العلماء .. وقيادة الشعوب

الحمد لله الذي علمّ بالقلم ، علمّ الإنسان ما لم يعلم وصلي الله وبارك وسلم على رسوله الأكرم ، الذي علمّه ربه ما لم يكن يعلم …. وبعد .
فمن المعلوم الذي لا يخفى ، والمذكور الذي لا ينسى أن العلماء هم ورثة الأنبياء ، ولم يكن ميراثهم دينارًا ولا درهمًا وإنما كان علمًا نافعًا .
لكنّ هؤلاء العلماء ليسوا سواء ! فمنهم العلماء الربانيون الذي يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى . يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصّرون بنور الله أهل العمى . فهم للخلق قادة وللعباد أئمة وَسَادة !
ومن العلماء علماء سوء قد فتنهم حب الدنيا والثناء والشرف ورغبت نفوسهم في المنزلة والجاه ، وتعلقت قلوبهم بما في أيدي الناس فرضوا بالحياة الدنيا وأطمأنوا بها ، وباعوا الآخرة بالأولى ! فهانوا على الناس بعد أن كانوا قادة وأصابهم الذل والهوان بعد أن كانوا سادة !
وقد سئل الحسن البصري رحمه الله : (ما عقوبة العالم إذا أحب الدنيا ؟ قال : موت القلب !! فإذا أحب الدنيا طلبها بعمل الآخرة ؛ فعند ذلك ترحل عنه بركات العلم ، ويبقى عليه رسمه ) !  
وإذا أحب العالم الدنيا تقرب إلى أهلها وسعى لها سعيها ، وأجهد نفسه في التقرب إلى الحكام والأمراء بدلًا من التقرب إلى الله ! قال الأعمش رحمه الله : (شر الأمراء أبعدهم من العلماء ، وشرُّ العلماء أقربهم من الأمراء ) !
وأمّا العلماء العاملون فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء ، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب ؛ قال الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) [ النساء :59] . وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : أولو الأمر هم العلماء وفي الرواية الأخرى هم الأمراء .
قال ابن القيم رحمه الله : (والتحقيق أن الأمراء – يعني الحكام – إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ،  فطاعتهم تبع لطاعة العلماء !! فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم . فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول صلي الله عليه وسلم فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء !! ولما كان قيام الإسلام بطائفتى العلماء والأمراء ، وكان الناس كلهم لهم تبعًا ، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين ، وفساده بفسادهما ، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف : صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس ، وإذا فسدا فسد الناس ، قيل من هم ؟ قال : الملوك والعلماء ) ا . هـ من إعلام الموقعين .
ولأجل هذا الذي ذكرناه كان العلماء قديمًا – رحمهم الله – هم قادة الشعوب وسادة الناس ، تلتف حولهم القلوب ، وتقف وراءهم الصفوف ، ويرجع الناس إليهم في النوازل ، والنوائب ، ويصدر الحكام عن رأيهم في العوائد والشدائد ! قد علتهم الهيبة والوقار بفضل اتباعهم للسنة ، والآثار .
ونسوق إليك أيها القارئ الكريم موقفًا يجلِّى هذه الحقيقة ، وحوارًا يضئ قلوب المؤمنين ، ويوقظ النائمين والغافلين ّ!
قال الزهري رحمه الله : قدمت على عبد الـملك بن مروان فقال : من أين قدمت يا زهري ؟ قلت : من مكة . قال : فمن خلفت بها يسود أهلها ؟ قلت : عطاء بن أبي رباح . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت : من الموالي . قال : وبم سادهم ؟ قلت : بالديانة والرواية . قال : إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قال قلت : طاوس بن كيسان . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت : من الموالي . قال : وبم سادهم ؟ قلت : بما سادهم به عطاء . قال : إنه لينبغي . قال : فمن يسود أهل مصر ؟ قال قلت : يزيد بن أبي حبيب . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قال قلت : مكحول . قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت : من الموالي عبد نُوبي أعتقته امرأة من هُذيل . قال فمن يسود أهل خراسان ؟ قال قلت : الضحاك بن مزاحم . قال : فمن العرب أم من الموالي قال قلت : من الموالي . قال فمن يسود أهل البصرة ؟ قال قلت : الحسن بن أبي الحسن . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت : من الموالي . قال : ويلك ! فمن يسود أهل الكوفة ؟ قال قلت : إبراهيم النخغي . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت : من العرب . قال : ويلك يا زهري ! فرجت عني ، والله لتسودَن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها . قال قلت : يا أمير المؤمنين ! إنما هو أمر الله ودينه ، من حفظه ساد ومن ضيعه سقط . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ؟