الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأصلي وأسلم على خير خلقه وخاتم أنبيائه، وإمام رسله نبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
هناك بيوع نهى الشارع عنها، من هذه البيوع:
1- بيع الإنسان ما ليس عنده:
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق ثم أبيعه ؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تبع ما ليس عندك).
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وحسنه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7206).
أخرجه الإمام أحمد بالأرقام (3/402: 15311، 15312، 15313، 15315)، وأبو داود برقم (3503)، والترمذي برقم (1232)، والنسائي برقم (4617)، وابن ماجه برقم (2187).
أولاً: شرح الحديث
قوله: (يسألني من البيع ما ليس عندي): قال السندي في تعليقه على سنن النسائي: أي يسألني من المبيع، فالبيع بمعنى المبيع، كالصيد بمعنى المصيد.
وقوله: (أبتاع له من السوق؟) بتقدير همزة الاستفهام ؛ أي أأبتاع له من السوق؟ بمعنى أأشتري له من السوق. قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: ومقصود السائل: أنه هل يبيع ما ليس عنده ثم يشتريه من السوق، ثم يسلمه للمشتري الذي اشترى له.
وقوله: (قال: لا تبع ما ليس عندك). أي شيئًا ليس في ملكك حال العقد.
قال البغوي في شرح السنة: قال الإمام: هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات. والمقصود ببيوع الصفات بيع السَّلَم، وهو مستثنى من بيع ما لا يملك الإنسان.
ثانيًا: حديث آخر في نفس المعنى
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يحل سلفٌ وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربحُ ما لم يَضْمَن، ولا بيع ما ليس عندك). أخرجه الإمام أحمد بأرقام (2/175، 179، 205: 6628، 6671، 6918)، والترمذي، وصححه وأخرجه ابن ماجه مختصرًا.
ومعنى: (لا يحل سلف وبيع) السلف يطلق على السَّلَمِ وعلى القرض، والمراد به هنا شرط القارض، كأن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تقرضني عشرين، أو نحوها، وقيل: صورته: أن يقرضه قرضًا ويبيع منه شيئًا بأكثر من قيمته فإنه حرام لأن قرضه رَوَّجَ سِلْعَتَهُ، وقيل غير ذلك.
ومعنى قوله: (ولا شرطان في بيع) فسره الإمام أحمد بأن يقول: أبيعك هذا الثوب وعليَّ حياكته وقصارته، فإن قال: عليَّ حياكته جاز، وإن قال وعليَّ قصارته جاز. وفسره غيره بالبيعتين في بيعة. وقد فسر البيعتين في بيعة الإمام الشافعي: بأن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا. وفسره الترمذي بأن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة , وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس، ومعنى قوله: (ولا ربح ما لم يضمن). يريد به الربح الحاصل من بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه. وأما قوله: (ولا تبع ما ليس عندك) فقد سبق شرحه.
2- بيع ما لم يقبضه:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أما الذي نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه ويستوفيه).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله). وفي رواية: (حتى يُسْتَوْفَى).
أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري في موضعين من صحيحه ؛ الأول برقم (2132)، والثاني برقم (2135)، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (1525)، وأبو داود برقمي (3496، 3497)، والترمذي برقم (1291)، والنسائي بأرقام (4601- 4602- 4603 – 4604)، وابن ماجه برقم (2227)، والإمام أحمد في المسند بأرقام 1/356، 368، 369، وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري بأرقام (2124- 2126 – 2133 – 2136)، ومسلم برقم (1526)، وأبو داود بالأرقام (3492، 3493، 3494، 3495، 3498)، والنسائي بأرقام (4599 – 4600 – 4601)، وابن ماجه برقم (2226)، والإمام أحمد بأرقام (2/46 – 59 – 73 – 108 – 111)، وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه مسلم في صحيحه برقم (1529).
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم في صحيحه برقم (1528)، والإمام أحمد برقم (2/337).
شرح الأحاديث
ترجم الإمام البخاري لحديثي ابن عباس وابن عمر: (باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك). وقال الحافظ في الفتح: لم يُذْكَرْ في حديثي الباب بيع ما ليس عندك وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض، ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ: قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي، أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق ؟ فقال: (لا تبع ما ليس عندك). قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين ؛ أحدهما أن يقول: أبيعك عبدًا أو دارًا معينة وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر ؛ لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها، ثانيهما أن يقول: هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها. اهـ.
قال الحافظ: وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني.
وأما الإمام مسلم فترجمةُ صحيحِهِ لهذه الأحاديث الأربعة: (باب بطلان بيع المبيع قبل القبض).
أخذ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح الحديثين فقال: قوله عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أما الذي نهى عنه).. إلخ، أي: وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك.
وقوله: (فهو الطعام أن يباع حتى يُقْبَضَ). وفي رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه).
قوله: (قال ابن عباس لا أحسب كل شيء إلا مثله)، ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: (وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام). وهذا من تفقه ابن عباس، ثم قال الحافظ: وقول طاوس في الباب قبله: (قلت لابن عباس: كيف ذاك ؟ قال: ذاك دارهم بدارهم والطعام مُرْجأٌ. معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم. ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم: قال طاووس: قلت لابن عباس: لم ؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مُرْجَأٌ) أي: فإذا اشترى طعامًا بمائة دينار مثلاً ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا وقبضها، والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارًا. وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا أحسب كل شيء إلا مثله). ويؤيده حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم). أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان. ثم نقل عن القرطبي قوله: وقد أخذ بظاهر هذه الأحاديث مالك فحمل الطعام على عمومه، وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وسحنون وابن حبيب بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مُشْتَرًى، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل، واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يضمن). أخرجه الترمذي. قال الحافظ: قلت: وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة.
قال: وفي صفة القبض عند الشافعي تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل عادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به.
تفصيل المذاهب في ما لم يُقبض
جاء في (الموسوعة الفقهية) ما ملخصه:
1- مذهب الشافعية، وهو قول أبي يوسف الأول، وقول محمد، وهو أيضًا رواية عن الإمام أحمد أنه لا يصح بيع المبيع قبل قبضه، سواء أكان منقولاً أم عقارًا، وإن أذن البائع وقبض الثمن، وذلك لحديث حكيم بن حزام وحديث عبد الله بن عمرو وحديث زيد بن ثابت المتقدم ذكرها. وعلل الشافعية النهي عن البيع قبل القبض بضعف الملك قبل القبض ولانفساخ العقد بتلفه.
وعلل الحنابلة بأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كما لو كان غير متعين.
2- مذهب الحنفية أنه لا يصح بيع المنقول قبل قبضه، ولا يفرق الحنفية في ذلك بين الطعام وغيره من المنقولات، وذلك لقول ابن عباس – كما تقدم – ولا أحسب كل شيء إلا مثله، أي مثل الطعام، ويعضد قول ابن عباس رضي الله عنهما ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ابتعت زيتًا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني فيه ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده (أي أقبل إيجابه وأتفق على العقد)، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم).
وأجاز الشيخان- أبو حنيفة وأبو يوسف – بيع العقار قبل قبضه استحسانًا.
3- مذهب المالكية أن المُحَرَّمَ المُفْسِدَ للبيع هو بيع الطعام دون غيره من جميع الأشياء قبل قبضه سواءٌ أكان الطعام ربويًا كالقمح أم غير ربوي كالتفاح عندهم، وذلك أخذًا بظاهر حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ولغلبة تغير الطعام دون سواه، ولكن مالكًا اشترط شرطين لفساد هذا النوع من البيع:
أ- أن يكون الطعام مأخوذًا بطريق المعاوضة أي في مقابلة شيء بخلاف ما كان هبة أو ميراثًا.
ب- أن تكون المعاوضة بالكيل أو الوزن أو العدد.
4- مذهب الحنابلة فيه روايات متعددة في الممنوع بيعه قبل قبضه. سبق بعضها وهي ما وافق مذهب الشافعية، وفي رواية أخرى قصر المنع على الطعام كمذهب المالكية لكن على تعميم المنع لبيع الطعام بلا شرطٍ خلافًا لمالك الذي اشترط شرطين لمنع بيع الطعام. وفي رواية ثالثة أن ما كان متعينًا – كالصبرة تباع من غير كيل – يجوز بيعها قبل قبضها، وما ليس بمتعين – كقفيز من صُبْرَةِ، أو رطل من زَبْرَةِ حدِيدٍ – فإنه لا يجوز بيعها حتى تكال أو توزن. ففي هذه الرواية توسع بالزيادة على الطعام. اهـ. باختصار.
قال ابن عبد البر: على هذا سائر الفقهاء بالعراق والحجاز، وهو قول مالك، لو كانت السلعة طعامًا لم يختلف قوله في ذلك ؛ لأنه باع طعامًا ليس عنده قبل أن يستوفيه، وكأنه حمل نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يَضْمَنْ، وبيع ما ليس عندك على الطعام بتعين، وشك في غير الطعام. والله أعلم.
وحمله عشرةٌ من العلماء على العموم في بيع ما ليس عند البائع، وهو الأحوط، وبالله التوفيق.
أقول: وعلى ذلك فإن بعض من يملكون مالاً يذهب بعض الناس ويقول لأحدهم بعْ لي سلعة كذا – ثلاجة أو سيارة أو غير ذلك – مما ليس عنده فيبيعه، ويعقد معه الصفقة ويتممها بالتقسيط، ثم يذهب معه لشرائها من التاجر، ويسلمها له، فيكون بذلك باع نقودًا بنقود – كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما مع الزيادة، وهذا هو الربا بعينه، أو أنه بعد ما يتم الصفقة معه يدفع له ثمن السلعة ويقول له: اذهب واشترها من التاجر الفلاني. فيكون قد أعطى من أراد السلعة نقودًا واستردها نقودًا بالزيادة، وهذا هو الربا. وقد مضى قول الفقهاء أن هذا نوع تحايل على أكل الربا.
وللخروج من هذه المخالفات ؛ يمكن لمن يبيع هذا النوع من البيع: أولاً ألا يعقد الصفقة مع المشتري قبل أن يشتري السلعة (ليخرج من بيع ما ليس عنده ومن ربح ما لم يضمن).
وثانيًا: يشتري السلعة من التاجر أو المصنع أو غيرها ويحوزها في ملكه، ثم يبيعها بعد ذلك بشروط البيع التي منها حرية المشتري في أن يقبل شراءها أو يعدل عن الشراء، فيخرج بذلك من النهي عن بيع ما لم يقبض.
فإذا توفر هذان الأمران: عدم إتمام البيع قبل شراء السلعة، ثم نقل السلعة إلى حوزته فإن البيع حينئذ يكون صحيحًا لا مخالفة فيه إن شاء الله.
والتزام أوامر الشرع ونواهيه فيه مصلحة العباد والبلاد.
ولقد رأينا حرص الصحابة على النصح وعلى التناصح فيما بينهم، وعلى تعليم الأمة أمر دينها والتزامهم شرع الله التماسًا لبركة الله تعالى، وحرصًا على طيب الكسب وعدم أخذه إلا من حله، والابتعاد عن كل ما نهى عنه الشرع، وهذا من نصر دين الله، فإن الأمة إذا نصرت الله نصرها، وإن أعرضت عن شرع الله فليس لها إلا المعيشة الضنك في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
3- بيع الغرر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحَصَاةِ وعن بيع الغَرَرِ.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في باب (بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر) برقم (1513)، وأبو داود في باب (في بيع الغرر) برقم (3376)، والترمذي في باب (ما جاء في كراهية بيع الغرر) برقم (1230)، والنسائي في باب (بيع الحصاة) برقم (4522)، وابن ماجه في باب (النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر) برقم (2194)، وأخرجه برقم (2195) عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/436، 496).
شرح الحديث
أما الغرر فمعناه – كما قال في النهاية -: هو ما كان له ظاهر يَغُرُّ المشتري وباطن مجهول، ونقل عن الأزهري قوله: بيع الغرر: ما كان على غير عهدة ولا ثقة، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما النهي عن بيع الغرر فإنه أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ولهذا قدمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق – أي العبد الهارب من سيده – والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهمًا (والصُّبْرَةُ معناها: الكُومَةُ من الطعام)، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه (أي دون تعيين)، ونظائر ذلك، فكل هذا بيعه باطل ؛ لأنه غَرَرٌ من غير حاجة، قال: وقد يحتمل (أي يُعفى عن) بعض الغرر تبعًا إذا دعت إليه حاجة كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها اللبن، فإنه يصح البيع ؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير ؛ منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجُبَّة المحشوة وإن لم يُرَ حَشْوُها، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز (وكذا كل لباس له حشو باطني غير ظاهر يجوز بيعه دون رؤية الحشو)، قال: وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين يومًا، وأجمعوا على جواز دخول الحمام (للاستحمام) بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء.
ثم قال: قال العلماء: مدار البطلان بسبب وجود الغرر، والصحة مع وجوده على ما ذكرناه، وهو أنه: إن دعت الحاجة إليه إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرًا جاز البيع، وإلاَّ فلا.
قال: وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده ؛ كبيع العين الغائبة مبني على هذه القاعدة، فبعضهم يرى أن الغرر حقير فيجعله كالمعدوم فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع، والله أعلم.
قال الإمام الترمذي عقب هذا الحديث: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس. قال المباركفوري في التحفة: أما حديث ابن عمر فأخرجه البيهقي وابن حبان، قال الحافظ: إسناده حسن، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه وأحمد، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى، وفي الباب أيضًا عن سهل بن سعد عند الدارقطني والطبراني، وعن علي عند أحمد وأبي داود، وفي الباب أحاديث أخر ذكرها الحافظ في التلخيص الحبير، والعيني في شرح البخاري.
وقال الترمذي أيضًا: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم ؛ كرهوا بيع الغرر. اهـ.
واعلم أن الكراهة هنا للتحريم وليست للتنزيه. كما مر بك في شرح النووي الذي سقناه في قوله: وكل هذا بيع باطل. والتحريم يقتضي البطلان، وكذلك البطلان يقتضي التحريم.
وقد بوب البخاري في الصحيح: باب بيع الغرر وحَبَلَ الحَبَلَةِ.
قال الحافظ في الفتح بعد أن ضبط (حبل الحبلة)، وتكلم عليه من حيث اللغة، قال: ولم يذكر – أي البخاري – في الباب بيع الغرر صريحًا، وكأنه أشار إلى ما أخرجه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني نافع، وابن حبان من طريق سليمان التيمي عن نافع عن ابن عمر قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر، وقد أخرج مسلم النهي عن بيع الغرر من حديث أبي هريرة، وابن ماجه من حديث ابن عباس، والطبراني من حديث سهل بن سعد، ولأحمد من حديث ابن مسعود رفعه: (لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر)، وشراء السمك في الماء نوع من أنواع الغرر، ويلتحق به الطير في الهواء، والمعدوم والمجهول والآبق، ونحو ذلك.
أنواع الغرر
قال النووي: واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حَبَل الحَبَلَة وبيع الحصاة وبيع عَسْبِ الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة في النهي عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهي عنها لكونها من بيوع الجاهلية المشهورة، والله أعلم.
من أنواع الغرر
أ- بيع الحصاة:
وفيه حديث أبي هريرة وهو حديثنا هذا، ومعنى بيع الحصاة كما قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث؛ قال: فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو: بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. أي ويرمي الحصاة فتقع في مكان معين فيكون مكان وقوعها حدًا لما يبيعه من الأرض.
والثاني: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي بهذه الحصاة. أي أنت بالخيار في قبول البيع أو رده إلى أن أرمي بهذه الحصاة فيكون رميها نهاية للخيار وملزمًا بالبيع.
والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعًا فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مبيع منك بكذا.
ب- بيع الملامسة:
وفيه حديث أبي سعيد: ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الملامسة. قال: والملامسة لمسُ الثوب لا ينظر إليه، وهو في الصحيحين جزء من حديث البخاري (2144)، ومسلم حديث (1512). وفيه أيضًا حديث أبي هريرة في الصحيحين أيضًا برقم (2146) البخاري، وبرقم (1511) في مسلم. والمقصود بالملامسة أن يلمس المشتري الثوب ونحوه ولا يقلبه ليعرف كنهه، بل يجعل اللمس باليد قائمًا مقام النظر والرؤية. قال النووي: ولأصحابنا في تفسيره ثلاثة أوجه: أحدها: تأويل الشافعي رحمه الله وهو أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول صاحبه: بعتكه ؛ هو بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ولا خيار لك إذا رأيته.
والثاني أن يجعلا نفس اللمس بيعًا، فيقول إذا لمسته فهو مبيع لك. والثالث: أن يبيعه شيئًا على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس وغيره. وهذا البيع باطل على التأويلات كلها.
جـ- بيع المنابذة:
وفيه حديث أبي هريرة برقمه السابق في الصحيحين وكذا حديث أبي سعيد بالرقم نفسه في الصحيحين. ونص فيهما: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الملامسة والمنابذة.
وقد مضى تفسير الملامسة، وأما المنابذة فقال النووي: وفي المنابذة ثلاثة أوجه أيضًا: أحدها أن يجعلا نفس النبذ بيعًا وهو تأويل الشافعي، والثاني: أن يقول بعتك فإذا نبذته إليك انقطع الخيار ولزم البيع، والثالث: المراد نبذ الحصاة، كما مر في تفسير بيع الحصاة.
د- بَيْعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ:
وفيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع حَبَلِ الحبَلَةِ، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية ؛ كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تُنْتَجَ الناقة ثم تُنْتَجُ التي في بطنها.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح، والحَبَل أي الحَمْلُ، والحبلة جمع حابِل مثل ظالم وظلمة وفاجر، وفَجَرَة، وكاتب وكتَبَة، واختلف العلماء في المراد بالنهي عن بيع حبَل الحبَلَة، فقال جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها. قال النووي: وقد ذكر مسلم – وكذا البخاري – في هذا الحديث هذا التفسير عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهما، وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال، أي بيع الجنين في بطن أمه، وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبي عبيدة القاسم بن سلام وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو أقرب إلى اللغة (أي بيع الجنين في بطن أمه)، لكن الراوي وهو ابن عمر قد فسره بالتفسير الأول، وهو أعرف. ومذهب الشافعي ومحققي الأصوليين أن تفسير الراوي متقدم إذا لم يخالف الظاهر. وهذا البيع باطل على التفسيرين، أما الأول فلأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، والأجل يأخذ قسطًا من الثمن، وأما الثاني فلأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك للبائع وغير مقدور على تسليمه، والله أعلم.
هـ- بيع المجهولات والمعدومات وغير المقدور على تسليمها:
وذلك كبيع السمك في الماء، إذا كان الماء كثيرًا غير شفاف لا يرى مقدار السمك الذي فيه، أو أن يكون المشتري غير قادر على اصطياد هذا السمك والحصول عليه.
وكذلك بيع الطير في الهواء، وبيع العبد الآبق أو الحيوان الشارد الذي لا يقدر على تسليمه، وكذلك بيع جزء من كومة طعام دون تعيين أو كيل أو وزن، ومنه بيع ثوب من ثياب دون تحديد ما يريد شراءه أو بيعه، وبيع حيوان من قطيع دون تعيين ما يباع، فكل هذا مما فيه جهالة وغرر لا يجوز بيعه، والله أعلم.
4- البيع على بيع أخيه:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يبيع بعضكم على بيع أخيه). أخرجه البخاري في الصحيح بأرقام (2139، 2165، 5142)، وأخرجه مسلم برقمي (1412، 1514)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها).
وهذا الحديث أخرجه البخاري بأرقام (2140، 2148، 2150، 2151، 2160، 2162، 2723، 2727، 5144، 2152، 6601). كما أخرجه مسلم بأرقام (1413، 1515، 1520).
شرح الحديث
بوب الإمام البخاري لهذين الحديثين: باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن أو يترك.
