الحمد لله … والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد :
فقد حل بنا شهر كريم ، فرض الله علينا صيامه ، وسن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه .
ويتميز هذا الشهر عما سواه بالحرص من الجميع على الإقبال على الله؛ الطائعين والعاصين على سواء !!
ويختص هذا الشهر بأحداث عظيمة وقعت فيه تحتاج من كل مسلم إلى تذكر وتدبر وتفكر لينتفع بمواضع العبرة ، ويجني بها الثمرة ! ·
فمنها .. بل أهمها على الإطلاق بداية نزول الوحي الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء؛ وقد جلس في خلوته يتعبد، فنزل عليه جبريل عليه السلام بأول كلمة قرآنية، فكانت : ( اقرأ ) ، وهي دعوة إلى العلم الذي يصل العبد بربه وخالقه، ويدرك به الخشية : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [ فاطر : 28 ] ، ويرفع منزلة صاحبه ودرجته : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) [ الزمر : 9 ] ؟ والجواب قطعًا لا يستوون !
وفي بدء نزول القرآن في رمضان على رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو في الغار يتعبد – تنبيه لطيف على أن رمضان هو شهر القرآن ، وأنه شهر العبادة الخاصة ، وأنه شهر الانقطاع إلى الله متمثلاً في الاعتكاف ، وقد اختاره الله لذلك من بين سائر الشهور مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقطع إلى العبادة في غار حراء في غيره من الشهور، فاختيار هذا الشهر علامة على فضله وارتفاع درجته دون غيره . ·
ومن الأحداث التي وقعت في رمضان ( غزوة بدر الكبرى ) وذلك في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة وكان في هذه الغزوة المباركة أول انتصار حاسم للإسلام على الكفر ، وقد ظهر فيها بوضوح مدد الله وتوفيقه لأوليائه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، كما قال الله عز وجل : ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) [ الأنفال : 17 ] .
ولما أخذ المؤمنون بأسباب النصر من صدق الإيمان وحسن التوكل على الله واليقين في وعده : ( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) [ محمد : 7 ] ، والإخلاص وسلامة القلب وإعداد العدة والصبر عند اللقاء ، أقوال : لما أخذ المجاهدون بهذا كله أنزل الله ملائكته إلى ميدان القتال ، ومن يقوى على مواجهة الملائكة !!
وفي ذلك يقول الله عز وجل : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) [ الأنفال : 12 ] .
ولن ينتصر المسلمون على أعدائهم إلا إذا انتصروا على أنفسهم وكبحوا جماحها، وشهر رمضان هو خير معين بعد الله للانتصار على النفس الذي هو طريق النصر على الأعداء !!
ولذلك سمى بعض العلماء جهاد النفس ( الجهاد الأكبر ) ! تنبيهًا على هذا المعنى الجليل ؛ ولم يصح فيه حديث . ·
وفي شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة فرضت زكاة الفطر التي هي طهرة للصائم وطعمة للمساكين ، ومن لطائف أحكامها أنها تجب على من يملك قوت يوم وليلة ؛ وهذا نصابها !وهو ميسور لكل فقير ، وهذا يعني أنها تجب على الفقراء ، فلمن يعطيها الفقير ؟ يعطيها لفقير آخر !
وهو لا يخرج إلا هذه الزكاة فيعتاد على العطاء والجود، وإن كان فقيرًا، ويخرج بها الفقير من بيته ليلة العيد قاصدًا بيت فقير آخر، فيليقاه أخوه الفقير، وقد حمل كل منهما زكاته لصاحبه !! فيتبادلان الزكاة ! إنها درس عملي في العطاء والجود والكرم والسخاء . ·
وفي السنة الخامسة من الهجرة في رمضان كان الاستعداد لغزوة الخندق أو ( الأحزاب ) التي انتصر فيها المسلمون بفضل الله ورحمته بغير قتال ولا معركة سوى مبارزات ومناوشات محدودة : ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) [ الأحزاب : 25 ] .
وفي شهر رمضان كان الفتح الأكبر ( فتح مكة ) ، وكان ذلك في الحادي والعشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة ، وكان هذا الفتح ثمرة جهاد طويل بالسيف واللسان لسنوات طويلة قد تحلى فيها المؤمنون الصادقون بالصبر واليقين .
ولا يتسع المقام هنا لتفصيل هذا الحدث العظيم ، لكن ينبغي على كل صائم وصائمة أن يرجع إلى كتب السنة والسير ليقرأ تاريخ فتح مكة وما وقع فيه من مواقف لينتفع بذلك انتفاعًا عظميًا يعجز القلم عن وصفه ، واللسان عن بيانه . ·
وفي شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة تحطمت بعد فتح مكة رموز الشرك ، وتهاوت الأصنام التي عبدها الناس من دون الله دهورًا طويلة ، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ليهدم إله المشركين الأكبر ( العزى ) !! فهدمها ، وبعث عمرو بن العاص فهدم ( اللات ) ، وبعث سعد بن زيد الاشهلي فهدم ( مناة ) .
وكان ذلك إعلانًا صريحًا بأن القلوب يجب عليها أن تتعلق بالله، ولا تلتفت إلى أحد سواه من الأحياء أو الأموات أو الأصنام أو الأضرحة؛ وهذا هو التوحيد الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ·
وفي شهر رمضان أقبلت وفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلن إسلامها من قبائل شتى وبلاد متفرقة بعد أن أيقنت أن هذا الدين هو الحق من عند الله العزيز الحكيم، وهكذا دخل الناس في دين الله أفواجًا. ·
وفي شهر رمضان المبارك حدثت انتصارات عظمية غير ما ذكرناه لا يتسع المقام لبسطها ، ولعل من أبرزها هذه الانتصارات الرائعة التي أحرزها المجاهد صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين ، وأدركه شهر رمضان منتصرًا وهو صائم في سنة 584 هـ ؛ فأشار عليه رجاله أن يرتاح في شهر الصوم ، فخاف على نفسه من انقضاء الأجل قبل إكمال النصر !!
فواصل زحفه حتى استولى على قلعة ( صفد ) الحصينة في منتصف رمضان من نفس العام . ·
ونحن العرب قد حاربنا إسرائيل في العاشر من رمضان سنة 1393 هـ فكان انتصارنا بقدر إقبالنا على الله ، وكانت هزيمتنا بقدر إعراضنا عن الله !! ولأننا خلطنا أعمالنا السيئة بأعمالنا الصالحة ، وجمعنا في حياتنا بين الطاعة والمعصية ، فقد جمع الله لنا بين حلاوة النصر ، ومرارة الهزيمة : ( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) [ آل عمران : 182 ] .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .