أمثلة الأسرة في القرآن

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه . وبعد ..

فإن القادر الحكيم سبحانه فطر الخلق على فطرة الإسلام، وأنزل عليهم شرعه بدين الإسلام، فلا صلاح للخلق إلا بدين الإسلام الذي فطر الله الخلق عليه، والذي أتمه وأكمله ورضيه لهم دينًا .

فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من طين، وخلق منه زوجه حواء، وأمره أن يسكن زوجه معه: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [ البقرة: 35]، وجعل ذلك الأمر عامًّا: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [ الطلاق: 6]، وكما جعل الله الليل سكنًا: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) [الأنعام: 96]، وجعل البيوت سكنًا: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) [ النحل: 80]، فقد جعل سبحانه الأزواج سكنًا: (وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) [الروم: 21]، وكان ذلك منذ بدء خلق الإنسان: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [ الأعراف: 189] .

فالأسرة سكن الزوج، وسكون الزوجة، ومنشأ الولد، وموطن التربية، فإذا صلحت الأسرة صلحت الأمة، وإن الأمة التي تعني بالأسرة هي التي تفلح في القيادة والريادة، لذلك كان الشرع الشريف حماية للأسرة وعناية بها من كل جانب، فكان البيان لحدود كل من الزوجين حقوقًا وواجبات، وكان القرآن الكريم توضيحًا لموضع الامتنان من الله سبحانه بالأسرة في بنائها حتى لا يغفل الإنسان عن تلك النعمة واليقين بمنزلتها من العظمة بين سائر النعم .

ثم كانت الأمثلة في القرآن الكريم مضروبة للأسرة في كافة أحوالها وجميع أشكالها وفاقًا وخلافًا أُلفة وشقاقًا، حتى نتعلم من تلك الأمثلة المضروبة .

فمثال الأب المهتدي يبقى يقول لابنه الشارد: (يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) [ هود: 42]، ويوضح له الحق ويزيل عنه الشبهة، كما ظن ابن نوح أن الجبل يعصم، فقال: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) [ هود: 43]، قال أبوه مبينًا وموضحًا ومصححًا إذا أعرضت: (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [ هود: 43]، ويبقى ذلك حاله حتى يفقده غريقًا أو ينتشله مهتديًا .

ومثال الأب المهتدي يعتني بولده منذ صغره ليعظه ويربيه: (يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [ لقمان: 13]، ويستمر في موعظته: (يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [ لقمان: 17 – 19] .

ومثال الابن المهتدي الذي يلتقي مع أبيه الضال فلا يمنعه هداية، بل يسارع بها إلى أبيه: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) [مريم: 42 – 45]، ولا يمنع الولد المهتدي في الاستمرار في الدعوة الحسنة والموعظة غلظ أبيه إذا أغلظ له القول وتوعده بالفعل، بل يدعو له ويستغفر: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [ مريم: 47]، ومع ذلك فإنه لا يشاركهم في باطلهم: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [ مريم: 48]، ولا يمنعه من الاستمرار في الدعاء والاستغفار إلا أن يتبين بالشرع بيانًا يقينيًّا أنه عدو لله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [ التوبة: 114] .

هذا ومن يقرأ آيات القرآن الحكيم يرى أمثلة الأسرة متفرقة في سور القرآن الكريم، بدءًا من آدم وحواء، عليهما السلام، وانتهاء إلى زمان نزول القرآن يضرب الأمثلة الواضحة من واقع ما خلقه الله في أنبيائه ورسله، بل وغيرهم من خلقه، فبعد مثال نوح، عليه السلام مع ابنه، ولقمان مع ولده، وإبراهيم، عليه السلام، مع أبيه آزر، نجد مثال النبوة الصالحة للأب الصالح واضحة في إسماعيل مع إبراهيم ، عليهما السلام، حيث قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [ الصافات: 100 – 107] .

والأمثلة في القرآن مضروبة في شأن الأخوة في كافة أشكالها، فالأخوان الصالحان مثالهما في موسى وهارون، عليهما السلام، فموسى، عليه السلام، طلب من الله النبوة والرسالة لهارون: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [ القصص: 34، 35]، (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [ طه: 29 – 32] .

والأخ لا يبخل على أخيه بالموعظة عند الحاجة إليها: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين) [ الأعراف: 142]، ولكنه لا يقره على الخطأ، بل يأخذ على يده حتى يرجع: (قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [ طه: 92 – 94] .

ومثال الإخوة ينزغ بينهم الشيطان، ثم يرجعون إلى الصواب ويتوبون، في يوسف، عليه السلام، وإخوته يلقونه في الجب، ومع ذلك فإنه لا ينسى، بل وهو في سجنه، الخير الذي جاءه من طريق أهله وآبائه فيقول: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [ يوسف: 38]، ومع ذلك كان يوسف، عليه السلام، سريع الصفح عنهم: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [ يوسف: 91 – 92]، بل يأويهم من السنوات، العجاف، فيقول: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين) [ يوسف: 93 ] .