وقال الحافظ في الفتح: أشار بالتقييد (حتى يأذن أو يترك) إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو ما أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث بلفظ: (لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له). وقوله: (إلا أن يأذن له): يحتمل أن يكون استثناءً من الحكمين كما هو قاعدة الشافعي، ويحتمل أن يختص بالأخير. ويؤيد الثاني رواية المصنف في النكاح من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ: (نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)، ومن ثم نشأ خلاف بين الشافعية: هل يختص ذلك بالنكاح أو يلتحق به البيع في ذلك ؟ والصحيح عدم الفرق. وقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر).
قال الحافظ: وترجم البخاري أيضًا بالسوم، ولم يقع له ذكر في حديثي الباب، وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه أيضًا، وهو ما أخرجه في الشروط من حديث أبي هريرة بلفظ: (وأن يستام الرجل على سوم أخيه). وأخرجه مسلم في حديث نافع عن ابن عمر أيضًا.
وذكر (المسلم) لأنه أقرب إلى امتثال الأمر من غيره، وفي ذكره إيذان بأنه لا يليق به أن يستأثر على مسلم مثله.
وقوله: (ألا يبيع) قال الحافظ: كذا للأكثر بإثبات الياء على أن (لا) نافية، ويحتمل أن تكون ناهية وأشبعت الكسرة فتولدت الياء كقراءة من قرأ: (إنه من يتقي ويصبر) ويؤيده رواية الكشميهني بلفظ: (لا يبع) بصيغة النهي.
وقوله: (بعضكم على بيع أخيه). كذا أخرجه عن إسماعيل عن مالك. وظاهر التقييد بالأخ أن يختص ذلك بالمسلم، وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد بن حربويه من الشافعية، وأصرح من ذلك رواية مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: (لا يسوم المسلم على سوم المسلم). وقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين المسلم والذمي. وذكر الأخ خرج للغالب، فلا مفهوم له.
قال الحافظ: قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة (في زمن الخيار)، أن يقول له: افسخ البيع لأبيعك بأنقص من ذلك. أو يقول لمن باع سلعة: افسخ لأشتري منك بأزيد. وهذا مجمع على تحريمه. أقول: وكثيرًا ما يحدث مثل ذلك في زماننا بل يحدث ذلك بعد إتمام البيع فيؤدي ذلك إلى إفساد العلاقات بين المسلمين، فتجد التاجر أو غيره يرى في يد الرجل سلعة قد اشتراها فيسأله: بكم اشتريت هذه السلعة ؟ فإذا أخبره بثمنها قال له: عندي أرخص من ذلك، لو رددتها إلى البائع لبعتك إياها بأنقص من ذلك، وذلك بعدما تم البيع وانصرف المشتري من محل البائع وقد تمت الصفقة، وكثيرًا ما يثير هذا من المشاجرات والخلافات ما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
قال: وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئًا ليشتريه فيقول له: رده لأبيعك خيرًا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استَرِدَّهُ لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما للآخر فإن كان ذلك صريحًا فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهرًا – أي مظنونًا – ففيه وجهان للشافعية. ونقل ابن حزم الركون عن مالك، وقال: إن لفظ الحديث لا يدل عليه، وتُعقب بأنه لا بد من أمر مبين لموضع التحريم في السوم، لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد (أي في المزاد) لا يحرم اتفاقًا كما نقله ابن عبد البر. فتعين أن السوم المحرم هو ما وقع فيه قدر زائد على ذلك.
هذا وقد استثنى بعض الشافعية من تحريم السوم والبيع على الآخر ما إذا لم يكن المشتري مغبونًا غبنًا فاحشًا، وبه قال ابن حزم، واحتج بحديث: (الدين النصيحة)، لكن لم تنحصر النصيحة في البيع والسوم، فله أن يعرفه أن قيمتها كذا، وأنك إن بعتها مغبون من غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين. وذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله، وعند المالكية والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظاهر، والله أعلم.
وبعد: فإن كثيرًا من الناس – إلا من رحم الله – لا يبالون في تجارتهم وبيعهم وشرائهم بحلال أو حرام، فلا يسأل عما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عما أباحه، غير عابئ بما أحل الله وما حرم، والواجب على من يعمل في تجارةٍ أن يعرف حكم الله سبحانه وتعالى وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يتعامل في تجارته، ولقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمنع من لا يعرف أحكام المعاملات من دخول سوق المدينة.
ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته ألا يبالي المرء من حيث كسب المال، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام). وأخرجه الإمام أحمد في المسند وكذا النسائي.
قال الحافظ: قال ابن التين: أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا تحذيرًا من فتنة المال، وهو من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- لإخباره بالأمور التي لم تكن في زمنه.
7- بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها:
أ- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع.
هذا الحديث متفق عليه، أخرجه الإمام البخاري في ستة مواضع من صحيحه ؛ فأخرجه بالأرقام (1486، 2183، 2194، 2199، 2247، 2249)، وأخرجه الإمام مسلم برقم (1534).
ب- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، فقيل له: وما تزهي ؟ قال: “حتى تَحْمَرَّ”. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟”.
هذا الحديث متفق عليه أيضًا ؛ أخرجه الإمام البخاري في خمسة مواضع من صحيحه بالأرقام (1488، 2195، 2197، 2198، 2208)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم (1555).
جـ- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تباع الثمرة حتى تُشْقِحَ. فقيل: وما تشقح ؟ قال: تَحْمَارُّ وتَصْفَارُّ ويؤكل منها.
د- وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبايعون الثمار، فإذا أَجَذَّ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدُّمَّان، أصابه مُرَاض، أصابه قُشامٌ- عاهات يحتجون بها- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: “فإمَّا لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر” كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم، قال أبو الزناد: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا، فيتبين الأصفر من الأحمر.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في موضع واحد في باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها برقم (2193).
شرح الأحاديث
أولاً: المفردات التي في هذه الأحاديث:
يبدو: أي يظهر، الثمار: جمع ثمرة، قال الحافظ في الفتح: وهي أعم من الرطب وغيره. المبتاع: المشتري. تزهو: أي تصير زَهْوًا: وهو الأحمر أو الأصفر من ثمر النخل، ويكون في المرحلة التي بين البلح “الأخضر” وبين الرُّطب.
تُشْقِحُ: من أشْقَحَ ثمر النخل إذا احْمرَّ أو اصْفَرَّ. تحمارُّ وتصفارُّ: قيل المراد بداية التلون باللون الأحمر والأصفر. وأنكر هذا بعض أهل اللغة وقال: لا فرق بين تحمر وتصفر وتحمار وتصفار. قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في احمرارها واصفرارها، كما تقرر أن الزيادة تدل على التكثير والمبالغة.
الدُّمَّان: بفتح أوله، وقيل: بالضم، قال القاضي عياض: وهما صحيحان، وقيل: الأَدَمان، وفسره بأنه فساد الطلع وتعفنه وسواده، وعن الأصعمي: الدمال باللام: العفن. وقال القزار: الدمان فساد النخل قبل إدراكه، وإنما يقع ذلك في الطلع، قال الحافظ: ووقع في رواية يونس الدمار بالراء بدل النون وهو تصحيف كما قال عياض: ووَجَّهَهُ غيره بأنه أراد الهلاك، كأنه قرأه بفتح أوله.
مُرَاضٌ: قال الحافظ: هذا في رواية الكشمهيني والنسفي، ولغيرهما “مَرَضٌ”، فأما مِرُاضٌ فبكسر أوله للأكثر، وقال الخطابي: بضمه، وهو اسم لجميع الأمراض بوزن (الصُّدَاع- والنِّعال)، وهو داء يقع في الثمرة فتهلك، يقال: أَمْرَضَ إذا وقع في ماله عاهة، وزاد الطحاوي في روايته: “أصابه عَفَنٌ”.
قُشَامٌ: زاد الطحاوي في روايته: “والقُشَامُ شيء يصيبه حتى لا يرطب، وقال الأصمعي: هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بَلَحًا، وقيل: هو أُكَالٌ يقع في الثمر.
عاهات: جمع عاهة، وهو بدل من المذكورات قبله، والعاهة: العيب والآفة، والمراد بها هنا ما يصيب الثمر مما ذكر.
فإمَّالا: أصلها إنْ الشرطية وما زائدة فأدغمت. وهي مثل قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}، فاكتفى بلفظه عن الفعل، وهو نظير قولهم: من أكرمني أكرمته ومن لا فلا، أي: ومن لم يكرمني لم أكرمه.
والمعنى: إن لم تفعل كذا فافعل كذا.
قوله: “كالمشُوْرة”: بضم الشين وسكون الواو، وبسكون الشين وفتح الواو ؛ لغتان، قال الحافظ: وزعم الحريري أن الإسكان من لحن العامة، وليس كذلك، فقد أثبتها صاحب الجامع وصاحب الصحاح، وصاحب المحكم وغيرهم.
قوله: “حتى تطلع الثريا” أي: مع الفجر، وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا قال: “إذا طلع النجم صباحًا رفعت العاهة عن كل بلد”. وفي رواية عن عطاء عن أبي هريرة: “رفعت العاهة عن الثمار”. قال الحافظ: والنجم هو الثريا، وطلوعها صباحًا يقع في أول فصل الصيف عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار. فالمعتبر في الحقيقة النضج، وطلوع النجم علامة له. وقد بينه في الحديث بقوله: “حتى يتبين الأصفر من الأحمر”.
وروى أحمد من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة: سألت ابن عمر- رضي الله عنهما- عن بيع الثمار، فقال: “نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، قلت: ومتى ذلك ؟ قال: حتى تطلع الثريا”.
ووقع في رواية ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة عن أبيه: “قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع خصومة، فقال: ما هذا ؟” فذكر الحديث، فأفاد مع ذكر السبب وقت النهي.
ثانيًا: المعنى الإجمالي لهذه الأحاديث:
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا النوع من البيع ؛ وهو بيع الثمار قبل بدو صلاحها، لأنها قبل ذلك تكون معرضة للآفات والعاهات التي تصيبها فيصبح فيها نوع من الغرر، ومِنْ أكل أموال الناس بالباطل، وقد حرص الإسلام على إبقاء الألفة والمودة بين الناس ومنع الخصومات والمنازعات بينهم، وعلى ألا يأكل بعضهم مال أخيه بالباطل، فلذلك نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البائع والمشتري، فأما البائع فلئلا يأكل مال المشتري بالباطل إذا وقعت جائحة فاجتاحت الثمرة فبأي حق بأكل مال أخيه ؟ وأما المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد أخاه البائع على الباطل، ومقتضى النهي الذي في هذه الأحاديث جواز بيع الثمار بعد بدو صلاحها مطلقًا سواء اشترط الإبقاء أم لم يشترط ؛ لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدًا إلى غاية بدو الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن العاهة وتغلب السلامة فيثق المشتري بحصولها، فحينئذ يقبل على الثمرة وهو مطئمن بحصول عوضه عن المال الذي يدفعه للبائع، وبمثل هذه الأحكام تتبين محاسن الشريعة الإسلامية التي هي شرعة رب العالمين لعباده، فقد شرع سبحانه ما فيه مصلحة العباد ومنافعهم.
ثالثًا: الأحكام التي في هذه الأحاديث:
1- لا يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها، فإن بَدَا صلاحها جاز بيعها، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وعن أبي حنيفة إنما يجوز بيعها قبل بدو صلاحها حيث لا يشترط إبقاءها في الشجر، فإن شرط لم يصح البيع.
2- اختلف السلف في بدو الصلاح:
أ- هل المراد به جنس الثمار بحيث لو بدا الصلاح في بستان من البلد مثلاً جاز بيع ثمرة جميع البساتين وإن لم يَبْدُ الصلاح فيها ؟ إلى هذا ذهب الليث بن سعد، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح متلاحقًا.
ب- أو المراد بدو الصلاح في كل بستان على حدة. وهو قول أحمد بن حنبل.
جـ- أو المراد بدو الصلاح في كل جنس على حدة، وهو قول الشافعية.
د- أو المراد بدو الصلاح في كل شجرة على حدة، وهو قول للإمام أحمد أيضًا.
3- فإن بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها ثم تلفت بجائحة أو عاهة فيرجع المشتري على البائع بالثمن.
4- وإن بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها، ثم أصابتها عاهة فلا يحل للبائع أن يأخذ الثمن، وذلك لحديث جابر عند مسلم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟”.
رابعًا: بم يعرف بدو الصلاح ؟
ذكر الشافعية ثماني علامات يعرف بها بدو الصلاح:
أحدها: اللون في كل ثمر مأكول ملون إذا أخذ في حمرة أو سواد أو صفرة كالبلح والعناب والمشمش.
ثانيها: الطعم ؛ كحلاوة القصب وحموضة الرمان.
ثالثها: النضح واللين كالتين والبطيخ.
رابعها: القوة والاشتداد كالقمح والشعير.
خامسها: الطول والامتلاء كالعلف والبقول.
سادسها: الكِبَرُ كالقثاء بحيث يؤكل.
سابعها: انشقاق أكمامه كالقطن والجوز.
ثامنها: الانفتاح كالورد.
وقد وضع له كل من الأحناف والمالكية والحنابلة ضابطًا، اختلفت في ألفاظها، وفي طولها وقصرها، ولكن مؤداها أن تصلح الثمرة لتناول بني آدم، وعلف الدواب فيتنفع بها.
وبعد ؛ فإن كثيرًا من تجار الفاكهة يتبايعون الثمر وهو زهر على الشجر، مخالفين بذلك أحكام الشرع فيخسر الواحد منهم لما يصيب الثمرة من التلف، وقد تأتي ريح عاصفة فتنزل الزهر من الشجر فيقلُّ الثمر أو ينعدم بعد أن اشتراه، فتكون خسارته بالغة، والبائع قد باع ولا يرد إلى المشتري شيئًا بحجة أن البيع قد تم عن تراضٍ، وأن البائع لم يجبر المشتري على شراء سلعته، فالله المستعان.
وقد يزيد بعض التجار على ذلك فيشتري ثمر البستان لعدة سنوات، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك ؛ ففي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- : نهى عن بيع السنين. أخرجه مسلم برقم (1536).
والمراد به أن يبيع ما سوف تثمره شجرة البائع سنتين أو ثلاثًا أو أكثر، وذلك لما فيه من الغرر، وهو أَوْلى بالمنع من بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
فنسأل الله تعالى أن يهدي المسلمين عامة والتجار خاصة وأصحاب الثمار والزروع إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ؛ وذلك بتمسكهم بأحكام دينهم بالأخذ بما أحل الله تعالى والابتعاد عما نهى عنه الله ورسوله، ليسعدوا في الدنيا والآخرة.
8- النجش في البيع
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النَّجْشِ.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في موضعين من صحيحه أولهما في كتاب البيوع باب النجش برقم (2142)، والثاني في كتاب الحيل باب ما يكره من التناجش برقم (6963)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في البيوع برقم (1516)، وأخرجه كذلك النسائي في البيوع برقمي (4502، 4509)، وابن ماجه برقم (2173).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “لا تناجشوا”.
هذا الحديث أخرجه أبو داود في باب النهي عن النجش برقم (3438)، وأخرجه الترمذي في ما جاء في كراهية النجش برقم (1304)، والنسائي في باب بيع المهاجر للأعرابي برقم (4496)، وفي باب بيع الحاضر للبادي برقم (4501)، وباب النجش برقمي (4510- 4511)، وابن ماجه في ما جاء في النهي عن النجش (2174).
شرح الحديثين
قال الإمام الترمذي عقب روايته حديث أبي هريرة رضي الله عنه: وفي الباب عن ابن عمر وأنس، وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا النجش، وقال: والنجش أن يأتي الرجل الذي يبصر السلعة إلى صاحب السلعة فيستام بأكثر مما تَسْوَى، وذلك عندما يحضره المشتري، يريد أن يغتر المشتري به، وليس من رأيه الشِّري، إنما يريد أن ينخدع به المشتري بما يستام، وهذا ضرب من الخديعة.
وأما الإمام البخاري فتحت باب النجش قال: ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : “الخديعة في النار، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”. ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قال الحافظ في الفتح: قوله: “باب النَّجْشِ” هو في اللغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد، يقال: نَجَشْتُ الصيدَ أَنْجشُه نَجْشًا، وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة، فإن وقع ذلك بعلم البائع فهما مشتركان في الإثم، وإن وقع بغير علمه فالإثم خاص بالناجش، وقد يختص به البائع وذلك إذا أخبر أنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك. اهـ بتصرف.
قوله: “ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، قال الحافظ: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق من طريق عمر بن عبد العزيز “أن عاملاً له باع سَبْيًا فقال له: لولا أني كنت أزيد فَأُنَفِّقُهُ لكان كاسدًا، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل، فبعث مناديًا ينادي: إن البيع مردود وإن البيع لا يحل. قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك، والمشهور عن الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسًا على المصراة، والأصح عند الشافعية صحة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفية.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: النجش أن يَحْضُرَ الرجلُ السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السُّوَّام فيُعْطُون بها أكثر مما كانوا يُعْطُون لو لم يسمعوا سومه، فمن نجش فهو عاص بالنجش إن كان عالمًا بالنهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نجش عليه. اهـ. من الفتح.
قوله: “وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن”. قال الحافظ: هذا طرف من حديث أورده المصنف (أي البخاري) في الشهادات، في باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً}، ثم ساق فيه من طريق السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: أقام رجلٌ سلعته فحلف بالله لقد أعطى فيها ما لم يعط فنزلت. قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربًا خائن.
قال الحافظ: وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش في الشرع بما تقدم. وقيد ابن عبد البر وابن العربي وابن حزم التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل، قال ابن العربي: فلو أن رجلاً رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشًا عاصيًا، بل يؤجر على ذلك بنيته، وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، وفيه نظر ؛ إذ لم تتعين النصيحة في أن يوهم أنه يريد الشراء وليس من غرضه، بل غرضه أن يزيد على من يريد أن يشتري أكثر مما يريد أن يشتري به، فللذي يريد النصيحة مندوحة عن ذلك أن يعلم البائع أن قيمة سلعته أكثر من ذلك، ثم هو باختياره بعد ذلك، ويحتمل ألا يتعين عليه إعلامه بذلك حتى يسأله لحديث: “دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه”. والله أعلم.
قوله: “وهو خداع باطل لا يحل”. قال الحافظ: هو من تفقه المصنف وليس من تتمة كلام ابن أبي أوفى.
قوله: (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : الخديعة في النار، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد” قال الحافظ: أما الحديث الثاني فسيأتي موصولاً من حديث عائشة في كتاب الصلح، وأما حديث: “الخديعة في النار” فرويناه في الكامل لابن عدي من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “المكر والخديعة في النار” لكنت من أمكر الناس، وإسناده لا بأس به.
أقول: إن كثيرًا من المسلمين يعدون المكر والخديعة في البيع والشراء الآن من المهارة في التجارة، وأن التاجر الماهر هو الذي يستطيع أن يبيع سلعته بأكثر مما تستحق، وذلك بطرق شتى أكثرها المخادعة والمخاتلة والحلف الكاذب الماحق للبركة، فيا ليت التجار يتعلمون أحكام الشرع ويرضون بالحلال الطيب، ويبتعدون عن كل ما نهى عنه الشرع، ففي ذلك سعادة الدارين.
9- بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نسيئة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تبيعوا الذهبَ بالذهب إلا مِثلاً بِمِثلٍ، ولا تُشِفُّوا بَعْضَها على بَعْضٍ، ولا تبيعوا الوَرِقَ بالوَرِقِ، إلاَّ مِثلاً بمثلٍ، ولا تُشِفُّوا بَعْضَها على بعضٍ، ولا تبيعوا منها غائبًا بِنَاجِزٍ”.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب البيوع بالأرقام (2176، 2177، 2178)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة باب الربا برقم (1584)، وبرقم (1596)، وأخرجه أيضًا الترمذي في البيوع باب ما جاء في الصرف برقم (1241)، وأخرجه النسائي في السنن في كتاب البيوع باب بيع الذهب بالذهب برقمي (4574- 45759).
