سبيل النجاة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. 

وبعد:

فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ومع هذا فقد هدَى الله على يديه أمّةً بأسرها، وكان – صلى الله عليه وسلم – يستعمل أساليبَ مختلفةً متنوعة لدعوة أصحابه وتعليمهم، وقد جلس يومًا بين أصحابه، وفي يده الشريفة عصًا، فخط بها خطًّا مستقيمًا على الأرض، وقال: ((هذا صراط الله المستقيم))، ثم خط خطوطًا عن يمينه وخطوطًا عن شماله، وقال: ((وهذه طرق، على رأس كل منها شيطانٌ يدعو إليه))، ثم تلا قول الله – عز وجل -: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ] [الأنعام: 153]. 

ومن هذا البيان نعلم أن الطريق الموصّل إلى الله واحدٌ لا يتعدَّد، هو الصراط المستقيم، وأن كل طريق غيره على رأسه شيطانٌ، فمن عرف الطريق إلى الله معرفةً صحيحة، فقد نجا، ومن انحرف عنه وسلك غيره، فقد ضلَّ ضلالاً بعيدًا.

ولكن كيف نعرف الطريق إلى الله؟ وما علاماته التي تدل عليه؟

إن العلماء يجيبون على هذا السؤال الهام جدًّا، فيقولون: الطريق إلى الله يجتمع في أربع كلمات، من فهمها وعمل بها، فقد استقام على الصراط كما أمره الله:

 فالأولى: أن تعرف ربَّك معرفة صحيحة.

 والثانية: أن تعرف ماذا صنع الله بك.

 والثالثة: أن تعرف ماذا أراد منك.

 والرابعة: أن تعرف كيف تخرج من ذنبك إذا أذنبتَ أو أخطأت.

فأما الكلمة الأولى: أن تعرف الله، فإن العبد يعرف ربَّه معرفةً صحيحة إذا عرَف توحيده معرفة صحيحة، وتوحيد الله هو أصل الإيمان وغايته، وهدفه وثمرته، ويتحقق التوحيد إذا فهمت كيف توحِّد الله ربًّا؟ وكيف توحِّده إلهًا؟ وكيف توحد الله في أسمائه وصفاته؟ 

فأما توحيد الله ربًّا، وهو الذي يسمى توحيد الربوبية، فمعناه المجمل: أن تعتقد أن الله – سبحانه وتعالى – هو ربُّك ورب كل شيء، ولا رب لك غيره، فهو وحده الذي خلق ورزق، وهو وحده الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، وهو الذي أمات وأحيا، وقدَّر وهدى، يدبِّر الأمر، ويقدِّر الخير والشر، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا.

وأما توحيد الله إلهًا، وهو توحيد الألوهية، فمعناه المجمل: أن تعتقد أن الله – جل وعلا – هو إلهك، وإله كل شيء، ولا إله لك غيره، فله وحده نتوجَّه ونعبد، وله – سبحانه – نركع ونسجد، فالصلاة والصيام، والزكاة والحج، والرجاء والخوف، والدعاء والنذر، والاستعانة والاستغاثة، والخشية والإنابة والتوكل، وكل عبادة يفعلها العبدُ لله رب العالمين لا شريك له. 

قال الله – عز وجل -: [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ] [الأنعام: 162، 163].

وأما توحيده في أسمائه وصفاته، فمعناه المجمل: أن تعتقد أن الله – سبحانه – هو الكامل في أسمائه وصفاته، ولا كامل غيره، وهو المنزَّه عن كل نقص، ولا منزه غيره، وهذا يعني أن نصف الله – سبحانه – بما وصف به نفسَه أو وصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم – من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل، وتنفي عن الله كلَّ صفةِ نقصٍ نفاها عن نفسه؛ كقوله: [لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ] [البقرة: 255]، وأن نسكت عما سكت الله عنه.

وأما الكلمة الثانية: أن تعرف ماذا صنع الله بك؟

وهذا السؤال يحتاج إلى تدبُّر وتفكُّر، وهذا الأخير يثمر زيادةَ الإيمان، وقوة اليقين، وقد صنع الله بنا أمورًا كثيرة، من أعجبها: هذه الصورة التي خلقنا الله عليها في أحسن تقويم، ولو أذن الله لنا أن نختار لأنفسنا صورةً نخلق عليها، لعجزنا عن اختيار صورة أجملَ أو أكمل من هذه الصورة، ولو تغيرتْ هذه الصورة عما هي عليه الآن، لعاش الإنسان على الأرض ذليلاً مهينًا شقيًّا، وإلا فماذا تكون الحياة لو خلق الله لك عينًا واحدة في رجلك، أو يدًا واحدة في ظهرك، أو جعلك تمشي على أربع كبعض المخلوقات، أو خلق لك ذيلاً كالحيوانات؟! فتبارك الله أحسن الخالقين.

وكما أن الله قد اختار لنا أحسن صورة، فخلقنا عليها دون أن نكون شاهدين ولا حاضرين، فقد اختار لنا أحسن دينٍ لنعبده به: [يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ][البقرة: 132]، فالذي اختار لنا الصورة، هو الذي اختار لنا الدين؛ فالواجب أن نقرَّ بشريعته، كما شهدنا بجميل صنعته.

ومن عجيب ما صنعه الله بنا أنه – سبحانه – أغلق أبواب المعصية في وجوهنا، فلم يُفتَح منها بابٌ إلا من طريق نعمة من نِعَم الله، فلا يمكن للعبد أن يرتكب معصية أبدًا إلا باستعمال نعمة من نعم الله عليه؛ فمعصية السرقة بنعمة اليد، ومعصية النظر الحرام بنعمة العين، واستماع الحرام بنعمة الأذن، وهكذا، ثم جعل من هذه النعم شهودًا تشهد على صاحبها بين يدي الله يوم القيامة.

والأمثلة على ما صنعه الله بنا كثيرة، لا تدخل تحت عدٍّ ولا حصر، ولكننا نكتفي بما ذكرناه، وننبِّه به على ما تركناه.

وأما الكلمة الثالثة على طريق النجاة الموصل إلى الله: أن تعرف ماذا أراد الله منك؟

فإذا سألتَ نفسك أو سألت غيرك هذا السؤال الهام، فإن معرفة جوابه الصحيح مدخلٌ عظيم إلى طريق النجاة، ويمكن أن نجمل الجواب في كلمات قصيرة قليلة، فنقول: لقد أراد الله منا أن نفعل كل ما أمرنا به، بشرط أن يكون خالصًا صوابًا، وأراد منا أن نجتنب كل ما نهانا عنه، أو إن شئت فقل: أراد منا أن نكون عبيدًا له بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فلا نتقدم ولا نتأخر إلا بإذنه، ولا نسكن ولا نتحرك إلا بأمره، وكلما ازددنا له ذلاًّ زادنا به عزًّا.

وهو القائل – سبحانه -: [كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ] [العلق: 19]، فالسجود غاية الذل لله، والقرب غاية الرفعة والعز.

 والكلمة الرابعة: أن تعرف كيف تخرج من ذنبك وخطيئتك، إذا أذنبت أو أخطأت؟

مما لا شك فيه أن كل بني آدم خطَّاء، وأننا نذنب بالليل والنهار، وأننا بحاجة دائمة إلى مغفرة الله، والله لا يغفر لكل أحد؛ وإنما وصف نفسه – سبحانه – بأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأنه – سبحانه – غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى، فهذه الأربعة: توبة، وإيمان، وعمل صالح، واستقامة، من فعلها فقد وجبت له المغفرة.

وكل ذنب تفعله تحتاج بعده إلى أمرين؛ حتى تتخلص منه:

أن تستغفر الله من هذا الذنب؛ فتقول بعده: أستغفر الله.

ثم تتوب إلى الله؛ والتوبة في حقيقتها: ندم وإقلاع، وعزم على ألاَّ تعود إلى ذلك الفعل القبيح.

وأقبح من الذنب أن تستهين به، فتراه صغيرًا وهو عند الله عظيم.

وبعد، فهذه كلمات أربع جاء الحديث عنها مجملاً، ونترك معرفةَ تفصيلها للقراء الكرام إذا أخذوا بأسباب ذلك من طلب للعلم، وتحصيله بكل طريق مشروع يوصل إليه ويدل عليه، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.