ومثال الإخوة يقع الحسد في قلب أحدهم من غير (جريمة من أخيه فيفضي الحسد إلى عداوة تبلغ إلى قتله في ابنيْ آدم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) – حتى قال: – (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [ المائدة: 27 – 30] .

وأما عن الزوج مع زوجته فمثال الزوجين المؤمنين في إبراهيم مع زوجتيه سارة وهاجر، عليهما السلام، يختبرُ الله إبراهيم، عليه السلام، بزوجه وولده وهما في الصبر خير مثال، بل يجتمع معهم الولد في إسماعيل، عليه السلام نتكون مثال الأسرة الصالحة يسكنها بواد غير ذي زرع ولما هم بذبحه امتثل إسماعيل عليه السلام لأمر الله سبحانه، وهي سارة الزوجة الأولى تطول عشرتها بغير ولد وهي تحب الإيمان وتسعد به، فتُعِين إبراهيم، عليه السلام، في دعوته، ولما جاءت الملائكة وعرفت أنهم جاءوا لنصرة لوط (ضحكت) استبشارًا بنصر الله لعباده المؤمنين .

وأمثلة الزوجة الكافرة لا ينفعها إيمان زوجها ولو كان نبيًّا مرسلاً: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [ التحريم: 10] .

ومثال الزوجين الكافرين يتعاونان على الباطل يظهر في قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) [ المسد: 1 – 5] .

ومثال الزوجة المؤمنة مع الرجل الذي عتا في الكفر، فامرأة فرعون: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين) [ التحريم: 11] .

وكذلك يتحدث القرآن الكريم عن الحمل بعيسى ويحيى وإسحاق، عليهم السلام، وعن الرضاع والتربية لموسى وإسماعيل، عليهما السلام، ويتحدث عن الأمومة في امرأة عمران، تنذر ما في بطنها لله محررًا، وفي أم موسى يربط الله على قلبها ويوحي إليها .

فاقرأ ما جاء في سورة (آل عمران) من أول قوله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) – حتى قال سبحانه: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) – [ آل عمران: 35 – 47]، وفي الآيات نذر امرأة عمران وولادة مريم، وكفالة زكريا لها، ثم دعاءه ربه: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) [ آل عمران: 38]، واستجابة الله له وبشارة الملائكة، وتعجب زكريا: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [ آل عمران: 40]، ثم بشارة الملائكة لمريم بعيسى، عليه السلام: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) [ آل عمران: 47] .

واقرأ من سورة (مريم) من أولها حتى قاله تعالى: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [ مريم: 34]، وفيه البشارة بيحيى، ثم ولادة عيسى، عليهما السلام، وقول الله تعالى في شأن مريم: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم: 22 – 24]، ثم كلام عيس، عليه السلام، في المهد بقوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [ مريم: 30] .

وفي شأنه البشارة بإسحاق بن إبراهيم من سارة، التي طال عمرها بغير حمل ولا ولادة، فاقرأ في سورة هود: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيد) [ هود: 71: 73] .

أما عن نشأة موسى، عليه السلام، من ميلاده ورضاعه حتى بعثه ونبوته فاقرأ سورة (القصص) من أولها حتى قوله تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) لترى كيف أن الله قدر ولادة موسى في زمان كان فرعون ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) [القصص:40]، وأن الله قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [ القصص: 7]، وقد عرض القرآن العرض في تفصيل جميل مشبع، وقد أجمل ذلك في سورة (طه) في قوله تعالى: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى) [ طه: 38 – 40] .

وفي إسماعيل، عليه السلام، ونشأته يذكر ربنا سبحانه وتعالى في سورة (إبراهيم) عليه السلام: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) [ إبراهيم: 37]، وفي سورة (الصافات) : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم) [ 100 – 107] .

وبعد ؛ فإن الأمثلة للأسرة في القرآن كثيرة وعظيمة، والمعاني من وراء تلك الأمثلة تحتاج إلى أبحاث طويلة، فعلى المسلم أن يتدبر تلك الأمثلة ليأخذ منها العظات والعبر، ويستفيد منها الإيمان والعمل الصالح الذي يرشد العمل ويثلج الصدر، ويذهب الهم والغم، فمن الذي أصيب في ولده وبنيه كما أصيب إبراهيم ونوح ويعقوب، عليهم السلام، ومن لاقى من قومه المشاق كما لاقى موسى ونوح وإبراهيم، عليهم السلام، ومن كابد من المكايد ما كابد يوسف ويعقوب، عليهما السلام، فكل الأنبياء عانوا من كفر أقوامهم، لكنهم كذلك عانوا أصنافًا من المعاندة أو المكايد، بل والكفر من داخل البيوت من الأزواج والأبناء، بل والآباء، ومع ذلك كانت لهم المواقف الإيمانية الكريمة، ولسنا أغلى على الله من هؤلاء، ولا دعوتنا أوضح منهم، ولا لدينا من الإخلاص والتقوى كالتي لديهم، فلنقتدِ بهم في الحجة وبيانها، والدعوة والصبر عليها، والرضا بقضاء الله، والحرص على الصالحات من الأعمال .

والله من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل .