فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

التقديم

إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران : 102)

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ( النساء : 1 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ( الأحزاب : 70 : 71 )

أما بعد، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الواجبات الشرعية وحسبنا قول الله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران :104 )

فالله عَز وجَلَّ يحضُ الأمة ويحثها على أن تكون منها جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وقد وصفهم الله تعالى بالفلاح وهو الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة. وبَيـَّنَ لنا سبحانه أيضاً أننا أصبحنا خير أمة أُخرجت للناس بسبب أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فقال جَلَّ وعَلا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )( آل عمران: 110)

وبَيـَّنَ لنا سبحانه أيضاً بأن من دعائم الدولة المسلمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. فقال جَلَّ شأنه : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) ( الحج : 41 )

ثم بَيـَّنَ لنا ربنا أن تَرْكنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه خزي لهذه الأمة فقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ.)

وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضاً : (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ)

وقد بَـيَّنَ اللهُ لنا حال بني إسرائيل لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال جَلَّ شأنه : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (المائدة 79:78)

فقد أنزل الله عليهم لعنته وعظيم نقمته بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبين لنا سبحانه وتعالى طائفة أخرى من بني إسرائيل عندما أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، أنجاها اللهُ من العذاب وحفظها من الهلاك الذي أصاب غيرها، فقال سبحانه : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ( الأعراف : 164 : 165 )

فالذين أمروا بالمعروف ونهواْ عن المنكر حفظهم الله وحماهم والذين أعرضوا عن هَدي الله وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعتواْ عما نهوا عنه عذبهم الله تعالى بأشد أنواع العذاب حيث مسخهم قردة وخنازير فقال سبحانه : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ( الأعراف : 166 )

ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مستلزمات ديننا، بل من مستلزمات حياتنا فلا تزال الأمة كلها بخير ما دام هناك من يفعل الخير ويدل عليه ويبذل المعروف ويستأصل الفساد ولا يسكت عنه.

وقد بين الله سبحانه في سورة العصر أن كل إنسان في خسارة وهلاك : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) بما أمر الله تعالى بالإيمان به : (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (العصر:3 )

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التواصي بالحق والتواصي بالصبر وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من النصيحة للمسلمين التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها : (الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )

وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مزايا عدة وفوائد كثيرة منها :

أنه طاعة ونصر لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وثأر لهما من أعدائهما وشد لأزر المؤمنين وإرغام للمنافقين وردع للعاصين ثم إنه سبب من أسباب الفلاح وأنها باب عظيم من أبواب التناصح للمسلمين وحب الخير لهم والتعاون على البر والتقوى.

ولولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نهدم بنيان الشريعة وعمت الفوضى وساءت الأحوال والبلاد، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجمع الخيرات وملتقى الفضائل ولا صلاح ولا فلاح ولا سلامة للأمة في جميع نواحي الحياة الدينية والخُلُقية والاجتماعية إلا به فلذلك لا بد أن نتمسك به ونعض عليه بالنواجذ.

فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقنا إلى العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يجعلنا من المفلحين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وبين يديك أيها القارئ الكريم رسالة ( فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) فيها أمورٌ جليلةٌ مفيدةٌ لقارئها ولكل من طالع هذا الكتيب، جمعها لنا أخونا الشيخ / صلاح نـجيب الدق، فنسأل الله الكريم أن يجزيه خير الجزاء وأن يثيب كل من قرأ وطالع هذه الرسالة، وأن يثيب من ساهم في نشرها وطباعتها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 كتبه

الدكتور / جمال المراكبي

الرئيس العام السابق

لجمعية أنصار السُنة المحمدية

بجمهورية مصر العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

معنى المعروف و المنكر :

المعروف في اللغة :

قال ابن منظور : المعروف : الجود.

وقيل اسم لما تبذله وتسديه.

قال الزَجَّاج : ( المعروف ما يُستحسن من الأفعال )

( لسان العرب لابن منظور جـ4 صـ2899 : صـ2900)

المعروف في الشرع:اسمٌ جامعٌ لكل ما عُرِفَ من طاعة الله تعالى، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس.

المنكر في اللغة :

اسم لما تنكره النفوس وتشمئز منه ولا تعرفه، والمنكر من الأمر خلاف المعروف، قال تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( لقمان : 19 )

أي : أقبح الأصوات.( لسان العرب لابن منظور جـ6 صـ4539 )

المنكر في الشرع : اسمٌ جامعٌ لكل ما عُرفَ بالشرع قبحه، من معصية الله تعالى وظلم عباده.

جاء لفظ المعروف في القرآن الكريم ثمانٍ وثلاثين مرة.( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن صـ458 : صـ459 )

وجاء لفظ المنكر في القرآن ست عشرة مرة.( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن صـ719 )

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن الكريم :

تحدث القرآن الكريم في كثير من آياته عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحثنا الله تبارك وتعالى على هذه المهمة السامية.

قال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران : 104 )

فجعل سبحانه الفلاح في الدنيا والآخرة مرتبطاً بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقال سبحانه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) ( آل عمران : 110 )

قال الإمام القرطبي ( رحمه الله) : هذه الآية مدح لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ويظل هذا معها ما أقاموا ذلك، فإذا تركوا ذلك التغيير زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو شرط الخيرية. ( تفسير القرطبي جـ4 صـ173 )

وقال الإمام ابن كثير : (رحمه الله ) يخبر تعالى عن الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم، فقال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )

روى البخاريُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) قَالَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. ( البخاري حديث 4557 )

ثم قال ابنُ كثير (رحمه الله) : ( والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولهذا قال : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ).( تفسير ابن كثير جـ3 صـ141 )

وقال تعالى أيضاً : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ) ( التوبة : 104 )

في هذه الآية المباركة يبين الله تعالى أن من أسباب رحمته سبحانه وتعالى للمؤمنين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقال تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) ( الحج : 110)

وفي هذه الآية الجليلة يوضح الله تعالى أن الغاية من التمكين في الأرض والظفر بالسلطان والحكم، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السُّنة :

جاءت سُّنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- تحثنا على ضرورة القيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يتضح جلياً في كثير من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :

روى مسلمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ. ( مسلم حديث 49)

روى الشيخانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا فَقَالَ إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.( البخاري حديث 2465 / مسلم حديث 2121 )

روى الشيخانِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصامت رضي الله عنه قَالَ : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. ( البخاري حديث 7056 / مسلم حديث 1709 )

روى أبو داودَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ. ( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 3650 )

 آثار ترك الأمر بالمعروف :

حذرنا اللهُ تبارك وتعالى مِن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ذلك يترتب عليه كثير من المفاسد في البلاد والعباد، وقد جاء هذا التحذير في آيات كثيرة :

قال تعالى : (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة : 62 : 63 )

قال ابنُ جرير الطبري : كان العلماء يقولون ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها. (تفسير الطبري جـ6 صـ298 )

وقال سبحانه : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( المائدة : 78 : 79 )

في هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى أن سبب لَعْن بني إسرائيل هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واللعن هو الطرد من رحمة الله التي وسعت كل شيء.

نبينا -صلى الله عليه وسلم- يحذرنا من ترك الأمر بالمعروف :

حذرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كثير من أحاديثه الشريفة :

روى مسلمٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا. ( مسلم حديث 63 )

روى الترمذيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ. ( حديث حسن ) ( صحيح سنن الترمذي للألباني حديث 1762)

روى أبو داودَ عَنْ جَرِيرٍ بن عبد الله البجلي قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُوا إِلَّا أَصَابَهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا. ( حديث حسن ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 3646 )

عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله :

إن من أسوأ الأمور أن يأمر العبد الآخرين بالمعروف وينسى نفسه، وينهاهم عن فعل المنكر ويأتيه، وقد ذم الله تعالى في كتابه العزيز هذا الصنف من الناس، فقال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة : 44 )

وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) ( الصف : 2 : 3 )

وقال جَلَّ شأنه : حكاية عن شعيب عليه السلام : (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) ( هود : 88 )

قال القرطبي : ( رحمه الله ) في تفسيره لهذه الآية : ( أي : لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به ). ( الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ9 صـ89 )

جاءت سُّنةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبين عقوبة من يفعل هذا العمل القبيح.

روى الشيخانِ عن أسامة بن زيد أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال : يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ. ( البخاري حديث 3267 / مسلم حديث 2989 )

حكْم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

قال الإمام النووي 🙁 رحمه الله ): الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف ثم أنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أولا يتمكن من إزالته إلا هو كمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف.قال العلماء رضي الله عنهم ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ( مسلم بشرح النووي جـ2 صـ23 )

والدليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران : 104 )

قال ابنُ كثير : المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن. (تفسير ابن كثير جـ3 صـ138 )

وقوله تعالى : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 )

وهكذا، فإن هذه الفرقة التي تفقهت في الدين هي التي تستطيع أن تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أعظم المعروف : الدعوة إلى توحيد الخالص :

إن من أعظم معروف ذكره الله تعالى في كتابه العزيز هو الدعوة إلى توحيده سبحانه وتعالى، وإخلاص العمل له وحده، والتوحيد هو الرسالة التي أرسل الله بها رُسله إلى الناس كافة.

قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل : 36 )

وقال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ( الأعراف : 59 )

وقال جَلَّ شأنه: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) ( الأعراف : 65 )

أعظم المنكر : الشرك بالله تعالى :

ينبغي أن يكون من المعلوم أن أعظم المنكر، هو الشرك بالله تعالى، لأنه محبط للأعمال، ولا يغفره الله تعالى، إن مات الإنسان عليه.

قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) ( النساء : 48 )

وقال سبحانه : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) ( الحج : 31 )

وقال جل شأنه : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) ( الزمر : 65 : 66 )

شروط مَن يأمر بالمعروف:

وضع العلماءُ شروطاً لمن يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاتفقوا في بعضها واختلفوا في البعض الآخر، وسوف نتحدث عنها بإيجاز. ( الموازين لابن النحاس صـ15 : صـ17 )

أولاً : الشروط المتفق عليها :

(1) الإسلام : يجب على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مسلماً، لأن ذلك نصرة لدين الله، فلا يقوم به كافر أو جاحد لدين الله، فهو ممنوع من ذلك لما في الأمر والنهي عن المنكر من السلطة والعزة، وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) ( النساء : 141 )

(2) التكليف : التكليف من شروط وجوب جميع العبادات التي فرضها الله على عباده المسلمين، فلا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصبي الصغير أو على المجنون، لأن التكليف مرفوع عنهما، ولكن لو أنكر الصبي المميز شيئاً جاز وحصل على ثواب الله، ولم يكن لأحد من الناس منعه من ذلك، لأنها قربة إلى الله وهذا الصبي المميز من أهل أدائها لا من أهل وجوبها.

(3) الاستطاعة : ومن شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاستطاعة، بحيث يكون المسلم قادراً على تغيير المنكر.

قال اللهُ تعالى : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) ( البقرة : 286 )

روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ :إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ. ( مسلم حديث 1337 )

ثانياً : الشروط المختلف فيها :

أما شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اختلف أهل العلم فيها، فهي :

(1) العدالة : اشترط بعض أهل العلم فيمن يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون عدلاً فليس لفاسق أن يقوم بهذه المهمة السامية، واستدلوا على ذلك بقوله : (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) ( الصف : 3 )

وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن العدالة ليست شرطاً من شروط الوجوب.

فقد قال الإمام النووي (رحمه الله) : لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به والنهى وإن كان متلبساً بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان أن يأمر نفسه وينهاها ويأمر غيره وينهاه فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر. ( مسلم بشرح النووي جـ2 صـ23 )

وقال الإمام القرطبي (رحمه الله )- قال حذاق أهل العلم :ليس شرط الناهي أن يكون سليماً عن المعصية، بل ينهي العصاة بعضهم بعضاً.وقال رحمه الله أيضاً : قال بعض الأصوليين :

فرض على الذين يتعاطون الكئوس(يشربون الخمر) أن ينهى بعضهم بعضاً.

وقال أيضاً : ليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس. فإن تشبثوا بقوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة: 44) وقوله: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3) ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ههنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر. ( تفسير القرطبي جـ4 صـ47 )

والدليل على أن العدالة ليست شرطاً ما رواه الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ. ( البخاري حديث 6606 / مسلم حديث 111)

الرأي الراجح :

وعلى ضوء ما سبق من الأدلة وأقوال أهل العلم، أرى أن رأي الفريق الثاني، وهو الرأي الذي يقول بأن العدالة ليست شرطاً فيمن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، هو الرأي الأرجح، والله تعالى أعلم.

(2) الإذن من الإمام :

ذهب بعض العلماء إلى أن من شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحصول على الإذن من الإمام.

وهذا الشرط قال عنه الإمام الغزالي : (رحمه الله )- شرط فاسد، فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عنه، عصى أينما رآه، وكيفما رآه على العموم بلا تخصيص، فشرط التفويض من الإمام بحكم لا أصل له.( الموازين لابن النحاس صـ17 )

روى مسلمٌ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ:أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ فَقَالَ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ. ( مسلم حديث 49 )

وقال الإمام النووي : قال العلماء ولا يختص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. ( مسلم بشرح النووي جـ2 صـ23 )

آداب من يأمر بالمعروف:

لقد ذكر العلماء آداباً ينبغي أن يتحلى بها كل من يريد أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،. نوجزها فيما يلي :

أولاً : إخلاص العمل لله وحده :

إن أساس قبول الأعمال، وحصول ثواب الله هو إخلاص الأعمال لله، فإن من احتسب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقه الله للقيام بهذه المهمة السامية.

قال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ( الأنعام : 162 )

وقال سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) ( البينة :5)

روى البخاريُّ عن عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. ( البخاري حديث 1 )

روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ.

( مسلم حديث 2985 )

ثانياً : العلم : لا بد لمن يقوم الأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يكون على علم بموقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون على علم بحال من يأمره وينهاه، حتى يقتصر في تصرفه على حدود الشرع الحنيف، لأنه إذا كان جاهلاً بهذه الأمور، فإنه سوف يفسد أكثر مما يصلح، ولذا قال بعض العلماء : إن على من يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالماً بما يأمر به وعالماً بما ينهى عنه. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ164 )

ثالثاً : الرفق وحسنُ الخُلُق :

الرفق وحُسنُ الخُلُقِ من الصفات الهامة لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالعنف والغضب المفرط في الدعوة قد يؤديان إلى مفسدة عظيمة لا يُحمد عقباها، وهذا الخُلُق المبارك من الرفق ولين الجانب، هو الذي تربى عليه الأنبياء والمرسلون، وساروا عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحكام وعامة الناس.

قال تعالى في قصة موسى وهارون : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) ( طه : 43 : 44 )

وقال جَلَّ شأنه : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (النحل : 125 )

وقال سبحانه : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ( آل عمران : 159 )

روى مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ. ( مسلم حديث 2593 )

قال سفيان الثوري (رحمه الله) : لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيقٌ بما يأمر، رفيقٌ بما ينهى، عدلٌ بما يأمر، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمر، عالمٌ بما ينهى. ( جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي جـ3 صـ963 )

اعلم أخي المسلم الكريم : أن الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير أفضل من التأنيب والتوبيخ.

رابعاً : الصبر وتحمل الأذى :

الصبر على الأذى من الدعائم التي يجب أن يستند عليها من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وطالما كان هناك أمر بمعروف ونهي عن منكر، فالغالب أن يصاحبهما أذى من الناس، ويظهر هذا جلياً في وصية لقمان لابنه.

قال سبحان حكاية عن لقمان : (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) ( لقمان : 17 )

ولذا أوصى اللهُ تبارك وتعالى الرسلَ بالصبر، فقال سبحانه مخاطباً نبينا -صلى الله عليه وسلم- : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) ( الأحقاف : 35 )

وقال أيضاً : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) ( المزمل : 10 )

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : لا بد من العلم والرفق والصبر، فالعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده. (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ28 صـ134 : صـ137 )

فهم خاطئ والرد عليه :

أولاً : يعتقد بعضُ الناس أن عدم توافر هذه الصفات السابقة لديهم يُسقط عنهم مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهل معنى هذا أن يترك الناس هذه المهمة الجلية حتى تتوافر لديهم هذه الصفات، وحتى يصلوا بأنفسهم إلى الأخلاق الفاضلة والطاهرة الكاملة ؟

ويجيب على هذا السؤال بعض علماء السلف الصالح :

روى الإمام مالك عن ربيعة قال سمعت سعيد بن جبير يقول : لو كان المرء لا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى عن منكر.

قال مالك : صدق ومن ذا الذي ليس فيه شيء ؟.( تفسير ابن كثير جـ1 صـ383 )

قال الحسن البصري لمطرِّف بن عبد الله : عظ أصحابك، فقال : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال الحسن : يرحمك الله، وأينا يفعل كُلَّ ما يقول ! يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن المنكر ! ( تفسير القرطبي جـ1 صـ367 )

ثانياً : يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 105 )

يخطئ بعض الناس في فهم هذه الآية، ويعتقد أنه إذا استقام على طاعة الله، فلا يضره ما يقوم به الآخرون ومن المنكرات، وأن ذلك يسقط عنه النهي عن المنكر مع قدرته على تغييره.

يقول الإمام ابن كثير : ( ليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً ). ( تفسير ابن كثير جـ15 صـ394 )

روى أبو داودَ عن أبي بكر الصديق قال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ.

( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 3644 )

شروط الفعل المطلوب إنكاره :

اشترط العلماء للفعل المطلوب إنكاره شروطاً، سوف نتحدث عنها بإيجاز :

أولاً : أن يكون الفعل منكراً :

لا بد للفعل المطلوب إنكاره أن يكون قبيحاً شرعاً، ولا يختص وجوب الإنكار على الكبائر دون الصغائر، ولا يُشترط أن يكون معصية، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر، فعليه أن يمنعه، وإن كان هذا لا يُسمى منكراً في حق الصبي والمجنون.

ثانياً : أن يكون المنكر موجوداً :

يُشترط في الفعل المنكر المطلوب منعه أن يكون مستمراً، فإن من فرغ من شرب الخمر مثلاً، لم يكن لأحد من الناس الإنكار عليه إلا بالوعظ والتعريف، إذا أفاق من سُكْرِه، ومن الأفضل الستر عليه مع ذلك، حتى لا يُقام عليه الحد إذا وصل أمره إلى الإمام.( الموازين لابن النحاس صـ18 : صـ21 )

ثالثاً : أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس :

لا يجوز للمحتسب التجسس من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله حرم التجسس على عورات الناس، فقال سبحانه : (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) ( الحجرات : 12 )

رابعاً : أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد :

قال الإمام النووي : إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لان على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم.(مسلم بشرح النووي جـ2 صـ23 : صـ24 )

كيف ننهي عن المنكر ؟ :

ذَكَرَ بعضُ العلماء درجات لنسير عليها، عند تغيير المنكر وهي بالترتيب كما يلي :

أولاً : التعريف بالمنكر :

قد يقدم العبد على فِعل المنكر، وهو لا يدري أنه منكر، ومثل هذا الشخص ربما إذا علم أن ذلك منكر، أقلع عنه في الحال، فيجب تعريفه باللطف والرفق، ويُقال له مثلاُ : إن الإنسان لا يولد عالماً، وإننا كنا كذلك فسخر الله لنا من عَلَمنا، وليس من العيب أن نخطئ، ولكن العيب أن نعلم الخطأ ونستمر في عمله.

ثانياً : النهي عن المنكر بالوعظ، والنصح، والتخويف بالله :

إذا أقدم الإنسان على فعل منكر مع علمه بأن ذلك حرام، مثل : الغيبة والنميمة والرشوة، والتعامل بالربا، وأكل أموال اليتامى ظلماً، فإن مثل هذا ينبغي أن يُنصح بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يُذَكر بآيات القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة التي تحتوي على التهديد والوعيد من رب العالمين، وأن يتخيل نفسه مكانه، فكيف يحب أن يعامله الآخرون في مثل هذا الموقف ؟

وليتذكر المحتسب ما رواه الشيخانِ عَنْ أَنَسٍ بنِ مالكٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. ( البخاري حديث 13 / مسلم حديث 45 )

ثالثاً : النهي عن المنكر بالتغليظ في القول :

إذا رأى مَن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن صاحب المنكر لم يرجع عنه بالتعريف، ولا بالوعظ، ولا التخويف بآيات الله، وعلم أنه مُصرٌ على الاستمرار في عمل المنكر وأظهر الاستهزاء، فإن الناهي ينتقل إلى التغليظ في القول، مثل أن يقول له: يا من لا يخاف الله، يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، مع الحذر من استرسال الناهي في تغليظ القول، حتى لا يقول ما لا يجوز شرعاً.

وقد جاء بيان هذه الدرجة من النهي عن المنكر في كلام إبراهيم لقومه، قال تعالى : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) ( الأنبياء : 67 )

رابعاً : النهي عن المنكر عن طريق التهديد بالأذى :

إذا رأى الناهي عن المنكر أن التغليظ في القول لا تأثير له على صاحب المنكر، فإنه ينتقل إلى التهديد بإيقاع، الأذى كأن يقول لصاحب المنكر : إن لم تتوقف عن فعل هذا الأمر، لأفعلن بك كذا وكذا، فلعل هذا التهديد يجعله يترك هذا المنكر.

ويُراعى أن يكون التهديد بشيء يقدر عليه الناهي كطرد صاحب المنكر من العمل، أو السكن، أو بإبلاغ ولاة الأمر عنه.

خامساً : النهي عن المنكر عن طريق التغيير باليد :

إذا رأى الناهي عن المنكر أن هذا الفعل المنكر الذي هو بصدده لم يتوقف باستخدام التعريف، أو الوعظ، أو التغليظ في القول، أو التهديد بالأذى، فإنه يلجأ إلى تغيير هذا المنكر باليد، وذلك بشرطين :

أولاً : أن تكون لديه القدرة على هذا التغيير، كأن يكون ولي أمر أو محتسباً ، فَوَضه ولي الأمر.

ثانياً : ألا يؤدي هذا التغيير إلى منكر أكبر من المنكر الموجود فعلاً، فإذا ترتب على هذا التغيير مفسدة أعظم، أصبح عدم التغيير واجباً.

قال بعض العلماء : إن التغيير باليد يكون لولاة الأمور فقط، حتى لا تحدث مفسدة بين الناس، أو أن يعطى الإذن للمحتسب للتغيير باليد.

ومن أمثلة التغيير باليد إراقة الخمر، وكسر آلات اللهو، وغير ذلك، وقد فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

روى مسلمٌ عن عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ أنه قال : أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا. ( مسلم حديث 567 )

قال الإمام القرطبي (رحمه الله) : قال العلماء : الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس. ( تفسير القرطبي جـ4 صـ49 )

وقال بعض العلماء : يجوز للمتطوع من العامة أن يقوم بالتغيير باليد بشرط توافر الشروط والصفات فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وألا يترتب على التغيير باليد مفسدة أكبر من المنكر الموجود، والذي يُراد تغييره.

سادساً : إذا لم ينته صاحب المنكر عنه بعد التخلص من الآلات التي يستخدمها في عمل هذا المنكر، فإن للناهي عن المنكر أن يضربه باليد، أو العصا، أو غير ذلك، مع عدم الاسترسال في الضرب حتى لا يؤدي إلى منكر أكبر، مع مراعاة أن هذه الطريقة تكون من ولي الأمر أو من فوَضه ولي الأمر.

سابعاً : النهي عن المنكر عن طريق الاستعانة بالناس :

إذا وجد الناهي عن المنكر أنه لا يستطيع التغيير بنفسه، ورأى أنه يحتاج إلى الاستعانة بالناس، فله ذلك بشرط الحصول على إذن من ولاة الأمور، لأن صاحب المنكر ربما يستعين بأعوانه، ويؤدي ذلك إلى قتال بين الناس ويترتب على ذلك فساد كبير. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ161 : صـ164 )

أحوال تغيير المنكر :

 تنقسم أحوال تغيير المنكر إلى أربعة أحوال هي :

الحالة الأولى : أن يعلم المسلم(أي يغلب على ظنه) أن المنكر يزول بقوله أو فعله من غير مكروه يلحقه، فيجب عليه الإنكار.

الحالة الثانية : أن يعلم الناهي أن كلامه لا ينفع وأنه إن تكلم ضرب، فيرتفع الوجوب عنه.

الحالة الثالثة : أن يعلم المسلم أن إنكاره لا يفيد، لكنه لا يخاف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر لعدم الفائدة، لكن يستحب لإظهار شعائر الإسلام والتذكير بالدين.

الحالة الرابعة : أن يعلم الناهي أنه يصاب بمكروه وحده ، ولكن يبطل المنكر بفعله، فإنه يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ159 : صـ160 )

قال ابنُ قدامة(رحمه الله): لا خلاف أنه يجوز للمسلم الواحد أن يهجم على صفوف الكفار ويقاتل، وإن علم أنه يقتل، لكن إن علم أنه لا نكاية له في الكفار، كالأعمى يطرح نفسه على الصف، حرم ذلك، وكذلك لو رأى فاسقاً وحده وعنده قدح خمر وبيده سيف، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب الخمر لضرب عنقه، لم يجز له الإقدام على ذلك، لأن هذا لا يؤثر في الدين أثراً يفديه بنفسه، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر، وظهر لفعله فائدة، كمن يحمل في صف الكفار ونحوه. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ160 )

الأمر بالمعروف مع الوالدين:

قال الإمام الغزالي : عند الحديث عن كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الوالدين : (قد رتبنا للحسبة خمس مراتب وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين وهما التعريف ثم الوعظ والنصح باللطف وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب )

( إحياء علوم الدين للغزالي جـ2 صـ495 )

فائدة هامة:

 إذا ترتب على تغيير المنكر مع الوالدين مفسدة أعظم من المنكر الموجود، فلا يجوز تغييره.

تغيير المنكر الذي يترتب عليه ضرر للآخرين :

إذا غلب على ظن من ينهى عن المنكر إنه إذا قام بتغيير هذا المنكر، فإنه يتعدى الضرر والأذى الكبير إلى أحد أقاربه أو أصحابه أو جيرانه، أو يتعدى على محارمه، أو غيرهم من الناس وهم غير راضين عن ذلك، لم يجز له تغيير هذا المنكر، ويصبح ترك النهي عن المنكر في هذه الحالة واجباً، لأن التغيير لا يتحقق إلا بمنكر أعظم منه.

قال أبو حامد الغزالي : (رحمه الله) : (عند الحديث عن الحسبة) : فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى قومه فليتركه وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان ولكنه يقصد أقاربه انتقاما منه بواسطته فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محظور.

( إحياء علوم الدين للغزالي جـ2 صـ504 )

وقال ابنُ قدامة: إن عَلِمَ المنكِرُ أنه يضرب معه غيره من أصحابه، لم تجزله الحسبة، لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بإفضائه إلى منكر آخر، ليس ذلك من القدرة في شىء.

( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ160 )

وقال ابنُ رجب الحنبلي: إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه، لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره. ( جامع العلوم والحكم لابن رجب جـ3 صـ955 )

الأمر بالمعروف مع ولاة الأمور :

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحكام، وولاة الأمور من المسائل الهامة، التي إذا أساء الناس فهمها، ترتب على ذلك فتن عظيمة، ومفاسد كبيرة في البلاد والعباد، ويجب أن نعلم أن الله قد أرسل رسولين كريمين، وهما موسى وهارون، صلى الله عليهما وسلم، إلى فرعون، الذي ادَّعى أنه رب لهذا الكون وأنه إله للناس، والله يعلم أن فرعون سوف يموت على كفره، وعلى الرغم من ذلك طلب منهما أن ينهياه عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، فقال سبحانه : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى* إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) ( طه : 43 : 48 )

فانظر أخي الكريم : إذا كانت هذه هي كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحاكم الكافر، فكيف تكون إذاً مع الحاكم المسلم ؟ إنها لا شك يجب أن تكون أكثر ليناً في الكلام مع استخدام حُسْن الأدب في الحوار.

نصيحة ولاة الأمور تكون سراً :

ينبغي أن تكون النصيحة للحكام، وولاة الأمور سراً، ودون التشهير بعيوبهم أمام عامة الناس.

