رمضان شهر البر والإحسان، شهر الجود والقرآن، شهر الصيام والقيام، شهرٌ ليله ونهاره متصل بالخيرات.
فيه جادت النفوس، ووجلت القلوب، ولهجت بحمد ربها الألسنة، وسجدت الجباه، وعمرت المساجد، وتمتع الفقير بالمال، حظيت الأرحام بالصلة، وكثرت على القلوب المواعظ، وسعدت الآذان بسماع القرآن وذكر الله كثيرًا.
فماذا بعد أن مضى رمضان والله سبحانه وتعالى يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[البقرة :185] أي أنه بعد العبادة عبادةٌ ، فإذا أفطرت لعذرٍ أيامًا من رمضان فأكمل عدة الأيام صيامًا .
وإذا انقضى رمضان بأيامه فلا يكون في اليوم الذي يليه إلا عيد تكبير الله على هدايته وتوفيقه شكرًا لله على نعمة الصيام ونعمة العيد.
فكما كان الصوم لنا عبادة فالفرح بالعيد والتكبير لنا عبادة .
فبعد أن تهذبت النفوس وتأدبت الأرواح وتطلعت إلى الباري سبحانه، حيث قال عنه نبيه -صلى الله عليه وسلم- : ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) فماذا بعد .
إن الله سبحانه يقول : (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ )[البقرة :185] ويقول سبحانه : (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ )[الشرح : 7] قال ابن عباس وقتادة : إذا فرغت من صلاتك (فانصب) أي بالغ في الدعاء وسَلُه حاجتك ، وقال ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، والله سبحانه وتعالى يقول : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[الجمعة :10] فهذه الصلاة بعدها الذكر .
وقال ابن كثير : ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة :200] .
هذا رمضان شهر الطاعة قد مضت أيامه بصيامها وقيامها وبزكاة الفطر ، فهل تخرجنا في مدرسته وتعلمنا من أدبه لنكون من بعده على عهده فنصوم بعد ستًّا من شوال وثلاثة أيام من كل شهر فيكتب لنا بكل منهما صوم الدهر ؟ .
وهل سنبقى على رفقة الصالحين وعمل الصالحات وهجران السيئات أم ماذا بعد رمضان ؟.
الناس بين الطاعة والمعصية على أربعة أقسام: القسم الأعلى هو الذي يتبع الحسنة الحسنة، يليه الذي يتبع السيئةَ الحسنةَ وهما ممدوحان.
الأول من أهل الفلاح ، والثاني من صاحب رجاء .
أما الثالث الذي يُتبع الحسنةَ السيئةَ فهو مغرور.
والرابع الذي يتبع السيئة السيئة فهو في الفسق والمعاصي مغمور.
أما عن الأول فهو سبيل المفلحين ما يخرج من طاعة إلا ليدخل في الطاعة بعدها؛ فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا.
فإذا عملها قالت الثالثة كذلك وهلم جرا فتتضاعف الأرباح وتتزايد الحسنات حتى تصبح الطاعةُ له صفةً لازمة ومَلَكَة ثابتة ، بحيث لو عطل المحسن الطاعة ضاقت نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأحس في نفسه كما تشعر الأسماك إذا فارقت الماء بضيق لا يهدأ عنها حتى تعود إلى الماء .
وكذلك لا تهدأ نفس هذا العبد حتى يعود إلى الطاعة فتسكن نفسه وتقر عينه ، وهذا من توفيق الله للطائعين ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ) .
وأما الذي يفعل الحسنة بعد السيئة يقول سبحانه وتعالى : ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار )[الرعد :22] ويقول جل شأنه : (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )[القصص :54] ويقول سبحانه : ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ )[هود :114] ويقول عز وجل ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ )[المؤمنون :96] ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( أتبعِ السيئة الحسنة تمحُها ) .
فالراجي هو الذي يخاف من سيئاته فيرجو لها عفوًا فيسرع بالاستغفار والتوبة والعمل الصالح – رجاء الصفح والعفو والمحو – وعلامةُ صحة الرجاء حسن الطاعة ، ولقد أجمع أهل العلم أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل ، والرجاء المحمود قسمان : رجاءُ رجلٍ عمِل بطاعة الله على نور من ربه ، فهو يرجو ثواب الله سبحانه .
ورجاءُ رجلٍ أذنب ذنوبًا ثم تاب منها، فهو يرجو مغفرة الله وعفوه وإحسانه وجوده وكرمه.
ومن أهل العلم من رجح الرجاء الأول، ومنهم من رجح الثاني، وإنما الذي رجح رجاء المذنب التائب رجحه لأن رجاءه مجردٌ من علة رؤية العمل، مقرونٌ بذلة رؤية الذنب.
ورؤية العمل آفة عظمى تصيب الطائع فتوقعه في المعصية فترديه ، أما المفلح فإنه لا يرى لنفسه عملاً إنما يرى فضل الله عليه وتوفيقه له أن أعانه على العمل حيث حُرم العاصي ، فيرى نعمة الله عليه في الطاعة أكبرَ من نعمةِ الله عليه في حواسه وجوارحه وماله ودنياه ، ويرى المذنبَ حُرم ذلك ، ويرى كل شكر له أو طاعة دون أن يؤدي لربه حقه في مقابل نعمة الطاعة ، لذا يكون متصل الطاعات .
أما أخبث المنازل فهي منزلة صاحب المعصية بعد المعصية ، فإن المعاصي تزرع أمثالها ويولِّد بعضُها بعضًا حتى يصعب على العبد مفارقتها والخروج منها ، وكما قال بعض العلماء: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها .
فإذا عمل سيئة نادت أختُها وأنا أيضًا ، والتي تليها فتدفعه النظرة الحرام إلى الكلمة ، والكلمة إلى الخطوة ويجره إلى مرافقة أهل السوء والشرب من شرابهم والأكل من طعامهم ، حتى لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا فتصبح المعاصي له هيئة راسخة وصفة لازمة وملكه ثابتة ، فلو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة استوحشت نفسه وخاف أن ينظر الناسُ له فيروه في مسجدٍ يصلي أو مجلس علم يتفقه .
يضيق صدره وتستوحش نفسه حتى يعود إلى معاصيه ، وإن كثيرًا من الفساق ليفعلون المعصية من غير لذة يجدونها ولا داع يدعو إليها إلا لما يجدونه من ألم مفارقة المعاصي .
وهذا من تخذيل الله للعاصين .
أيها القارىء الكريم مضى رمضان فماذا بعده ؛ وأي الأربعة أنت اليوم بعد رمضان ؟ اختر لنفسك فأحسن الاختيار ، واستعن بالله واعلم أن الله يحب لعبده الفلاح فتزود من رمضان لما بعده ، والله الهادي للصواب .