وجه القاهرة الفاطمي (2)

الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه ومن تبعه

كان حديثنا في الشهر الماضي لمحة نكشف بها اللثام الذي أذهل الناس أحيانـًا فاغتروا بالوجه الفاطمي وهو قبيح، فظنوه حسنـًا، خاصة وقد ساعد على ذلك أمور منها:

أولاً : النسبة المنتحلة التي ادعوها كذبـًا وزورًا من أنهم من نسل فاطمة بنت النبي-صلى الله عليه وسلم- ، فانتقل إليهم جانب من حب المسلمين – خاصة بمصر – لهذه العترة الطاهرة .

ثانيـًا : أنهم زوروا كثيرًا من المساجد ، وانتحلوا فيها الأكاذيب ، فانتسبوا إلى العترة الطاهرة من الحسين وزينب ، وبطول العهد ظن الناس أن هذه النسبة صحيحة ، وهي كذب وبهتان ، فليس من قبر من هذه القبور فيه من يزعمون من جثث هؤلاء أبدًا سواء من مات منهم بمصر ، أم لم يمت بها ، فضلاً عن المخالفة الصريحة للوصايا النبوية الكريمة في تحريم الدفن في المساجد ، أو بناء المساجد على القبور ، أو رفعها وتشييدها ، مما تسبب في إقامة المحافل الشركية ، وانتشار البدع والضلالات ، وجعلت أرضـًا خصبة للخرافات ، أبعدت الناس عن جمال الإسلام وإشراقه .

ثالثـًا : بعد العهد بهذه الدولة وتحول الأزهر من مؤسسة شيعية باطنية إلى معهد علمي سني(1) وبقاء النسبة في بنائه وتأسيسه إليهم ، حتى ظن الكثير أن الفضل يرجع في ذلك إلى الفاطميين .

رابعـًا : أن المسلمين – عن تغافل من عوامهم، وكيد من المنافقين والكافرين والعلمانيين من أعداء الإسلام – لا يقرءون تاريخهم ليتعرفوا على الوجه الصحيح للإسلام ، فيعرفوا من انتسبوا إليه ، فشيدوا دوله ليميزوهم عمن انتسبوا إليه مكيدة وخبثـًا ومكرًا ليهدموه من قلوب أهله، كالباطنية القرامطة التي تفرع منها الفاطميون العبيديون، ثم تفرع منها الدروز والبهرة.

خامسـًا : القاهرة كبرى مدن مصر وعاصمتها – صانها اللَّه – والناس ينسبونها إلى هؤلاء ( المعز ، وجوهر الصقلي )، فيظنون كل مجد وخير فيها إنما هم أصله ! مع أن من جاء بعدهم كصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس هم الذين أزالوا عن مصر والقاهرة الوجه القبيح والأصل الخبيث من القرامطة والباطنية التي لا تحمل إلا الكفر بالإسلام ، والحقد عليه ، فالحمد للَّه الذي أزال ذلك عن مصر، حماها اللَّه وصانها، ورفع لواء الإسلام الحق في كل ربوعها .

سادسـًا : انتشار التصوف المتفرع عن دولة الدراويش التي غطت كثيرًا من البلاد ، حيث دافع أبناؤها عن بدع الفاطميين ، بل كانوا جنودها ، مع أنهم ينسبون أنفسهم في كتبهم إلى أهل السنة والجماعة ، ثم يأتون مخالفات واضحة ، ويحتفلون بمحافل الفاطميين ، مما جعل الكثير يظن فيهم الإسلام ، وينبري للدفاع عنهم .

لذا فإنني أحب أن أكشف عن شخصية مغمورة في التاريخ كانت وراء الوجود الفاطمي بمصر، ألا وهي شخصية الوزير الفاطمي في دولة المعز والعزيز، واسمه يعقوب بن يوسف بن كلس ، ولا أزعم أنني تتبعت تاريخه بفحص بالغ، ولكني رجعت إلى الثقات من المؤرخين مثل : الذهبي ، وابن كثير ، وابن الأثير . وغيرهم ممن اتسموا بالتحقيق والتدقيق، ولم يعتمدوا إلا على كلام وثيق، فوجدت الكلمات يكمل بعضها بعضـًا، ويدل بعضها على بعض، لذا انتخبت من كلامهم سطورًا ليس لي فيها إضافة إلا اليسير الضروري ، وإن كنت خالفت البعض منهم في كلمة، فلقد وافقت غيره لينتظم سياق الكلام ، وأردت بذلك أن أكشف عن عمق أبعد للوجه الفاطمي، وأزيل لثامـًا أكثف من اللثام الذي كشفته في الحلقة الماضية، واللَّه المستعان .

ابن كلس : هو يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن كلس ، يهودي ، ولد ببغداد ، وسافر به أبوه إلى الشام ، فنزل بالرملة وجلس بها وكيلاً للتجار ، فلما اجتمعت الأموال التي للتجار عنده كسرها وهرب إلى مصر ، وقيل : إن أباه هو الذي دفع به إلى مصر ، وكان ذلك في أيام كافور الإخشيدي ، فتاجر معه ، وحمل إليه متاعـًا كثيرًا ، وجعل ينتقل بماله على ضياع مصر ، فكان إذا دخل ضيعة عرف غلتها وارتفاعها وظاهر أمرها وباطنه ، وكان ماهرًا في أشغاله ، لا يُسأل عن شيء من أمورها إلا أخبر به خبرًا مفصلاً ، فذاع أمره ، وخبر كافور خبره ، وعرف ما فيه من الفطنة والسياسة ، فقال كافور : ( لو كان هذا مسلمـًا لصلح أن يكون وزيرًا ) ، فبلغ ابن كلس مقولة كافور ، فطمع في الوزارة ، فدخل جامع مصر في يوم جمعة ، والناس مجتمعون ، وقال : ( أنا أسلم على يد كافور ) ، فولاه ديوانه بمصر والشام ، وكان يشاوره في أكثر أموره ، فلما تنبه له ابن حنزابه – وزير كافور – وعرف أطماعه ، كاد له ، ففر ابن كلس إلى المغرب ، وهو يحمل بين جنبيه أطماعـًا كثيرة ومعارف عن مصر دقيقة ، فكان عينـًا يكشف العورات ويعرف الثغرات .

وفي المغرب وجد جماعة من اليهود كانوا مع المعز لدين اللَّه الفاطمي ، وكانوا أصحاب أمره، فانضم إليهم ، حتى صارت له عندهم منزلة ، واستطاع أن يصل بهم إلى المعز ، فكشف للمعز أمورًا أعجبته ، فعظم عنده ، وهو الذي أشار على المعز وأطمعه في مصر ، وأشار عليه بإرسال جوهر الصقلي إلى مصر يغزوها ليجعلها موطن مُلكه ، ولما جهز جوهر مصر لقدوم المعز ، قدم إليها ومعه ابن كلس وجماعة اليهود ، وكان المعز قد اتخذه وزيرًا وسماه ( الوزير الأجل ) ، فلما مات المعز وأصحابه من اليهود وولي بعده العزيز باللَّه استوزره ، فاستولى على أمر العزيز ، وقام به فعوَّل عليه وفوض إليه أمره . وكان داهية ماكرًا ، واسع الحيلة ، ذا ذكاء وفطنه ، يجيد التملق والمصانعة ، من ذلك أن المعز طلب الذهاب إلى دمشق فسأله ابن كلس عن السبب ، فقال : إني أشتهي القراصيا – نوع من الفاكهة – وهذا موسمها ، فخرج الوزير وأرسل بالحمام الزاجل إلى الوالي بدمشق يأمره أن يرسل القراصيا على أجنحة الحمام ، فجعل في جناح كل حمامة حبة من القراصيا ، وكان الحمام مئات وأطلقها ، فلم تمض ثلاثة أيام على حديث العزيز ، حتى وصل الحمام ، فجمع الوزير ما تحمله في طبق ، وذهب به إلى العزيز وقدمه إليه ، فأعجب به وقال : مثلك يخدم الملوك .

وابن كلس هو الذي أشار على العزيز بإرسال جوهر بجيش إلى دمشق ، فلما انكسر جيش جوهر – كسره ابن فتكين – وأمن الفتكين جوهر الصقلي بعد أن تمكن منه وعاد إلى مصر – أغرى ابن كلس العزيز فخرج بنفسه على جيش أكبر انتهى الأمر بأسر الفتكين – فأحسن إليه المعز وقربه ، فحقد عليه ابن كلس ، ودس إليه السم فمات ، فحزن عليه العزيز وحبس ابن كلس بضعة وأربعين يومـًا ، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ، ثم رأى أنه يحتاجه ، فصفح عنه ، ثم أعاده إلى الوزارة .

وبلغ من دهاء ابن كلس أن قرأ من العلوم النحو والقرآن ، وكان يحضر عنده العلماء ، وألف كتابـًا في فقه الشيعة الباطنية مما سمعه من المعز والعزيز، وكان يعقد مجلسـًا كل يوم جمعة يُقرأ عليه من تأليفه، بل جعل جماعة العلماء يفتون في جامع مصر بما في ذلك التصنيف الذميم .

كان راتبه في السنة مائتي ألف دينار، ولما مات وجد له من المماليك والجند والخدم أربعة آلاف مملوك ، وكفن وحنط بما يساوي عشرة آلاف مثقال، وخلف من الذهب والجوهر والمتاع ما لا يوصف كثرة ، وكانت وصيته للعزيز وهو على فراش الموت: ( سالم الروم ما سالموك، ولا تبق على المفرج بن دغفل متى قدرت عليه ) . فانظر كيف قرب أهل الكفر وحقد على أهل الإسلام .

ولما جاءه العزيز وهو يموت حزن عليه وقال : ( وددت بأنك تباع فأبتاعك بملكي، أو تفتدى فأفديك بولدي ) ، ثم دفنه المعز في داره، وبنى له قبة، وحضر جنازته، وانصرف حزينـًا، وأغلق الدواوين ، وعطل الأعمال أيامـًا ، واستوزر بعده أبا عبد اللَّه الموصلي ، ثم عزله بعد قليل ، ثم استوزر عيسى بن نسطورس النصراني على مصر ، وجعل على الشام منشا اليهودي ، وجرى على المسلمين بذلك شر عظيم ، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه .

تلك لمحة خاطفة عما كان من ابن كلس اليهودي الأصل، وإشارة إلى دوره في نقل الباطنية الخبيثة والفاطمية الحاقدة إلى قلب العالم الإسلامي في مصر والشام.

فراجع أيها القارئ الكريم : (( سير أعلام النبلاء )) للذهبي (جـ16، ص442) ، و(( البداية والنهاية )) لابن كثير (جـ11، ص308) ، و(( العبر )) (جـ3، ص14) ، و(( شذرات الذهب )) (جـ3، ص27) ، و(( وفيات الأعيان )) (جـ7، ص27) ، و(( الكامل في التاريخ )) (جـ9، ص77) ، و(( اتعاظ الحنفا )) (جـ2 ، ص267) وهامشه . ولا تغتر بكتابة مَن كتب من أهل الأهواء ، واللَّه من وراء القصد .

———-

(1) وإن بقيت بعض المخالفات ، إلا أن اللَّه طهره من الشيعية الباطنية .