روى أحمدٌ عن عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ أن النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ. ( حديث حسن لغيره ) ( مسند أحمد جـ24صـ 49 حديث 15333 )

أقوال سلفنا الصالح في الأمر بالمعروف مع ولاة الأمور :

(1) أحمد بن حنبل :

اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ إلَى أحمد بن حنبل وَقَالُوا لَهُ : إنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا يَعْنُونَ إظْهَار الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْر ذَلِكَ وَلَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلَا سُلْطَانه ، فَنَاظَرَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ بِقُلُوبِكُمْ وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَة وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمْ ، وَانْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيح بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاح مِنْ فَاجِر وَقَالَ لَيْسَ هَذَا صَوَاب ، هَذَا خِلَاف الْآثَار. ( الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي جـ1 صـ175 )

(2) أبو الفرج بن الجوزي :

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ السَّلَاطِينِ التَّعْرِيف وَالْوَعْظ ، فَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ نَحْو يَا ظَالِم يَا مَنْ لَا يَخَاف اللَّهَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُحَرِّك فِتْنَة يَتَعَدَّى شَرُّهَا إلَى الْغَيْر لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِز عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء قَالَ : وَاَلَّذِي أَرَاه الْمَنْع مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُود إزَالَة الْمُنْكَر وَحَمْلُ السُّلْطَان بِالِانْبِسَاطِ عَلَيْهِ عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَر أَكْثَر مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَر الَّذِي قُصِدَ إزَالَته. ( الآداب الشرعبة لابن مفلح جـ1 صـ176 )

(3) النووي :

روى الشيخانِ عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ. ( البخاري حديث 7055 / مسلم حديث 42 )

قال الإمام النووي (رحمه الله ): لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقه ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته وأجمع أهل السُّنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع. قال العلماء وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين ، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه. ( مسلم بشرح النووي جـ12 صـ229 )

(4) القاضي عياض :

قال القاضي عياض (رحمه الله ): قال جماهيرُ أهل السُّنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة. ( مسلم بشرح النووي جـ12 صـ229 )

(5) ابن حجر العسقلاني :

روى الشيخانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. ( البخاري حديث 7053 / مسلم حديث 6 )

قال ابن بطال (رحمه الله ): في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار.

( فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ13 صـ9 )

وقال ابن حجر (رحمه الله ): أجمع الفقهاءُ على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. ( فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ13 صـ9 )

(6) أحمد بن تيمية :

قال ابن تيمية(رحمه الله): لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا حُرِّمَ الْخُرُوجُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ ؛ لِأَجْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ وَاجِبٍ أَعْظَمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ الْمُنْكَرَ وَالذُّنُوبَ وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ عَلَى بِدْعَةٍ أَوْ فُجُورٍ وَلَوْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرٌّ أَعْظَمُ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالنَّهْيِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ. (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ14 صـ472)

(7) ابن النحاس :

قال ابن النحاس(رحمه الله ): ليس لأحدٍ أن يمنع السلطان بالقهر باليد، ولا أن يشهر عليه سلاحاً أو يجمع له أعواناً، لأن ذلك تحريك للفتن وتهييج للشر، وإذهاب لهيبة السلطان من قلوب الرعية، وربما أدى ذلك إلى تجرئهم على الخروج عليه وتخريب البلاد. ( الموازين لابن النحاس صـ43 )

(8) الإمام ابن رجب الحنبلي :

قال ابن رجب(رحمه الله ):وأما الخروج عليهم ( أي الحكام ) بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين.( جامع العلوم والحكم لابن رجب جـ3 صـ955 )

(9) ابن مفلح الحنبلي :

قال ابن مفلح الحنبلي(رحمه الله ):لا يُنكِر أحدٌ على سلطانه إلا وعظاً له وتخويفاً أو تخويفاً أو تحذيراً من العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه يجب، ويحرمُ بغير ذلك.( الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي جـ1 صـ175 )

(10) أحمد بن قدامة المقدسي :

وقال ابن قدامة(رحمه الله ): بعد أن ذكر درجات الأمر بالمعروف: والجائز من ذلك مع السلاطين القسمان الأولان وهما : التعريف والوعظ. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ169 )

(11) أبو حامد الغزالي :

قال الغزالي(رحمه الله ): عند الحديث عن مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ2 صـ496 )

أنبياء الله هم القدوة في الأمر بالمعروف :

الله تعالى جعل الأنبياء والمرسلين هم الأسوة الحسنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الناس، ولذا سوف نذكر بعضاً من النماذج، للرُسُل مع أقوامهم، لتكون نبراساً يسير عليه الذين يريدون النهي عن المنكر مع الناس، ومع الوالدين، ومع ولاة الأمور.

(1) نوح مع قومه :

 قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ*أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) (الأعراف : 59 : 64 )

(2) هود مع قومه :

 قال سبحانه : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) (الأعراف : 65 : 68 )

(3) إبراهيم مع والده:

قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) (مريم : 41 : 48 )

(4) شعيب مع قومه :

قال جَلَّ شأنه : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) ( الأعراف : 85 : 87 )

(5) موسى وهارون مع فرعون:

 قال سبحانه وتعالى : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) ( طه : 43 : 48 )

منهج سلفنا الصالح في نصح ولاة الأمور :

 ذكر بعض أهل العلم نماذج لسلفنا الصالح في نصح ولاة الأمور، سوف نذكر بعضاً منها:

(1) سعيد بن عامر ينصح عمر بن الخطاب :

قال سعيد بن عامر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني موصيك بكلمات من جوامعالإسلام ومعالمه : اخش الله في الناس، ولا تخش الناس في الله ، ولا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه الفعل، وأحب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا تخف في الله لومة لائم. قال : ومن يستطع ذلك يا أبا سعيد ؟ قال : من ركب في عنقه مثل الذي ركب في عنقك. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ170 )

(2) شيخ ينصح معاوية بن أبي سفيان:

دخل شيخ من الأزد على معاوية بن أبي سفيان، فقال : اتق الله يا معاوية، واعلم أنك كل يوم يخرج عنك، وفى كل ليلة تأتى عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعداً، ومن الآخرة إلا قرباً، وعلى إثرك طالب لا تفوته، وقد نصب لك عَلَم لا تجوزه، فما أسرع ما تبلغ العلم، وما أوشك أن لحقك الطالب، وإنا وما نحن فيه وأنت زائل، والذي نحن صائرون إليه باق ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ171 )

(3) سلمة بن دينار ينصح عمر بن عبد العزيز:

قال عمر بن عبد العزيز عظني: يا أبا حازم.قال اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن تكون فيه تلك الساعة فخذ فيه الآن ، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة، فدعه الآن.(حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 5صـ 317)

(4) محمد بن كعب القرظي ينصح عمر بن عبد العزيز:

قال محمد بن كعب القرظي لعمر بن عبد العزيز : يا أمير المؤمنين إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج الناس بما نفعهم ومنها خرجوا بما ضرهم فكم من قوم قد غرهم منها مثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت فاستوعبهم فخرجوا منها ملومين لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة ولا لما كرهوا جنة واقتسم ما جمعوا من لا يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم فنحن محقوقون يا أمير المؤمنين أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نغبطهم بها فنخلفهم فيها وننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها فنكف عنها فاتق الله يا أمير المؤمنين واجعل قلبك في اثنتين. انظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك وانظر الأمر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغ به البدل حيث يوجد البدل ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك فاتق الله يا أمير المؤمنين فافتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم ورد الظالم. ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 5صـ 313)

 (5) عطاء بن أبى رباح ينصح هشام بن عبد الملك:

 دخل عطاء بن أبى رباح على هشام ، فرحب به وقال : ما حاجتك يا أبا محمد ؟ وكان عنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فذكره عطاء بأرزاق أهل الحرمين وعطياتهم. فقال : نعم يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاء أرزاقهم، ثم قال : يا أبا محمد هل من حاجة غيرها ؟ فقال : نعم فذكره بأهل الحجاز، وأهل نجد، وأهل الثغور، ففعل مثل ذلك، حتى ذكره بأهل الذمة أن لا يكلفوا مالا يطيقون ، فأجابه إلى ذلك، ثم قال له في آخر ذلك : هل من حاجة غيرها ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله فى نفسك ، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد. قال : فأكب هشام يبكى، وقام عطاء. فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ، وقال : إن أمير المؤمنين قد أمر لك بهذا، فقال : ما أسألكم عليه من أجر، إن أجرى إلا على رب العالمين. ثم خرج وما شرب عندهم حسوة ماء فما فوقها. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ175:174 )

(6) شيبان الراعي ينصح هارون الرشيد:

لما حج هارون الرشيد قيل له : يا أمير المؤمنين، قد حج شيبان. قال : اطلبوه لي، فأتوه به، فقال : يا شيبان، عظني، قال : يا أمير المؤمنين، أنا رجل ألكن، لا أفصح بالعربية، فجئني بمن يفهم كلامي حتى أكلمه. فأتى برجل يفهم كلامه، فقال له بالنبطية(اللغة القديمة في العراق) : قل له : يا أمير المؤمنين، إن الذي يخوفك قبل أن تبلغ المأمن، أنصح لك من الذي يؤمنك قبل أن تبلغ الخوف، قال له : أي شيء تفسير هذا ؟ قال : قله : الذي يقول لك : اتق الله فإنك رجل مسئول عن هذه الأمة، استرعاك الله عليها، وقلدك أمورها، وأنت مسئول عنها، فاعدل في الرعية، واقسم بالسوية، وانفذ في السرية، واتق الله في نفسك، هذا الذي يخوفك، فإذا بلغت المأمن أمنت، هذا أنصح لك ممن يقول : أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم وفى شفاعته، فلا يزال يؤمنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت، قال : فبكى هارون حتى رحمه من حوله، ثم قال : زدني، قال : حسبك. ( مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة صـ179 )

أسألُ اللهَ الكريم، رب العرش العظيم، أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم.

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.