أزواجكم وأنفسكم

الحمد لله رب العالمين، خلق الكون فأبدع خلقه، وأحسن تنظيمه وتنسيقه وترتيبه، وجعل فيه النعم الجليلة العالية الكثيرة، وإن من أجَلِّ النعم نعمة الأسرة، التي رعاها الله وحفظها بالفطرة والشرع، فجعلها على خير حال وأفضل مثال.

لذا جعل الله سبحانه الرجل يميل للمرأة بطبيعته ، والمرأة تميل ميلاً فطريًّا للرجل ، وجعل الزواج طريق حفظ النسل وقضاء الحاجة الفطرية ، ومن أجل انتظام الأسرة جاء الشرع بحفظ ذلك ، فمن وسائل هذا الحفظ أمر المرأة بالقرار ، فيكون أصل وجودها في البيت ، فإذا خرجت من بيتها فبحجابها الذي يخفي الزينة منها ، ولا تضرب برجلها عند سيرها لتظهر ما خفي من زينتها ، ولا يبدو منها ريح ، ولا يكون ثوبها زينة في نفسه ولا لباس شهرة ، ثم أمرها بغض البصر عن الرجال الأجانب ، وأمر الرجال بغض البصر عنها رغم حجابها الساتر السابغ عليها ، ونهاها عن الخضوع بالقول إذا تكلمت ، وأمر الرجال عند سؤالها حاجة أن يكون السؤال من وراء حجاب ، كما حرم الخلوة بالأجنبية ، ونهى عن الاختلاط بين الرجال والنساء ، وحرم الدخول على المغيبات ، وحذر من سبل الشيطان في ذلك ، كما حدد المحارم من الأبواب الثلاثة : نسب ، أو مصاهرة ، أو رضاع ، وما وراء ذلك فهن أجنبيات، إلا أن تكون أَمَةً لسيدها .

هذا ولقد امتن الله سبحانه على الإنسان في ذلك فقال سبحانه : ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) [ النحل : 72] .

فهذه الآية الكريمة تظهر منة الله ونعمته في الطيبات ، ومن النعم الطيبات الأزواج من بني آدم ، فتجد المرأة لها من الرجال زوجًا ، ويجد الرجل له من النساء زوجًا ، وإن الإعراض عن ذلك إيمان بالباطل ، وكفران بنعم الله سبحانه ، والآية الكريمة يستفيد منها أهل العلم فوائد نحن نحتاجها في حياتنا كثيرًا ، من هذه الفوائد الجليلة :

أولاً : أن واجب الخدمة في البيت على الزوجة والولد ، وفي ذلك يقول القرطبي في تفسيرها: ( إذا فرغنا من قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم : ( إن الحفدة : الخدم والأعوان ) ، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان ) .

ويقول ابن القيم في ( زاد المعاد ) بعد أن ذكر فصلاً حسنًا في خدمة المرأة للبيت ، الخدمة الباطنة وخدمة الرجل الخدمة الظاهرة قال : ( ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة وفقيرة وغنية ، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها ، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة فلم يُشْكِها ( أي : لم يُعْفِها من الخدمة ) ، انظر ( زاد المعاد ) ( ج5 ص186 ) وما بعدها .

ثانيًا : امتن الله – عز وجل – بأن جعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ، والبنين : هم الذكور ، أما الحفدة : فهم الخدم ، فإن كانوا من الأزواج فالأقرب أن يكونوا هم أولاد الأولاد .

قال القرطبي ( قلت ) : ( ما قاله الأزهري : من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن ، بل نصه ، ألا ترى أنه قال : ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) [ النحل : 72] ، فجعل الحفدة والبنين منهن ) .

قال ابن العربي : ( الأظهر عندي في قوله : ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) [ النحل : 72] أن البنين أولاد الرجل لصلبه ، والحفدة أولاد أولاده ، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا ، ويكون تقدير الآية على هذا : وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة ، قال : معناه حسن . انتهى ) .

لو تدبرت ذكر البنين دون البنات ، وذكر الحفدة مقرون بالبنين ، لتبين لك أن البنات تكون سكناهن حيث أزواجهن ، وأن الحفدة مع البنين في الخدمة وكذلك الأزواج ، دل ذلك على أن الأصل أن تعيش الزوجة مع زوجها حيث أبوه وأمه ليتحقق الاستمتاع بالبنين وأولادهم ( وذلك أمر يحتاج لمزيد بيان لعل الله أن يمكنني من بيانه فيما بعد ) ، لكن الإشارة هذه دعوة إلى بقاء البيوت في ترابطها ( بنين وحفدة ) مع ( الآباء والأجداد ) ، فلا ينفصل الرجل بزوجه عن أبيه وأمه ما دام لذلك مستطاعًا .

ثالثًا : امتنان الله ، عز وجل ، أن : ( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) [ النحل : 72] ينفي ما يزعمه بعض الناس من زواج الإنس من جني ، قال الشنقيطي في ( أضواء البيان ) ( ج3 ص 293 ) : ( لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصًّا يدل على جواز مناكحة الإنس والجن ، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه ، فقوله في هذه الآية الكريمة : (  وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) [ النحل : 72] ممتنًا على بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم ، يفهم منه أنه ما جعل لهم أزواجًا تباينهم كمبيانة الإنس والجن ، وهو ظاهر يؤيده قوله تعالى : ( وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) [ الروم : 21] : فقوله : ( أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) في معرض الامتنان يدل على أنه ما خلق لهم أزواجًا من غير أنفسهم ، جمع منكَّر من سياق الامتنان فهو يعم ، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج لنا فيما هو من أنفسنا – أي : من نوعنا وشكلنا – (  ثم قال ) : ويستأنس لهذا بقوله : ( وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) [ الشعراء : 166] ، فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم وتعديه إلى غيره يستوجب الملام ، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة اللواط ؛ لأن أول الكلام : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ( 165 )وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) [ الشعراء : 165 ، 166] ، فإنه وبخهم على أمرين :

الأول : إيتان الذكور .

والثاني : ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، ودلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم هو الكائن من أنفسهم أزواجًا من نوعهم وشكلهم كقوله تعالى : ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) [ النحل : 72] ، وقوله : ( وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) [ الروم : 21] ، فبعيد أنه يجعل لهم أزواجًا من غير أنفسهم ، والعلم عند الله . ( انتهى  ) .

هذه لمحة دقيقة حول نظام الإسلام في الأسرة، وهو جزء أصيل من نظام الإسلام الكامل الدقيق الذي من عمل به سعد، ومن انحرف عنه ضل وشقي، والله الهادي للصواب وهو من وراء القصد.

والحمد لله رب العالمين.