الحمد للَّه على كل حال ، ونسأل اللَّه حسن المآل .. وبعد :
يقول اللَّه تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155- 157 ] .
ولقد مات إمام أهل السنة والجماعة ، علاّمة هذا العصر ومجدد هذا الزمان سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز ، ونحن لا نقول إلا ما يرضي ربنا : { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } .
وموت العلماء مصيبة لا تجبر ! وثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار .
وذلك لأن العلماء هم مفاتيح الجنة ؛ لأنهم يدلون الناس عليها بما يعلمونهم من الهدي ويحثون عليه من العمل الصالح ، وهم خلفاء الأنبياء ؛ لأنهم يبلغون رسالاتهم من بعدهم ، وهم ورثتهم ؛ لأن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمـًا ، وإنما ورّثوا العلم .
وعالمنا وإمامنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كان من هؤلاء العلماء – نحسبه كذلك – فقد آتاه اللَّه الحكمة ، فكان يقضي بها ويعلمها ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا ؛ والحكمة – كما قال الإمام مالك – هي الفقه في دين اللَّه ؛ وهو منزلة عالية قال فيها أبو هريرة رضي اللَّه عنه : ( لأن أجلس ساعة فأفقه في ديني أحب إليَّ من أن أحيي ليلة إلى الصباح ) .
وقد كان – رحمه اللَّه – في جهاد دائم بلسانه لا ينقطع ؛ وقد ذكر ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رجلاً سأله عن الجهاد ؛ فقال : ألا أدلك على خير من الجهاد ؟ فقلت : بلى . قال : تبني مسجدًا وتعلم فيه الفرائض والسنة والفقه في الدين .
كما كان – رحمه اللَّه – زاهدًا في الدنيا معرضـًا عنها ؛ مقتديـًا في ذلك بالصحابة رضي اللَّه عنهم ؛ فقد ورد أنه لما حضرت معاذ بن جبل رضي اللَّه عنهم الوفاة قال لجاريته : ويحك هل أصبحنا ؟ قالت : لا ، ثم تركها ساعة ، ثم قال : أنظري . فقالت : نعم ، فقال : أعوذ باللَّه من صباح إلى النار ، ثم قال : مرحبـًا بالموت ! مرحبـًا بزائر جاء على فاقة ! لا أفلح من ندم ، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجرى الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل ، ولظمأ الهواجر في الحر الشديد ، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر(1) .
وكان العلاّمة ابن باز – رحمه اللَّه – يجمع بين العلم والعمل ، وقليل من العلماء في زماننا من يفعل ذلك !
وقديمـًا كتب رجل من الصالحين إلى أخ له يقول له : ( إنك قد أوتيت علمـًا فلا تطفئ نور علمك بظلمات الذنوب ؛ فتبقى في ظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم إلى الجنة ) !
ومع ذلك أنه – رحمه اللَّه – كان أعلم أهل الدنيا في عصره ؛ فقد كان يطلب العلم ، ويمضي أوقاتـًا طويلة في السماع والقراءة عليه والإملاء ؛ وفي هذا حثّ عظيم للخطباء والدعاة والوعاظ على الاستمرار في طلب العلم والمثابرة على ذلك ؛ فإن العلم لا يثبت ولا يزيد إلا بهذا .
وقد قيل لابن المبارك : إلى متى تطلب العلم ؟ قال : حتى الممات إن شاء اللَّه ! وسُئل سفيان بن عيينة : من أحوج الناس إلى طلب العلم ؟ قال : أعلمهم ؛ لأن الخطأ منه أقبح .
ونقل ابن عبد البر عن بعض العلماء قوله : ( لا تزال عالمـًا ما كنت متعلمـًا ؛ فإذا استغنيت كنت جاهلاً ) !
والعلماء – وحدهم – هم الذين يعرفون فضل العلم ، وعظيم منزلته ، ولذلك فهم يحثون طلبة العلم دائمـًا على تحصيله ، مع الصبر والمصابرة والمرابطة في طلبه ؛ وإلا فلن يدركوه إلا قشورًا لا تسمن ولا تغني من جوع .
وكان الإمام مالك رضي اللَّه عنه يقول : ( إن هذا الأمر – يعني العلم – لن ينال حتى يذاق فيه طعم الفقر ) !! وذكر ما نزل بشيخه ربيعة من الفقر في طلب العلم حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم ! وحتى كان يأكل ما يلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر !!
وهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رضي اللَّه عنهما يقول : ( لقد طلبنا هذا العلم وطلبه معنا من لا نحصيه كثرةً ، فما انتفع به منا إلا من دبغ اللبن قلبه !! وذلك أن أبا العباس لما أفضى إليه الأمر بعث إلى المدينة فأقدم إليه عامة من كان فيها من أهل العلم ؛ فكان أهلنا يعدون لنا خبزًا يلطخونه لنا باللبن ! فنغدو في طلب العلم ، ثم نرجع إلى ذلك فنأكله ؛ فأما من كان ينتظر أن تصنع له هريسة أو عصيدة فكان ذلك يشغله حتى يفوته كل ما كنا نحن ندركه ) !!
ولأجل هذا قال العلماء : من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبدًا .
وقد بقيت كلمة أخيرة تتعلق بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه اللَّه رحمة واسعة – وهي علاقته بحكام المسلمين ؛ فلقد كان – رحمه اللَّه – يقوم بواجبه في هذا الباب خير قيام لا يسبقه إليه ولا يساويه فيه أحد من علماء عصره ؛ ولقد قالوا قديمـًا : الملوك حكام على الناس ، والعلماء حكام على الملوك !
وكانت علاقة هذا الإمام العلاّمة بالحكام تقوم على ثلاث ركائز :
الأولى : الدعاء لهم بالتوفيق والهداية والبطانة الصالحة .
الثانية : بذل النصيحة لهم سرًا دون فضيحة ولا تشهير .
الثالثة : أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر .
فكان بذلك أبعد الناس عن مداهنة الحكام ونفاقهم كما يفعل كثير من علماء العصر ، نسأل اللَّه السلامة .
وكان أيضـًا لا يصطدم بالحكام ولا يشهر بهم ولا يثير الناس عليهم ولا يحرك الفتن ضدهم ولا ينشر خطأهم على الملأ ، كما يفعل بعض علماء العصر ، نسأل اللَّه السلامة .
وإنما كان يلتزم منهج أهل السنة والجماعة في نصيحة الحكام وكيفية الإنكار عليهم ، ولعلنا ننشر نموذجـًا تطبيقيـًا لذلك في العدد القادم بإذن اللَّه .
وكان – رحمه اللَّه – يتأسى في ذلك بمن سبقه من علماء الأمة والسلف الصالح ؛ فإنهم كانوا يقيمون الحجة على الحكام ، ويسوقون الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة من نصوص الشريعة ، فلا يملك الحكام عند ذلك إلا الإذعان والتسليم .
وهذا الإمام الشعبي يذكر مثالاً لذلك فيقول : كنت عند الحجاج بن يوسف الثقفي ، فأتي بيحيى بن يعمر فقيه خراسان من بلخ مكبلاً بالحديد . وقال له الحجاج : أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : بلى ، فقال الحجاج : لتأتيني بها واضحة بينة من كتاب اللَّه ، أو لأقطعنك عضوًا عضوًا ، فقال : آتيك بها واضحة بينة من كتاب اللَّه يا حجاج ، قال : فتعجبت من جرأته بقوله : يا حجاج ، فقال له : ولا تأتني بهذه الآية : { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } [ آل عمران : 61 ] ، فقال : آتيك بها واضحة من كتاب اللَّه ، وهو قوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاودَ وَسُلَيْمَانَ – إلى قوله :- وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى } [ الأنعام : 84، 85 ] ، فمن كان أبو عيسى ، وقد ألحق بذرية نوح . قال : فاطرق مليـًا ، ثم رفع رأسه وقال : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب اللَّه ، حلوا وثاقه ، وأعطوه من المال كذا .
والشاهد من هذه الحكاية حيث استدل العالِم الفقيه على أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب اللَّه تعالى ؛ إذ عد اللَّه تعالى عيسى من ذرية نوح لكون أمه مريم عليها السلام من ذريته ، فكذلك الحسن والحسين من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أمهما فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم .
نسأل اللَّه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرحم الشيخ العلاّمة عبد العزيز بن باز .
وأن يسكنه فسيح جناته ، ويتجاوز بمنّه وكرمه عن زلاته .
وأن يجمعنا به في أعلى عليين مع الذين أنعم اللَّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وحسن أولئك رفيقـًا .
وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
———
( 1 ) أي في حلق العلم ؛ لقوله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .