الحمد للَّه والصلاة والسلام على خير خلقه وإمام رسله وخاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن أصواتـًا ترتفع لإعادة الوجه الفاطمي للقاهرة، وذلك مما يذكر بضرورة بيان ذلك الوجه ومعالم الحكم الفاطمي.
نسب الدولة الفاطمية: ينتسب الفاطميون الذين حكموا المغرب وثبتت دولتهم في مصر زمنـًا طويلاً إلى عبيد اللَّه بن ميمون القداح، والمحققون من أهل العلم على أنه دعيٌ في نسبته إلى جعفر الصادق نسبة كاذبة، وذلك لأمور عدة منها:
أولاً: أن نسب الأشراف خاصة أولاد علي بن أبي طالب، رضي اللَّه عنه، معروف وإن التصق به كثير من الكذبة والدجالين.
ثانيـًا: أن العزيز باللَّه صاحب مصر كتب كتابـًا للأموي صاحب الأندلس هجاه فيه ، فكتب إليه الأموي : ( أما بعد ؛ فإنك عرفتنا فهجوتنا ، ولو عرفناك لأجبناك ) ، فاشتد هذا على العزيز ، وأفحمه عن الجواب ؛ بما يدل على أنه دعيّ .
ثالثـًا: أن المعز لما سأله بعض العلماء أن يظهر لهم نسبه ، قال : غدًا أخرجه لكم ، ثم أصبح وقد ألقى كومـًا من ذهب وقال : هذا نسبي ، ثم جذب نصف سيفه من غمده ، وقال : وهذا حسبي ، من هنا اشتهر في الأمثال : ( سيف المعز وذهبه ) .
رابعـًا: ما ألقي إليه على منبره من شعر جاء فيه :
إنــا سمعنــا نسـبـًا منكــــرًا | يتلــى علـى المنبــر الجامــع | |
إن كنــت فيمـا تـدعي صــادقـًا | فـاذكر أبــًا بعد الأب الـرابــع |
خامسـًا: قول ابن كثير في (( البداية والنهاية )) : ومما يدل على كذبهم قول ابن عمر للحسين بن علي حين أراد الذهاب إلى العراق : لا تذهب إليهم ، فإني أخاف عليك أن تقتل ، وإن جدَّك قد خُيِّر بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا ، وأنت بضعة منه ، وإنه واللَّه لا ينالها لا أنت ولا أحد من خلفك ولا من أهل بيتك ، فهذا الكلام الحسن الصحيح المتوجه المعقول من هذا الصحابي الجليل يقتضي أنه لا يلي الخلافة أحد من أهل البيت إلا محمد بن عبد اللَّه المهدي الذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى ابن مريم رغبة بهم عن الدنيا وأن لا يدنسوا بها وهؤلاء ملكوا مصر مدة طويلة ، فهذه دلالة قوية على أنهم ليسوا من أهل البيت . ( انتهى ) .
مذهبهم : قال ابن كثير : هم خوارج كذبة ، وكان الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار ملحدون زنادقة معطلون للإسلام جاحدون ، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون ، قد عطلوا الحدود ، وأباحوا الفروج ، وأحلوا الخمر ، وسفكوا الدماء ، وسبوا الأبناء ، ولعنوا السلف ، وادعوا الربوبية .
قال الباقلاني : هم قوم يظهرون الرفض(1) ، ويبطنون الكفر المحض .
في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أمر جوهر قائد المعز المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بـ ( حي على خير العمل ) ، وأن يجهر الأئمة بالتسليمة الأولى ، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع وأبواب المساجد .
دخل المعز إلى السرداب فتوارى عن الناس سنة ، ثم عاد ، وفي هذه السنة كانت المغاربة إذا رأوا سحابـًا ترجل الفارس منهم له عن فرسه وأومأ إليه بالسلام ، ظانين أن المعز في ذلك الغمام .
يقول شيخ الإسلام: القرامطة الخارجون بأرض العراق كانوا سلفـًا لهؤلاء القرامطة ، ذهبوا من العراق إلى المغرب ، ثم جاءوا من المغرب إلى مصر ، فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة ، وهم أعظم كفرًا وردة من أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين ، فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء .
وقال شيخ الإٍسلام : في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثـًا عن رسول اللَّه-صلى الله عليه وسلم- فيقتل ، وكانوا ينادون بين القصرين : من لعن وسب فله دينار وأردب، وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة ، بل يتكلم فيها بالكفر الصريح ، وكانوا لا يدرسون في مدارسهم علوم المسلمين .
وقال ابن كثير : الحاكم بأمر اللَّه هو الذي تنسب إليه الفرق الضالة المضلة الزنادقة الحاكمية، وتنسب إليه الدرزية، وهم أتباع هستكر غلام الحاكم ، بعثه إليهم يدعوهم إلى الكفر المحض فأجابوه .
وقال ابن كثير : الحاكم بأمر اللَّه كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله جائرًا ، وقد كان يرجو أن يدعي الألوهية كفرعون أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفـًا إعظامـًا لذكره واحترامـًا لاسمه ، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين ، وأمر أهل مصر إذا قاموا عند ذكره خروا سجدًّا له ، وكانوا يتركون السجود للَّه في يوم الجمعة ويسجدون للحاكم .
أمر أهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرهـًا ، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم وخرب كنائسهم ، ثم عمرها ، وبنى المدارس وجعل فيها الشيوخ ، ثم قتلهم وخربها ، وألزم الناس بغلق الأسواق نهارًا وفتحها ليلاً ، وامتثلوا ذلك دهرًا ، فاجتاز يومـًا برجل يعمل النجارة في أثناء النهار ، فوقف عليه فقال : ألم أنهاكم ؟ فقال : يا سيدي ، لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل ، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار ، فهذا من جملة السهر ، فتبسم وتركه ، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول ، كل ذلك يختبر طاعة العامة له .
وكان يركب حمارًا ويدور في الأسواق، فمن وجده قد غش في معيشته أمر عبدًا أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون لم يسبقه إليه أحد.
كانت العامة تبغضه وتكتب شتمة في الأوراق التي تصل إليه ، ويكتبون في ذلك قصصـًا ، حتى صوروا امرأة من ورق وفي يدها قصة من الشتم واللعن ، فلما رآها ظنها امرأة ، فذهب ناحيتها ، وأخذ القصة من يدها فقرأها ، فرأى ما فيها ، فأغضبه جدًّا ، فأمر بقتل المرأة ، فلما تحققها من ورق ازداد غيظـًا إلى غيظه ، واشتد أمره من الظلم حتى عَنَّ له أن يدعي الربوبية ، فصار قوم من الجهال إذا رآه يقولون : يا واحد ، يا أحد ، يا محيي ، يا مميت ، قبحهم اللَّه جميعـًا .
أعلن الدعوة إلى تأليهه سنة 407 هـ في مساجد القاهرة، وفتح سجلاً تكتب فيه أسماء المؤمنين به ، فاكتتب من أهل القاهرة سبعة عشر ألفـًا كلهم يخشون بطشه ، وسمي بعدها (الحاكم بأمره ) . ( انتهى ) .
فانظر – رعاك اللَّه – لتعلم أن الدولة الفاطمية أصلها من قرامطة الإحساء والقطيف أصحاب الكفريات الذين استباحوا دم الحجيج ، وأنهم انتقل من انتقل منهم إلى العراق ، ثم إلى المغرب، ثم إلى مصر ، ولما نزع القرامطة الحجر الأسود ما أرجعوه إلا بشفاعة العزيز باللَّه بما يبين الصلة بينهم .
فهذا هو الوجه الفاطمي – ما أبشعه – ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم .
كلمة تاريخية مختصرة مما كتبه د . حسين مؤنس : العصر الفاطمي في مصر بدخول جوهر قائد المعز لدين اللَّه الفاطمي الفسطاط في شعبان سنة 358 هـ ، ولكن الخلافة الفاطمية في مصر تبدأ بدخول المعز لدين اللَّه رابع الخلفاء الفاطميين في مدينة الإسكندرية في 4 شعبان سنة 362 هـ ، 30 مايو سنة 973م ، ثم دخوله القاهرة بعد ذلك بشهر ونزوله في القصر الذي بناه له جوهر قائده عندما دخل البلاد قبل ذلك بأربع سنوات ، ولم يطل عمر المعز في مصر ، فقد توفي في 5 ربيع الثاني 365 هـ ، أي أنه حكم مصر سنتين وتسعة أشهر هجرية ، وأثبت فيها أنه أقدر خليفة فاطمي عرفته مصر ؛ لأن الذين جاءوا بعده كانوا أقل منه من كل ناحية ، وعلى أي حال فإن المتواتر في كتب التاريخ أن مصر تحولت من إمارة مستقلة في الظاهر إلى خلافة مستقلة بنفسها ، وأن شعب مصر لم يعترف في قرارة نفسه بتلك الخلافة؛ لأنها كانت شيعية إسماعيلية ، في حين أن الغالبية من أهل مصر كانوا أهل سنة وجماعة .
ولكن الفاطميين لم يكادوا يستقرون في مصر حتى واجهوا عداء القرامطة لهم ، والقرامطة فرقة سياسية دينية شيعية المذهب ، تنسب إلى رجل يسمى حمدان قرمط ، كان من كبار دعاة المذهب الإسماعيلي .
ولم تكن دولة القرامطة دولة بالمعنى الصحيح، ولكنها كانت قوة عسكرية بدوية تستطيع إقلاق راحة الدول المجاورة، وتعتمد في حياتها على الغارات التي تشنها على البلاد المجاورة وتغنم منها وتعود جيوشها إلى مراكزها في الإحساء ، وكان القرامطة أعداء ألدَّاء للدولة العباسية طوال أيامهم، أما علاقتهم مع الفاطميين فكانت علاقة صداقة في أول الأمر، فلما أصبح الفاطميون خلفاء مصر انقلب عليهم القرامطة وأخذوا يشنون الغارات على مصر والشام، وأغاروا على الحجاز ومكة وسرقوا الحجر الأسود، وأخذوه إلى الإحساء، حيث ظل هناك حتى أعادوه إلى مكة بتوسط الخليفة الفاطمي العزيز باللَّه .
وكان الحكم الفاطمي في مصر حكمـًا ناجحـًا مستقرًّا حتى نهاية حكم الحاكم بأمر اللَّه ثالث الخلفاء الفاطميين بمصر 9 رمضان سنة 386هـ حتى 27 شوال 411 هـ ، وبعد ذلك اضطرب الحكم اضطرابـًا شديدًا ، وانتقل السلطان إلى الوزراء ، فأصبحوا المسيطرين الحقيقيين على الدولة ؛ لأن الخلفاء الفاطميين تدهور أمرهم ، عندما نزل الصليبيون أرض الشام ظن وزراء الفاطميين أنهم يستطيعون التعاون معهم على أعدائهم في الشام وانتهزوا فرصة الفوضى عند إغارة الصليبين على الشام واستولوا على بيت المقدس . صعد العزيز يومـًا على المنبر ، فرأى ورقة فيها :
بالظــلم والجــور قد رضينـا |
وليـس بالكفـــر والحماقة |
|
إن كنـت أعطيــت علم الغيب |
فقــل لنـا كــاتب البطاقة |
قال ابن خلكان : وذلك لأنهم ادعوا علم الغيب ولهم في ذلك أخبار مشهورة .
وصلِّ اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.
———
(1) يظهرون الرفض : أي أنهم شيعة .