عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة (متفق عليه) .
الحديث واحد من عدة أحاديث في الصحيحين وغيرهما حدد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المواقيت التي لا يتخطاها من أراد نسكًا (حجًا أو عمرة) إلا وهو محرم.
ومعلوم أن الإحرام : نية ومحلها القلب وتلبية (لبيك عمرة أو لبيك حجًا أو لبيك عمرة وحجًا) واجتناب محظورات .
وهذه المواقيت المكانية خمسة:
الأول : ذو الحليفة : وهو ميقات أهل المدينة وهو المسمى اليوم أبيار علي وهي على بعد ثلاثة عشرة كيلو مترًا من المسجد النبوي وتبعد من مكة مسافة 420كيلو مترًا وهو أبعد المواقيت من مكة .
الثاني : الجحفة : وهي ميقات أهل الشام ومصر بنص أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبعد عن البحر الأحمر عشر كيلو مترات وهي قرية خراب الآن تلي رابغ التي يحرم منها الناس اليوم ورابغ قبل الجحفة بقليل وتبعد عن مكة (186) كيلو مترًا ويحرم منها أهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر والسودان وبلاد المغرب وشمال إفريقيا ومسلمي أوروبا وبعض مدن شمال السعودية .
الثالث : قرن المنازل : ميقات أهل نجد وهي التي تسمى اليوم السيل الكبير وتبعد عن مكة 78كيلو مترًا ويشمل ذلك أيضًا وادي محرم الذي في طريق الهدي بالطائف لأنه من قرن المنازل ويُحرم منه كثير من الحجيج وهو على 75كيلو مترًا من مكة وهذا الميقات يحرم منه حجاج المشرق من نجد وبلاد الخليج والعراق وإيران .
الرابع : يلملم : وهو ميقات أهل اليمن وهو واد عظيم ينحدر من جبال السراة إلى تهامة ومجراه ممتد من الشرق إلى الغرب حتى يصب في البحر الأحمر ويبعد عن مكة 120كيلو مترًا وله طريق قديم يمر بقرية من يلملم اسمها السعدية تبعد عن مكة 92كيلو متر والإحرام من أيهما صحيح وهذا الميقات يمر منه حجاج اليمن وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وحجاج جنوب آسيا .
الخامس : ذات عرق . وهو ميقات أهل العراق وهو منصوص عليه بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على الراجح الذي رجحه جمهور المحدثين وإن قال بعضهم إنه من اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه محاذاة لقرن المنازل لكن الصحيح أنه بنص النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقع شرقي مكة على بعد مائة كيلو متر ولا يوجد اليوم عليها طريق فهي ميقات مهجور .
قال البسام في التيسير: جميع مواقيت الإحرام أودية عظيمة ولذا فإن الاحتياط أن يحرم الحاج أو المعتمر من الضفة التي لا تلي مكة من الوادي لئلا يعتبر متجاوزًا للميقات.
وهذه المواقيت الخمسة لأهلها ولكل من مر عليها من غير أهلها إذا مر بها أو حاذاها وهو يريد الحج أو العمرة لما جاء في الحديث (هن لأهلهن و لكل آت عليهن من غير أهلها لمن كان يريد الحج والعمرة) فإذا سلك الحاج أو المعتمر طريقًا لا يمر بها على أحد هذه المواقيت الخمسة فإن ميقاته هو الموضع المحاذي لأقرب هذه المواقيت .
فمن كان موضعه أقرب لمكة من هذه المواقيت فمهله من حيث أنشأ نية الحج أو العمرة .
أما من قصد من الحجاج أو المعتمرين المسجد النبوي فشد الرحال إلى المدينة قبل حجه أو عمرته فإن ميقاته إذا أنشأ العمرة من المدينة هو ذو الحليفة وليس له أن يؤخره إلى ميقاته الأصلي حيث يمر بالجحفة أو يحاذيها وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم- (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) .
ومن جاوز الميقات بغير إحرام وهو يريد النسك فعليه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه ولا شيء عليه أما إن أحرم بعد أن جاوز الميقات فعليه دم ولو رجع إلى الميقات لأن رجوعه إليه لا يرفع حكم إحرامه مجاوزًا الميقات والله تعالى أعلم .
موضع الإحرام:
لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال : (خذوا عني مناسككم) وهو قد اعتمر في عمرة الحديبية وعمرة القضاء وحج واعتمر في حجة الوداع وأحرم فيها جميعًا من ذي الحليفة دل ذلك على أن الإحرام من الميقات أفضل من التقدم عليه لفعله -صلى الله عليه وسلم- .
ولا يجوز لأحد أن يؤخر الإحرام إلى ما بعد مجاوزة الميقات وإلا لزمه الدم .
والمحرم قبل الميقات ضيق على نفسه ما وسعه الله عليه وقد يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث له في إحرامه .
فإن اغتسل ولبس ملابس الإحرام قبل الميقات لكونه يحاذيه بالطائرة أو الباخرة أو غيرهما فعليه أن يؤجل النية (ومحلها القلب) والتلبية لتكونان عند محاذاة الميقات وبذلك يكون محرمًا من الميقات لا من قبله .
أما إذا خرج المسلم لا يريد حجًا أو عمرة فجاوز الميقات غير محرم ثم بدا له أن يحج أو يعتمر فإنه يحرم من حيث أنشأ نية النسك وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد عزوة حنين اعتمر من الجعرانة ولم يرجع إلى ذي الحليفة وكذلك الكافر إذا أسلم في طريقه الذي تخطى به الميقات أو العبد إذا اعتق في سفر جاوز فيه الميقات وأراد أحدهما الحج أو العمرة فإن إحرامه من حيث أنشأ هذه النية ولا يطالب بالرجوع إلى ميقات (والله أعلم) .
