان البدحائي يتفاءل ويتشاءم بالطيور (العصفور والغراب) فاليوم تراه يقرأ في الجرائد حظك هذا اليوم أو الأسبوع للتعرف على المستور من الغيب فضلا عن كثير من المفاسد الاعتقادية.

مشكلات علمية تتمثل في انخفاض المستوى العلمي لحد انتشار الأمية. سوء مستوى الخريجين ونقص خبراتهم بل وضعف استعدادهم لكسب هذه الخبرات. جهل بأمور الدين حتى أن كل دعوة طالة تجد لها أنصارًا سواء كانت تفريطًا بانتشار المعاصي أو إفراطًا بانتشار البدع والضلالات أو بث بدع الخوارج والاعتزال والتشيع والقدرية فتجد لها أشياعًا وأنصارًا.

والسؤال الآن: هل كانت هذه المشكلات موجودة في المجتمع الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل استطاع المنهج التربوي الذي مارسه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلها حتى يحكم على صلاحيته لمثلها أم لا؟

إن المجتمع الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم كانت له مميزات على رأسها الفصاحة والبلاغة وقوة الحافظة وذلك مالم يتحقق لمجتمع قبله ولا بعده. وكان ذلك آية لأن تكون الرسالة الجديدة:

أولا: تتحدى الفصحاء والبلغاء.

ثانيًا: تخاطب العقول.

ثالثًا: تبقى بقوة الحافظة محمولة في صدور الرجال قبل سطور الكتب فتنتقل إلى الجيل التالي نقلا أمينًا متكاملا.

أما مشكلات هذا المجتمع فكانت تتمثل في اتجاهات شتى:

على رأسها الشرك بالله تعالى وعبادة الأوثان والضراعة عندها والطواف حولها والنذر والذبح عندها وتعفير الجباه بالسجود لها ثم يدعون {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}.

ومنها مشكلات في العلاقات الجنسية أكتفي منها بذكر حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قدح عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل.

ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به، ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم).

ومشكلات اجتماعية مثل عادة الثأر وكثرة شرب الخمور حتى أن شاعرهم يخشى على نفسه بعد الموت ألا تشرب عظامه الخمر فيقول:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

لتروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تــــــــــدفنـــنــــي بـــــــالفـــــــــــلاة فإنني

أخـــــــــــاف إذا ما مت أن لا أذوقها

ومشكلات اقتصادية متمثلة في التفاوت الشديد بين الطبقات والتعامل بالربا الفاحش والتظالم في البيوع والغصب والسلب وقطع الطريق على رحلات التجارة.

ومشكلات ثقافية فكانوا أمة أمية لا تعرف الكتابة والحساب حتى أن قائلهم يقول: وهل بعد الألف عدد؟!

للبحث بقية