شرح الحديث
في هذا الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، وكذلك الوَرِق- وهو الفضة- حكمها حكم الذهب لاتباع الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، وقوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض” أي: لا تزيدوا بعضها على بعض، فإن الشِّفَّ هو الزيادة، وقد يطلق على النقصان فهو من ألفاظ الأضداد، والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم واقع الآن في مجتمعات المسلمين، فإن الشخص يذهب إلى تاجر الذهب، فيعطيه الذهب القديم ليزنهُ ثم يأخذ ذهبًا جديدًا مقابل القديم مساويًا لوزنه، ويدفع له فرق السعر، وهذا ربًا ظاهر، وذلك يتناول جميع أنواع الذهب جيده ورديئه، والصحيح منه والمكسور، وما كان حليًا أو تبرًا أو غير ذلك، وكذا يشمل الخالص والمخلوط، وكذا الحكم في الفضة سواءً بسواءٍ.
وللخروج من هذه الصورة الربوية المحرمة: يمكن أن يبيع الشخص ذهبه القديم للتاجر ويقبض الثمن فينهي هذه الصفقة، ثم إن أراد أن يشتري بثمنه ذهبًا جديدًا فليعقد صفقة جديدة.
وهذه الصورة هي التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لمن اشترى له صاعًا من التمر الجيد بصاعين من تمر رديء: “بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبًا” (متفق عليه).
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل”. قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والوَرِق من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلي وتبر وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره، وهذا كله مجمع عليه.
وقال: قوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز”، المراد بالناجز الحاضر، وبالغائب المؤجل، وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلاً، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا، أما إذا باع دينارًا بدينار كلاهما في الذمة، ثم أخرج كل واحد الدينار، أو أرسل من أحضر له دينارًا من بيته، وتقابضا في المجلس فيجوز بلا خلاف عند أصحابنا، لأن الشرط ألاَّ يتفرقا قبل أن يتقابضا وقد حصل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية التي بعد هذه: “ولا تبيعوا شيئًا غائبًا منه بناجز إلا يدًا بيد”.
وقال الحافظ في الفتح: وقوله: “ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز”، والمراد بالغائب أعم من المؤجل، كالغائب عن المجلس مطلقًا مؤجلاً كان أم حالاً، والناجز الحاضر، قال ابن بطال: فيه حجة للشافعي في قوله: من كان له على رجل دراهم ولآخر عليه دنانير لم يجز أن يُقَاصَّ أحدهما الآخر بماله ؛ لأنه يدخل في معنى بيع الذهب بالورق دينًا، لأنه إذا لم يجز غائب بناجز فأحرى أنْ لا يجوز غائب بغائب، وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع ؛ أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: “لا بأس به إذا كان بسعر يومه ولم تفترقا وبينكما شيء”. فلا يدخل في بيع الذهب بالورق دينًا. واستدل بقوله: “مثلاً بمثل” على بطلان البيع بقاعدة (مُدّ عجوة) وهو أن يبيع مُدَّ عجوةٍ ودينارًا بدينارين مثلاً، وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد عند مسلم في رد البيع في القلادة التي فيها خَرَزٌ وذَهَبٌ حتى تفصل، وفي رواية أبي داود فقلت: إنما أردت الحجارة، فقال: “لا، حتى تميز بينهما”.
قال الحافظ في الفتح: وقد وقع لأبي سعيد مع ابن عمر رضي الله عنهم في هذا الحديث قصة، ووقعت له فيه مع ابن عباسٍ قصة أخرى، فأما قصته مع ابن عمر فانفرد بها البخاري من طريق سالم، وأخرجها مسلم من طريق الليث عن نافع، ولفظه: “إن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليثي حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الوَرِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل”. الحديث. فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه، فقال: أَبْصَرتْ عيناي وسَمِعَتْ أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل”. الحديث. ولمسلم من طريق أبي نضرة في هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد أن ابن عمر نهى عن ذلك بعد أن كان أفتى به لما حدثه أبو سعيد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قصة أبي سعيد مع ابن عباس رضي الله عنهم فتستبين من الرواية الآتية لحديث أبي سعيد:
عن عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم مثلاً بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى. فقلت له: إن ابن عباس يقول غير هذا. فقال: لقد لقيت ابن عباس فقلت: أرأيت هذا الذي تقول أشيء سَمِعْتَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله عز وجل ؟ فقال: لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أجده في كتاب الله. ولكن حدثني أُسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الربا في النسيئة” هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري فقال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولكن أخبرني أسامة… الحديث.
قال الحافظ في شرح هذا الحديث وفي الجمع بينه وبين حديث أسامة:
قوله: “كلَّ ذلك لا أقول” هو في المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين: “كل ذلك لم يكن”، فالمنفي هو المجموع، وفي رواية لمسلم من طريق عطاء، وفيها: أما رسول الله فأنتم أعلم به مني، وأما كتاب الله فلا أعلمه” أي: لا أعلم هذا الحكم فيه، وإنما قال لأبي سعيد: أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني. لكون أبي سعيد وأنظاره كانوا أَسَنَّ منه وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وفي السياق دليل على أن أبا سعيد وابن عباس متفقان على أن الأحكام الشرعية لا تطلب إلا من الكتاب والسنة.
وقوله: “لا ربا إلا في النسيئة”. هذه رواية البخاري، ولمسلم: “الربا في النسيئة”. وفي رواية له: “إنما الربا في النسيئة”. وفي رواية أخرى لمسلم: “ألا إنما الربا في النسيئة”. قال الحافظ: وزاد في رواية طاووس عن ابن عباس: “لا ربا فيما كان يدًا بيدٍ”. وروى مسلم من طريق أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدًا بيدٍ ؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس، فأخبرت أبا سعيد، فقال: أَوَ قال ذلك ؟ إنا سنكتب إليه فلا يُفْتِكُمُوهُ، وله من وجه آخر عن أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسًا، فإني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما. فذكر الحديث. قال فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه.
قال الحافظ: والصَّرْف: دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان ؛ منع النسيئة (التأجيل) مع اتفاق النوع واختلافه وهو المجمع عليه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما وهو قول الجمهور، وخالف فيه ابن عمر ثم رجع، وابن عباس واختلف في رجوعه.
قال: وقد روى الحاكم من طريق حيَّان العدوي: سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره ما كان منه عينًا بعين يدًا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد، فذكر القصة والحديث، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشد النهي.
قال الحافظ: واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل: المعنى في قوله: “لا ربا”. الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل. وأيضًا نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم، والله أعلم.
10- بيع الذهب بالفضة نسيئة (دَينًا)
1- عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: أَقْبَلْتُ أقولُ: من يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ ؟ فقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه- وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه-: أَرِنَا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خادمنًا نعطكِ وَرِقَكَ. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كلاً، والله لتعطينه وَرِقَه أو لتردَنَّ إليه ذهبه. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الوَرِق بالذهب ربًا إلا هاءَ وهاءَ، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء”.
هذا الحديث متفق عليه، واللفظ لمسلم، فقد أخرجه البخاري في البيوع بالأرقام (2134، 2170، 2174)، كما أخرجه مسلم في المساقاة برقم (1586)، وأبو داود في البيوع برقم (3348)، والترمذي في البيوع (1243)، والنسائي في البيوع برقم (4562)، وابن ماجه في التجارات برقم (2253).
2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الذهب بالذهب، والفِضة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ”.
هذا الحديث أخرجه مسلم في المساقاة برقم (1587)، وأبو داود في البيوع برقم (3349)، والترمذي في البيوع برقم (1240)، والنسائي في البيوع برقم (4564)، وابن ماجه في التجارات برقم (2254).
شرح الحديثين
أما الحديث الأول ففيه بيان بيع الذهب بالوَرِق وهو الفضة مع تأجيل دفع أحدهما وهو منهي عنه كما روى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. فيجب المقابضة في كل نوعين ربويين.
وأما حديث عبادة فبين فيه الستة الأصناف الربوية التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة، وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والأحاديث فيه كثيرة مشهورة، ونص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث على تحريم الربا في ستة أشياء: “الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح”. فقال أهل الظاهر: لا ربا في غير هذه الستة بناءً على أصلهم في نفي القياس، وقال جميع العلماء سواهم: لا يختص بالستة بل يتعدى إلى ما في معناها، وهو يشاركها في العلة، واختلفوا في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة، فقال الشافعي: العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان (أصل النقود فتقاس عليهما جميع النقود سواء كانت ورقية أم معدينة)، فلا يتعدى الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات وغيرها لعدم المشاركة، قال: والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة، فيتعدى الربا منها إلى كل مطعوم، وأما مالك فقال في الذهب والفضة كقول الشافعي رحمة الله عليهما، وقال في الأربعة الباقية كونها تدخر للقوت وتصلح له، فعداه إلى الزبيب ؛ لأنه كالتمر، وإلى القُطْنِيَّةِ (الحبوب التي تطبخ في البيت كالعدس وغيره) لأنها في معنى البر والشعير، وأما أبو حنيفة فقال: العلة في الذهب والفضة الوزن، وفي الأربعة الكيل، فيتعدى إلى كل موزون من نحاس وحديد وغيرهما، وإلى كل مكيل كالجص والأشنان (الجص من مواد البناء وهو الجبس، والأشنان نبات يستعمل في الغسيل كالصابون) وغيرهما. وقال سعيد بن المسيب والشافعي في القديم وأحمد رحمهم الله: العلة في الأربعة كونها مطعومة موزونة أو مكيلة بشرط الأمرين، فعلى هذا لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوهما مما لا يكال ولا يوزن. اهـ. كلام النووي.
أقول: ولكن البطيخ والسفرجل يوزن في زماننا.
ثم قال النووي رحمه الله: وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلاً ومؤجلاً، وذلك كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالاً كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما شاركه في العلة كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير، وأنه لا يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدًا بيد ؛ كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا إلا ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تخصيص الربا بالنسيئة. قُلْتُ: وقد مر أنه تراجع عنه، ولله الحمد والمنة.
قال النووي: قال العلماء: إذا بيع الذهبُ بذهبٍ، أو الفضةُ بفضةٍ سميت مراطلة، وإذا بيعت الفضة بذهب (أو العكس) سمي صرفًا. قيل: سمي صرفًا لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل والتفرق قبل القبض والتأجيل، وقيل: من صريفهما، وهو تصويتهما في الميزان. والله أعلم.
قال الحافظ في الفتح عقب حديث عمر: قال ابن عبد البر: في هذا الحديث أن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه، وفيه المماكسة في البيع والمراوضة وتقليب السلعة، وفائدته الأمن من الغبن، وأن من العلم ما يخفى على الرجل الكبير القدر حتى يذكره غيره، وأن الإمام إذا سمع أو رأى شيئًا لا يجوز فإنه ينهى عنه ويرشد إلى الحق، وأن من أفتى بحكم حَسُنَ أن يذكر دليله، وأن يتفقد أحوال رعيته ويهتم بمصالحهم، وفيه اليمين لتأكيد الخبر، وفيه الحجة بخبر الواحد، وأن الحجة على من خالف في حكم من الأحكام إنما هي في كتاب الله أو حديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالوَرِق، وإذا لم يَجُزْ فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة فأحرى ألا يجوز في الذهب وهو جنس واحد، (ولينتبه لهذا تجار الذهب، فإن كثيرًا منهم يقعون في هذا في زماننا هذا)، وكذا الوَرِق بالوَرِق، وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم، أي التسوية في المنع بين الذهب بالذهب وبين الذهب بالوَرِق، والله أعلم.
11- النهي عن تلقي الركبان :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التلقي وأن يبيع حاضر لباد.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب البيوع باب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود، برقم (2162) وأطرافه في (2140- 2148- 2150- 2151- 2160- 2723- 2727- 5144- 5152- 6601)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب البيوع باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم النجش وتحريم التصرية برقم (1515)، وفي باب تحريم تلقي الجَلَب برقم (1519)، وأخرجه الإمام أبو داود في سننه في باب التلقي من كتاب البيوع برقم (3437)، والإمام الترمذي في جامعه في البيوع باب ما جاء في كراهية تلقي البيوع برقم (1221)، والإمام النسائي في البيوع باب التلقي برقم (4505)، والإمام ابن ماجه في التجارات في باب النهي عن تلقي الجلب برقم (2178)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، في مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا رواه الإمام مالك في الموطأ.
شرح الحديث
ترجمة الإمام البخاري لهذا الباب هي “النهي عن تلقي الركبان، وأن بيعه مردود ؛ لأن صاحبه عاصٍ آثمٌ إذا كان به عالمًا، وهو خداع في البيوع والخداع لا يجوز”.
قال الحافظ في الفتح: جزم المصنف (يعني الإمام البخاري) بأن البيع مردود بناء على أن النهي يقتضي الفساد، لكن محل ذلك عند المحققين فيما يرجع إلى ذات المنهي عنه لا ما إذا كان يرجع إلى أمر خارج عنه فيصح البيع ويثبت الخيار بشرطه الآتي ذكره. وأما كون صاحبه عاصيًا آثمًا والاستدلال عليه بكونه خداعًا فصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون البيع مردودًا ؛ لأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل بشيء من أركانه وشرائطه، وإنما هو لدفع الإضرار بالركبان، والقول ببطلان البيع صار إليه بعض المالكية وبعض الحنابلة، ويمكن أن يحمل قول البخاري إن البيع مردود على ما إذا اختار البائع رده فلا يخالف الراجح، وقد تعقبه الإسماعيلي وألزمه التناقض ببيع المصراة- وهي البهيمة التي يحبس اللبن في ضرعها ليظهر أن لبنها كثير عند بيعها- فإن فيه خداعًا ومع ذلك لم يبطل البيع، وبكونه- أي البخاري- فصل في بيع الحاضر للبادي بين أن يبيع له بأجر أو بغير أجر.
واستدل عليه أيضًا بحديث حكيم بن حزام في بيع الخيار ففيه: “فإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما”. قال: فلم يبطل البيع بالكذب والكتمان للعيب، وقد ورد بإسناد صحيح: “أن صاحب السلعة إذا باعها لمن تلقاه يصير بالخيار إذا دخل السوق”. ثم ساقه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ثم قال الحافظ: “قال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التلقي وكرهه الجمهور. قُلْتُ: الذي في كتب الحنفية: يكره التلقي في حالتين ؛ أن يضر بأهل البلد، وأن يلتبس السعر على الواردين، ثم اختلفوا ؛ فقال الشافعي: من تلقاه فقد أساء، وصاحب السلعة بالخيار، وحجته حديث أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجَلَبِ، فإن تلقاه فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق. قلت: وهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة من طريق أيوب، وأخرجه مسلم من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: “لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيدُهُ السوق فهو بالخيار”. وقوله: “فهو بالخيار” أي: إذا قدم السوق وعلم السعر، وهل يثبت له الخيار مطلقًا أو بشرط أن يقع له في البيع غبن؟ وجهان، أصحهما الأول، وبه قال الحنابلة. وظاهره أيضًا أن النهي لأجل منفعة البائع وإزالة الضرر عنه وصيانته ممن يخدعه. قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيون والأوزاعي. قال: والحديث حجة للشافعي لأنه أثبت الخيار للبائع لا لأهل السوق. وقد احتج مالك ومن معه بحديث ابن عمر وفيه: النهي عن تلقي السلع حتى يهبط بها إلى السوق.
قال المباركفوري في شرح الترمذي: وهذا لا يكون دليلاً لمدعاهم ؛ لأنه يمكن أن يكون ذلك رعاية لمنفعة البائع، لأنها إذا هبطت إلى الأسواق عرف مقدار السعر فلا يخدع، قال: ولا مانع من أن يقال: العلة في النهي مراعاة نفع البائع ونفع أهل السوق.
وقد ساق الإمام البخاري في هذا الباب أربعة أحاديث وهي: حديث أبي هريرة هذا، وثانيها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، واقتصر فيه الإمام البخاري على قول طاوس: سألت ابن عباس عن معنى قوله: “لا يَبِيعَنَّ حاضرٌ لبادٍ؟ فقال: لا يكن له سِمْسَارًا”. قال الحافظ في الفتح: وكأنه أشار إلى أصل الحديث. فقد سبق قبل بابين من وجه آخر عن معمر وفي أوله: “لا تلقوا الركبان”. وكذا أخرجه مسلم.
قال: وقوله: “لا تلقوا الركبان”. خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكونون عددًا ركبانًا. ولا مفهوم له، بل لو كان الجالب عددًا مشاةً، أو واحدًا راكبًا، أو واحدًا ماشيًا لم يختلف الحكم.
وقوله: “للبيع” يشمل البيع لهم والبيع منهم، ويفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتلقي.
فلو تلقى الركبانَ أحدٌ للسلام أو الفرجة أو خرج لحاجة له فوجدهم فبايعهم فهل يتناوله النهي ؟ فيه احتمال ؛ فمن نظر إلى المعنى لم يفترق عنده الحكم بذلك، وهو الأصح عند الشافعية وشرط بعض الشافعية في النهي: أن يبتدئ المتلقي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقي لم يدخل في النهي.
من صور التلقي المحرم
قال الحافظ في الفتح:
1- ذكر إمام الحرمين في صورة التلقي المحرم أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل.
2- وذكر المتولي فيها أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول.
3- وذكر أبو إسحاق الشيرازي: أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم.
قال الحافظ بعد أن ساق هذه الصور: وقد يؤخذ من هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت له ولو لم يكن هناك تلقٍ.
فائدة لغوية
في قوله: “لا تلقوا” بفتح التاء واللام وتشديد القاف المفتوحة وضم الواو، أصله: تتلقوا حذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كما في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، وهذا الحذف جائز، وذلك لثبوت التاءين في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ}.
ومطلق النهي عن التلقي يشمل طول المسافة وقصرها وهو ظاهر إطلاق الشافعية.
12- النهي عن الاحتكار
عن معمر بن عبد الله أحد بني عدي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يحتكر إلا خاطئ”.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة باب تحريم الاحتكار في الأقوات برقم (1605)، كما أخرجه أبو داود في سننه في البيوع باب النهي عن الحُكْرَة برقم (3447)، والترمذي في البيوع باب ما جاء في الاحتكار برقم (1267)، وابن ماجه في التجارات باب الحُكْرَةِ والجلب برقم (2154)، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/453، 454)، وذكره ابن عبد البر في باب الحكرة والتربص من كتابه الاستذكار.
شرح الحديث
قال الإمام النووي: قال أهل اللغة: الخاطئ بالهمز هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار، قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه. فأما إذا جاءه من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا تحريم فيه. وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال، هذا تفصيل مذهبنا. اهـ.
وأما الاحتكار عند المالكية فهو الادخار من أجل البيع وطلب الربح بتقلب الأسواق، وأما الادخار للقوت أي من أجل طعامه وعياله فليس من الاحتكار، واتفق المالكية مع الشافعية في أن الاحتكار في الأقوات خاصة.
وأما الأحناف فالاحتكار عندهم من حيث اللغة هو احتباس الشيء انتظارًا لغلائه، والمراد به شرعًا: حبس الأقوات متربصًا للغلاء، أو هو: اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء أربعين يومًا مستدلين بحديث: “من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد بريء من الله، وبريء الله منه، وأيما أهل عَرْصَةٍ بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله”.
والحنابلة عندهم الاحتكار ما اجتمع فيه ثلاثة أمور:
1- أن يكون قد حَصَّلَ السلعة بطريق الشراء وليس بطريق الجَلَب، فلو جلب شيئًا، أو أدخل من غلته شيئًا فادخره لا يكون محتكرًا، وذلك لحديث: “الجالب مرزوق، والمحتكر معلون”.
2- أن تكون السلعة المشتراة قوتًا من الحبوب المقتاتة ونحوها، لأنه ما تعم الحاجة إليه، أما الإدام والحلواء والعسل والزيت وأعلاف البهائم فليس فيها احتكار محرم.
3- أن يُضَيِّقَ على الناس في شرائه بأمرين: أحدهما: أن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار كالثغور، وأما البلاد الواسعة كثيرة المرافق والجلب كالأمصار التي لا يؤثر فيها الاحتكار فلا يحرم.
وثانيهما: أن يكون في حال الضيق والشدة، كأن تدخل البلدَ قافلةٌ فيبادر ذوو الأموال بشرائها ويضيقون على الناس، وعلى هذا لا فرق بين البلد الصغير والكبير. أما الشراء في حال السَّعةِ والرخص بوجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم.
هذا، وقد اتفق الفقهاء على تحريم الاحتكار في كل وقت في الأقوات أو طعام الإنسان؛ مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز، والتين والعنب والتمر والزبيب ونحوها مما يقوم به البدن.
وكذلك اتفق الأحناف والشافعية والحنابلة على تحريم الاحتكار في طعام البهائم، وعند المالكية وأبي يوسف من الأحناف يحرم الاحتكار في غير الطعام في وقت الضرورة، لا في وقت السَّعَة، فلا يجوز عندهم الاحتكار في الطعام وغيره من الكتان والقطن وجميع ما يحتاج إليه الإنسان، أو كل ما أَضر بالناس حبسه قوتًا كان أو ثيابًا أو نقودًا.
وقال السبكي من الشافعية: إذا كان الاحتكار في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشيرج- زيت السمسم- وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار من كراهة.
قال الإمام النووي: قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس. كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعًا للضرر عن الناس. قال: وأما ما ورد في الكتاب- صحيح مسلم- وغيره عن سعيد بن المسيب راوي الحديث عن معمر بن عبد الله، وكذلك عن معمر أنهما كانا يحتكران فقال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء.
وقد قال الترمذي عقب حديث معمر بن عبد الله ؛ قال أبو عيسى: وفي الباب عن عمر وعلي وأبي أمامة وابن عمر، وحديث معمر حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ؛ كرهوا احتكار الطعام. ورخص بعضهم في الاحتكار في غير الطعام.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: “وفي الباب عن عمر” مرفوعًا: “ومن احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس”. أخرجه ابن ماجه، وحَسَّنَ الحافظ في الفتح إسناده. وعنه مرفوعًا بلفظ: “الجالب مرزوق والمحتكر ملعون” أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف، وعن “علي” قال في تحفة الأحوذي: لم أقف على حديثه، وعن “أبي أمامة” مرفوعًا: “ومن احتكر طعامًا أربعين يومًا ثم تصدق به، لم يكن له كفارة”. أخرجه رزين. وعن “ابن عمر” مرفوعًا: “من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه”. أخرجه أحمد والحاكم، قال الحافظ في الفتح: في إسناده مقال، قال المباركفوري: وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “من احتكر حُكْرَةً يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ”. أخرجه الحاكم، ذكره الحافظ وسكت عنه، وعن معاذ مرفوعًا: “من احتكر طعامًا على أمتي أربعين يومًا، وتصدق به لم يقبل منه”. أخرجه ابن عساكر.
ثم قال المباركفوري: قوله: “ورخص بعضهم في الاحتكار في غير الطعام”، واحتجوا بالروايات التي فيها التصريح بلفظ الطعام. قال الشوكاني في نيل الأوطار: وظاهر أحاديث الباب أن الاحتكار محرم من غير فرق بين قوت الآدمي والدواب وبين غيره، والتصريح بلفظ الطعام في بعض الروايات لا يصلح لتقييد باقي الروايات المطلقة، بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق؛ وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام إنما هو لمفهوم اللفظ، وهو غير معمول به عند الجمهور، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد على ما تقرر في الأصول. اهـ.
والحق الذي يجب أن يصار إليه أن الاحتكار إذا كانت علة التحريم فيه هي الإضرار بعامة الناس فينبغي أن يُحَرَّمَ احتكار القوت وغيره من السلع إذا كان احتكارها يلحق الضرر بهم.
13 – بَيْعَ الْعِينَةِ
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوفِيَهُ “.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع من كتاب البيوع من صحيحه بالأرقام: (2124، 2126، 2133، 2136)، كما أخرجه الإمام مسلم (1527)، وفي البيوع (34، 37)، وأخرجه الإمام أبو داود في البيوع (3492، 3495)، والإمام النسائي في البيوع (499 – 4600)، والإمام أحمد في المسند (2 / 111)، والإمام مالك في الموطأ (640).
شــرح الحـديث
المراد ببيع العينة:
هو بيع المقصود منه أن يكون صلة للقرض بالربا.
وصورته: أن يبيع شخص سلعة بثمن آجل ولم يقبض، ثم يشتريه في نفس الوقت من المشتري بثمن حالٍّ أقل من الثمن الذي باعه به أو إلى أجل آخر كذلك، وفي نهاية الأجل المحدد في العقد الأول يدفع الثمن الأول كله، والمراد منه أن يحصل المشتري على قرض من البائع، فيكون القرض بين الثمن الآجل والحال هو الزيادة الربوية، يستفيد منها صاحب المتاع الأول الذي باعه بيعًا صوريًا لا حقيقة له.
ومثال ذلك أن يبيع شخص لآخر جهازًا أو نحوه من السلع بألف مثلاً مؤجلاً إلى عام أو أقل أو أكثر، ثم يبيع المشتري هذا الجهاز نفسه إلى بائعه الأول بثمانمائة تدفع حالاً إلى المشتري الأول، وفي نهاية الأجل المحدد بينهما لدفع الثمن في العقد الأول يدفع المشتري الثمن كاملاً، فيكون الفرق بين الثمنين الألف والثمانمائة ربًا لصاحب الجهاز الذي يبيع بيعًا صوريًا، وهكذا نرى أن الصفقة عبارة عن تحايل على الإقراض عن طريق البيع والشراء.
وربما وسَّط المتعاقدان بينهما شخصًا ثالثًا يقوم بعملية الشراء للعين بثمن حالٍّ من مريد الاقتراض بعد أن اشتراها من مالكها المقرض، ثم يبيعها للمالك الأول الذي باعها بالثمن الأول، فيكون الفرق ربًا له.
هذا، وقد اختلف العلماء في الحكم على هذه الصورة الأخيرة:
فعند أبي حنيفة – رحمه الله تعالى -: أنه عقد فاسد إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، وهنا خالف أبو حنيفة أصله الذي يقتضي القول بصحة هذا العقد، وذلك استحسانًا؛ لأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير البيع الثاني مبنيًا عليه، فليس للبائع الأول أن يشتري ممن لم يمتلكه بعد، فيكون البيع الثاني فاسدًا.
وأما أبو يوسف فقال: هذا البيع صحيح بلا كراهة، وقال محمد بن الحسن: إنه صحيح مع الكراهة حتى إنه قال: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا.
وأما الشافعي – رحمه الله تعالى – فعنده هذا العقد صحيح مع الكراهة ؛ لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول الصحيحان، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي لا نعرفها ؛ لعدم وجود ما يدل عليها ؛ أي أن القصد الآثم لا يعرفه إلا الله تعالى، والحكم على ظاهر العقد شيء آخر، لذا فإنه يحمل العقد على عدم التهمة.
وأما المالكية والحنابلة فإن هذا العقد عندهم يقع باطلاً سدًا للذرائع، ولما روي من قصة زيد بن أرقم رضي الله عنه مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي: أن العالية بنت أيفع قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم (أي حالَّة)، فقالت عائشة رضي الله عنها: بئسما شَرَيْتِ وبئسما اشْترَيْتِ، أبلغي زيدًا أنه أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب، كما استدلوا بحديث: “ إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم “. واستدلوا أيضًا من جهة المعقول بالقياس على الذرائع المجمع على منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل منها هي الباعثة على عقدها، لأنه المحصل لها.
قال أبو عمر بن عبد البر: وتفسير ما ذكره مالك وغيره في ذلك أنها ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، ودنانير بدنانير أكثر منها إلى أجل.
وهكذا نرى أن التحايل على الربا واضح في صورة العينة، وقد حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وبيَّن لنا أن هذه الصور المنهي عنها إذا تعامل الناس بها فإن الله تعالى ينزل بهم البلاء، والمسلمون تنزل بهم البلايا والفتن من غلاء العيش وضنكه وضيق الصدور، وظهور الأوجاع والأمراض وانتشارها، وتسلط الأعداء عليهم، ونزول الذل بهم، وذلك بسبب الإعراض عن دين الله تعالى، وعدم المبالاة بالمكاسب.
ولقد بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هذا البلاء لن يُرْفَعَ حتى يرجع الناس إلى دينهم، والله تبارك وتعالى بيَّن لنا في كتابه العزيز أن ما يصيب الناس إنما يكون بسبب ما كسبت أيديهم من المخالفات الشرعية، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى].
وشرع الله تعالى فيه الحلول التي تحول بين الناس وبين المحرمات، فمن ابتاع ذهبًا بذهب أو غيره من الأصناف الربوية وجب عليه فيه التماثل والتقابض، ومن اشترى جنسًا منها بجنس آخر، وجب فيه التقابض وانتفى إيجاب المثلية، وعلى تجار الذهب ألا يتعاملوا بمبادلة الذهب بالذهب مع الزيادة، وقد أوجد لهم الشرع الحل في أن يشتري التاجر ممن أراد البيع ذهبه ويعطيه ثمنه، ومن ثم يشتري بنقوده ذهبًا فتكون صفقة غير الصفقة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التمر: “ بع الجمع بالدرهم واشتر بالدراهم جنيبًا “.
وفي هذه الصورة – صورة العينة – نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينهى المسلم أن يبيع ما اشتراه قبل أن يقبضه. قال أبو عمر بن عبد البر بعد ما ساق النصوص وأقوال الفقهاء في المسألة:
وتفسير ما ذكرنا في العينة:
فأما لفظ نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : “ من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه “. ولفظ عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : “ من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه “. فالمعنى في ذلك سواء، لأن الاستيفاء بالكيل والوزن هو القبض لما يكال أو يوزن.
14 – بيع العُرْبَانِ
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الْعُرْبَانِ.
هذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ (609)، وأخرجه الإمام أبو داود في البيوع باب في بيع العربان برقم (3502)، والإمام ابن ماجه في التجارات باب بيع العربان برقمي (2192، 2193)، وكذا رواه الإمام أحمد في المسند (2 / 183).
شــرح الحـديث
قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار: قال مالك: وذلك فيما نرى – والله أعلم – أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل، على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك. اهـ.
وكذا ذكره عن الإمام مالك أبو داود في سننه عقب روايته للحديث. وهذا تفسير الإمام مالك لهذا الحديث. وقد ذكر الإمام أبو عبد الله بن ماجه في سننه عقب الحديث قال: العربان أن يشتري الرجل دابة بمائة دينار، فيعطيه دينارين عربونًا، فيقول: إن لم أشتر الدابة فالديناران لك، قال: وقيل: يعني – والله أعلم – أن يشتري الرجل الشيء فيدفع إلى البائع درهمًا أو أقل أو أكثر، ويقول: إن أخذته، وإلا فالدرهم لك.
وهكذا نرى أن العُرْبانَ هو العَرْبون، ونرى كذلك أن صورته ما يقع بين الناس في تبايعهم، من أن يشتري الشخص شيئًا فيدفع إلى البائع جزءًا من الثمن مقدمًا، فإن أتم البيع دفع بقية الثمن، وإن رد البيع فَقَدَ العربون، فيكون حينئذٍ الخيار للمشتري دون البائع.
وحُكْمُه:
الجمهور على أنه بيع ممنوع غير صحيح ؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، ولأنه من باب المخاطرة وفيه نوع من الغرر، وأكل المال بغير عوض، قالوا: ولأن فيه شرطين فاسدين: أحدهما شرط الهبة، والثاني شرط الرد على تقدير ألا يرضى، ولأنه شَرَطَ للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح، كما لو شرطه لغير البائع.
وقالوا أيضًا: لأنه بمنزلة الخيار المجهول ؛ فإنه اشترط أن يكون له أن يرد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح.
وعند الإمام أحمد أنه لا بأس به، ودليله ما أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه من حديث زيد بن أسلم “ سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العربان في البيع فأحله “. وما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث: أنه اشترى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي الله عمر، كان البيع نافذًا، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم، وضَعَّف الإمام أحمد الحديث المروي في بيع العربان.
قال أبو عمر بن عبد البر: وأما قول مالك في تفسير ذلك فعليه جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين، منهم الشافعي والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة ؛ لأنه من بيع الغرر والمخاطرة، وأكل المال بغير عوض ولا هبة وذلك باطل. قال: وبيع العربان على ذلك منسوخ عندهم إذا وقع قبل القبض وبعده، وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت (أي اسْتُهْلكَتْ) رد قيمتها يوم قبضها، ويَرُدُّ على كل حال ما أخذ عُرْبَانًا في الشراء والكراء.
قال أبو عمر بن عبد البر: وقد رُوِيَ عن قوم من التابعين منهم ؛ مجاهد وابن سيرين ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا. قال: وذلك غير جائز عندنا. وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
قال أبو عمر: وهذا لا نعرفه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه يصح. قال: ويحتمل أن يكون بيع العربان الذي أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو صح عنه أن يجعل العربان عن البائع من ثمن سلعته إن تم البيع وإلا رده، وهذا وجه جائز عند الجميع. ثم قال: قال مالك في الرجل يبتاع ثوباً من رجل فيعطيه عربانًا على أن يشتريه، فإن رضيه أخذه، وإن سخطه رده وأخذ عربانه،إنه لا بأس به. قال أبو عمر: لا أعلم في هذا خلافًا، قال: وفي اتفاقهم على هذا دليل على أن المعنى في النهي عن بيع العربان ما قاله مالك والجماعة التي ذكرناهم من العلماء معه على ما تقدم ذكره.
قال أبو عمر: إن وقع بيع العربان الفاسدُ فُسِخَ، وردَّت السلعة إلى البائع والثمن للمشتري.
15 – مَطْلُ الْغَنِيِّ
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ وإذا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ “.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب الحوالات من صحيحه باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة برقم (2287)، وفي باب إذا أحال على عليٍّ فليس له رد، برقم (2288)، وفي كتاب الاستقراض وأداء الديون باب (مطل الغني ظلم) برقم (2400)، كما أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساقاة باب تحريم مطل الغنيِّ وصحة الحوالة، واستحباب قبولها إذا أحيل على مليٍّ برقم (1564). والإمام أحمد في المسند برقم (2 / 463)، والإمام مالك في الموطأ برقم (674)، وأبو داود في البيوع برقم (3345)، والترمذي في البيوع باب في مطل الغني أنه ظلم برقم (1308)، والنسائي في البيوع باب الحوالة برقم (4695)، وابن ماجه في الصدقات باب الحوالة برقم (2403).
شـرح الحـديث
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قوله: “ مَطْلُ الغني ظلم “. وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد عند النسائي وابن ماجه: “ المطل ظلم الغني “، والمعنى أنه من الظلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التنفير عن المطل، وقد رواه الجوزقي من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ: “ إِنَّ مِنَ الظُّلْمِ مَطْلَ الْغَنِيِّ “، وهو يفسر الذي قبله.
قال: وأصل المَطْلِ المَدُّ، قال ابن فارس: مطلت الحديدة أمطلها مطلاً، إذا مددتها لتطول، وقال الأزهري: المطل المدافعة، والمراد هنا تأخير ما استُحِق أداؤه بغير عذر. والمراد بالغني هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيرًا، قال: وهل يتصف بالمطل من كان القدر المطالب به ليس حاضرًا عنده لكنه قادر على تحصيله بالتكسب مثلاً ؟
أورد ابن حجر للشافعية فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون ماطلاً ويجب عليه تحصيل ما استحق عليه، والثاني عدم الوجوب، والقول الثالث التفصيل بين أن يكون أصل الدين وجب بسبب يعصى به فيجب وإلا فلا.
قال: وقوله: “ مطل الغني “ من إضافة المصدر للفاعل عند الجمهور، والمعنى: أنه يحرم على الغني القادر أن يماطل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز، وقيل: هو من إضافة المصدر للمفعول، والمعنى: أنه يجب وفاء الدين ولو كان مستحقه غنيًا، ولا يكون غناه سببًا لتأخير حقه عنه، وإذا كان كذلك في حق الغني فهو في حق الفقير أَوْلى، قال: ولا يخفى بُعْدُ هذا التأويل.
أقول: ولا مانع من شمول الحديث للمعنيين. والله أعلم.
قال الحافظ: وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف؛ أَيُعَدُّ فِعْلُهُ كبيرةً أم لا ؟ فالجمهور على أن فاعله يفسق، لكن أيثبت فسقه بمطله مرة واحدة أم لا؟ قال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، ورده السبكي في “ شرح المنهاج “ بأن مقتضى مذهبنا عدمه، واستدل بأن منع الحق بعد طلبه وابتغاء العذر عن أدائه كالغصب، والغصب كبيرة من الكبائر، وتسميته ظلمًا يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرار. نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره. انتهى كلام السبكي.
قال الحافظ: واختلفوا أيفسق بالتأخير مع القدرة قبل الطلب أم لا ؟ فالذي يشعر به الحديث التوقف على الطالب لأن المطل يشعر بذلك. ويدخل في المطل كل من لزمه حق كالزوج لزوجته، والسيد لعبده والحاكم لرعيته، وبالعكس.
قال: واسْتُدِلَّ به على أن العاجز لا يدخل في الظلم، وهو بطريق المفهوم ؛ لأن تعليق الحكم بصفة من صفات الذات يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة، ومن لم يقل بالمفهوم أجاب بأن العاجز لا يسمى ماطلاً، كما استدل به أيضًا على أن الغني الذي ماله غائب عنه لا يدخل في الظلم، واستنبط منه بعض العلماء أن المعسر لا يحبس ولا يطالب حتى يوسر.
قال أبو عمر بن عبد البر: إنما يكون المطل من الغني إذا كان صاحب الدين طالبًا لدينه راغبًا في أخذه، فإذا كان الغريم (أي المدين) مليئًا غنيًا ومطله وسَوَّفَ به فهو ظالم له، والظلم محرم كثيره وقليله، وقد أتى الوعيد الشديد في الظالمين بما يجب أن يكون كل من فَقِهَهُ عن قليل الظلم وكثيره منتهيًا. وإن كان الظلم ينصرف على وجوه بعضها أعظم من بعض. قال: وأعظمها الشرك بالله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19]،
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال حاكيًا عن الله تبارك وتعالى: “ يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا “. [مسلم: 2577].
قال: ومن الدليل على أن مطل الغني ظلم محرم موجب للإثم ما ورد به الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- استحلال عرضه، والقول فيه، ولولا مطله لم يحل منه ذلك، قال الله عز وجل: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “ لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ “. [أخرجه الإمام أحمد في المسند (4 / 389)، وأبو داود والنسائي وابن ماجه].
الليي: المطل، والواجدِ: الغني.
قال أبو عمر: فمعنى قوله: “ يحل عرضه “ أي: يحل من القول منه ما لم يكن يحل لولا مطله وليه.
ومعنى “ وعقوبته “: قالوا: السجن حتى يُؤَدِّي أو يُثْبِتَ عُسْرَتَهُ، فيجب حينئذٍ نظره.
وروى أبو عمر بسنده إلى سحنون بن سعيد قال: إذا مطل الغني بدين عليه لم تجز شهادته ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سماه ظلمًا.
نسأل الله أن يهدي تجار المسلمين إلى تقوى الله في بيعهم وشرائهم، وأن يخافوا ربهم في تعاملاتهم، وأن يرعوا فيها ما حرم الله، وأن يعلموا أن الذي حرمه الله تعالى من المعاملات إنما هو لمصلحة عموم المسلمين، والمسلم إذا كان يتقي ربه سبحانه فإنه لا يقدم مصلحته الخاصة على مصالح المسلمين العامة.
وفقنا الله وجميع المسلمين إلى محبته ومرضاته، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.