أما من تقدم بإحرامه عن الميقات (بمعنى النية والتلبية واجتناب المحظورات) فنسكه صحيح ولا إعادة عليه ولكنه ترك الأفضل الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يحتج في ذلك بحديث أبي داود (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) لأن الحديث ضعيف ، وكذلك خاص بالمسجد الأقصى فلا يلحق به غيره .
فإذا كان المسلم الذي يريد عمرة وهو في الحرم (مكة) فعليه أن يخرج إلى الحل ويحرم بالعمرة منه وذلك لأن عائشة لما سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العمرة أمر أخاها عبد الرحمن أن يخرج بها إلى الحل فتحرم منه .
فدل ذلك على أن المعتمر لا يحرم بالعمرة من الحرم وإنما يحرم بها من الحل.
وذلك بخلاف الحج فلا يطلب من الحاج وهو بمكة أن يخرج إلى الحل ليحرم منه بالحج والحمد لله على تيسيره لعباده.
العمرة بعد الحج :
قال العلامة ابن باز في التحقيق والإيضاح : ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم أو الجعرانة أو غيرهما وقد سبق أن اعتمر قبل الحج فلا دليل على شرعيته بل الأدلة تدل على أن الأفضل تركه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم لم يعتمروا بعد فراغهم من الحج وإنما اعتمرت عائشة من التنعيم لكونها لم تعتمر مع الناس حين دخول مكة بسبب الحيض (ثم قال) فمن كان مثل عائشة فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج عملاً بالأدلة كلها وتوسيعًا على المسلمين (انتهى) .
أما العمرة في وقت التمتع بين العمرة والحج فلا دليل عليها البتة وفاعلها يظن أنه وقع على القربات التي غابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام وأئمة الهدى (وكفى بهذا الظن إثمًا) .
حكم من أراد دخول مكة بغير نية الحج أو العمرة:
قال الشنقيطي في أضواء البيان بعد ذكر الخلاف في المسألة : أظهر القولين عندي دليلاً : أن من أراد دخول مكة – حرمها الله – لغرض غير الحج أو العمرة أنه لا يجب عليه الإحرام ولو أحرم كان خيرًا له لأن أدلة هذا القول أقوى وأظهر فحديث ابن عباس المتفق عليه : خص فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإحرام بمن أراد النسك وظاهره أن من لم يرد نسكًا فلا إحرام عليه .
وقال البسام في تيسيره : أجمع العلماء على مشروعية الإحرام لمن أراد دخول مكة سواء أكان دخوله لنسك أو غيره ، وأجمعوا على وجوب الإحرام لمن أراد دخوله للنسك .
واختلفوا في وجوبه على من أراد الدخول لغير نسك كدخوله لتجارة أو سكن أو غير ذلك.
من حِكَم المواقيت :
قال الدهلوي في حجة الله البالغة : الأصل في المواقيت أنه لما كان الإتيان إلى مكة شعثًا تفلاً تاركًا لغلواء نفسه مغلوبًا وكان في تكليف الإنسان أن يحرم من بلده حرج ظاهر فإن منهم من يكون قطره على مسيرة شهر وشهرين وأكثر وجب أن يخص أمكنة معلومة حول مكة يحرمون منها ولا يؤخرون الإحرام بعدها ولابد أن تكون هذه المواضع ظاهرة مشهورة لا تخفى على أحد .
وقال البسام: لهذا البيت الحرام التكريم والتعظيم والتقديس والإجلال.
ومن ذلك أن جعل له حدودًا لا يتجاوزها قاصده بحج أو عمرة إلا وقد أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع وتقديس وإجلال عبادة لله واحترامًا لهذا البيت المطهر .
ومن رحمة الله بخلقه أنه لم يجعل له ميقاتًا واحدًا في إحدى جهاته بل جعل لكل جهة محرمًا وميقاتًا لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتًا ليس في طريقهم حتى جعل ميقات من داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة فلا يلزمهم الخروج إلى الحل كفعلهم بالعمرة .
خاتمة:
الحديث مع تحديده للمواقيت فهو من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- حيث ذكر الشام ومصر والعراق منصوصًا عليها مع أنها كلها كانت ديار كفر لم تفتح إلا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا خلاف في ذلك بين أهل السِّير دل ذلك على أنه -صلى الله عليه وسلم- علم أن سيفتح الله تعالى الشام ومصر والعراق وغيرها من الأقاليم .
ملحق:
كلمة المواقيت تطلق ويراد بها المواقيت المكانية وهي الخمسة التي سبق بيانها والتي نص حديث الباب على أربعة منها ويقصد بها أيضًا المواقيت الزمانية وهي المذكورة في قول الله تعالى ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) وهذه الأشهر هي شوال وذو القعدة وتسعة أيام من ذي الحجة وتمتد في اليوم العاشر من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك يعني أن من أحرم من مطلع شوال حتى طلوع الفجر من يوم النحر صح إحرامه للحج بشرط أن يدرك عرفة يوم عرفة ليلاً أو نهارًا من زوال يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر .
ولا يجزئ الإحرام للحج في غير هذه المواقيت والله أعلم .
والله من وراء القصد