الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسوله الكريم؛ إمام الصائمين والقائمين والعاكفين والصالحين … وبعد :
فقد أظلنا شهر كريم مبارك، كتب الله علينا صيامه، وسن لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قيامه، فيه تفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، من صامه إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم، وقد بارك الله في هذا الشهر، وجعل فيه من الخصائص واللطائف، والعبر ما ليس في غيره من الشهور. فمن لطائفه وعجائبه أنه أسرع قادم، وأسرع ذاهب، فإن شهور السنة – وهي جزء من عمر الإنسان – تمر مرّ السحاب، ولا نشعر بذلك إلا بقدوم رمضان لسرعة عودته بعد رحيله. وهو أسرع ذاهب، لأنه ما أن يبدأ حتى ينتهي، وتمر أيامه ولياليه مرور النسيم تشعر به ولا تراه. وأعجب من ذلك كثرة دموع التائبين التي تنهمر في ليل رمضان كأنها سيل جاري ، أين كانت هذه الدموع الغزيرة عبر شهور كثيرة قد مضت وانقضت ؟ لقد حبستها المعاصي، وسجنها القلب القاسي، ثم أطلقتها التوبة فسالت وانحدرت من مآقيها لتنقذ العين من عذاب الله؛ لأنها بكت من خشية الله؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : [ عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله]
[ رواه الترمذي : 1639 ]
وفي رمضان يقبل المسلمون في المشارق والمغارب على القرآن، في الليل والنهار، ويتنافسون على تلاوته في الصلاة وفي غير الصلاة، يدفعهم إلى ذلك رجاء رحمة الله، والخوف من عذاب الله. كما يختص رمضان دون غيره من الشهور بكثرة التائبين والعائدين إلى الله، فهو شهر توجل فيه القلوب، وتدمع العيون، وتقشعر فيه الجلود، وهذه الصفات الثلاثة كانت ملازمة للجيل الأول في كل شهور العام، كما أن هذه الصفات قد جعلها الله عز وجل علامة صادقة على الإيمان؛ فقال سبحانه وتعالى عن الصفة الأولى : [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ]
[ الأنفال : 2]
وقال في الثانية : [ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ]
[ الزمر : 23]
وقال عن الثالثة :[ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ ]
[ المائدة : 83]
وقد أثمر هذا الإيمان الراسخ، واليقين الكامل عند السلف الصالح مجموعة من الخصال التي يحبها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والتي لا تجتمع أبدًا إلا في مؤمن صادق، ويجمعها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله : [ ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون ].
إنها : قيام ليل ، وصيام النهار، وحزن وندم على التفريط والإسراف على النفس، وبكاء من شدة الخوف، وصمت يحفظ من الزلل، ويدعو إلى التفكر والتدبر، وخشوع محاط بذل العبودية لله رب العالمين. ويجتمع في رمضان من صنوف البر، وأوجه الخير أنواع كثيرة وافرة وكلها أبواب مفتوحة على الجنة، مفضية إلى رضوان الله، ومع كثرة الأبواب ووفرتها فإن المسلم قد يطرق بابًا واحدًا ويغفل عن بقيتها ! فيحرم نفسه ، ويضيع عمره هباءً !! قد يصوم ولا يقوم، أو يقوم ولا يتصدق، أو يتصدق ولا يقرأ القرآن، أو يصوم بطنه ولا تصوم جوارحه، أو يصوم النهار ولا يصوم الليل ! فيمتنع عن الحلال نهارًا ( الأكل والشرب )، ويفطر على المعاصي ليلاً ( الدخان والفيلم )، وإذا غلبك شيطانك في رمضان فإنك لن تغلبه غالبًا في غيره !! إلا أن يشاء الله. ومن أعظم القربات، وأجلّ الطاعات التي غفل عنها الغافلون: تقديم النصيحة للمسلمين، ودعوتهم إلى الخير، وتعليم جاهلهم، وتذكير غافلهم، فإن الدال على الخير كفاعله، وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يرون النصيحة والموعظة أعظم أجرًا، وأبقى نفعًا من الصدقة !!
كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى القرضي : أما بعد : فقد بلغني كتابك تعظني، وتذكر ما هو لي حظ، وعليك حق، وقد أصبت بذلك أفضل الأجر، إن الموعظة كالصدقة، بل هي أعظم أجرًا، وأبقى نفعًا، وأحسن ذخرًا، وأوجب على المؤمن حقًا لكلمةٌ يعظ بها الرجل أخاه ليزداد بها في هدًى رغبةً خيرٌ من مال يتصدق به عليه، وإن كان به إليه حاجة، ولما يدرك أخوك بموعظتك من الهدى خير مما ينال بصدقتك من الدنيا … ولأن ينجو رجل بموعظتك من هلكة خير من أن ينجو بصدقتك من فقر !!
وفي رمضان تقبل الأمة الإسلامية بكل شعوبها على الله إقبالاً لو استقامت عليه لنصرها الله على أعدائها، وأورثها سعادة الدنيا، ونعيم الآخرة ! لكن الواقع يشهد أن كثيرًا من المسلمين يكون مع الطاعات في كرّ وفرّ؛ فهو بين الإقبال والإدبار، فهل من عودة صادقة واغتنام لفرصة سانحة قبل أن تتمنى ساعة واحدة من ساعات الدنيا فلا تُعطاها : [ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا ]
[ المؤمنون : 99 ، 100]
وإن أكثر شيء في الأحياء الغفلة، وأكثر شيء في الأموات الندم على ما فات !
فيا أيها المقبول هنيئًا لك بثواب الله عز وجل ورضوانه، ورحمته وغفرانه، وقبوله وإحسانه، وعفوه وامتنانه. ويا أيها المطرود بإصراره، وطغيانه، وظلمه وغفلته، وخسرانه، وتماديه في عصيانه، لقد عظمت مصيبتك، وخسرت تجارتك، وطالت ندامتك، فأدرك نفسك قبل أن تكون من القائلين [ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ]
[ الفجر : 24]
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا وسائر أعمالنا الصالحات ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه