التبرك المشروع والممنوع (2)

البركة : الزيادة والنماء وقد وردت مادتها في القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها ما خصه الله سبحانه وتعالى بمكان من الأرض كما قال تعالى : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) [ الأعراف : 137] ومنها ما خص الله سبحانه وتعالى بها رجالاً كما قال تعالى : ( اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) [هود : 48] . ومنها ما جعله الله عز وجل في صفاته كما قال تعالى: ( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) [ النور: 61].

فمن الأماكن المباركة: المساجد، خاصة المساجد الثلاثة، لذا فإن بركة المساجد تعم كل من صلى فيها فريضة بمضاعفة الثواب إلى خمس وعشرين أو سبع وعشرين ضعفًا وتزيد المساجد الثلاثة في هذه البركة فتضاعف بخمس مائة وألف ومائة ألف. ولا تتعدى هذه البركة إلى الجدران والأعمدة والتراب والحصى .

ومن الذوات المباركة : ذوات الأنبياء ، فتحصل البركة لكل من تبع سنتهم، واقتدى بهم ، وسار على هديهم ، وعمل بالشرع الذي أنزل عليهم . كما تحصل البركة لمن حاز من آثارهم كشعر وعرق وريق أو غيره مع شرط الإيمان والاقتداء .

يقول الشيخ صالح آل الشيخ في كتاب ( هذه مفاهيمنا ) ما ننقل منه ملخصًا: البركة في ورودها في الكتاب والسنة قسمان:

الأول : بركة ذات ، وأثرها أن يكون ما اتصل بتلك الذات مباركًا وهذا النوع للأنبياء والمرسلين لا يشركهم فيه غيرهم حتى أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا يشركونهم في هذه البركة .

ولا يتعدى أثر بركة الأنبياء إلا لمن كان مقتديًا بعمله منتهٍ بنهيه ولذا لم تتعد إلى الصحابة بركته – صلي الله عليه وسلم – في معركة ( أحد ) حين خالفوا أمره وعصوه ، هذا النوع من تعدي البركة قد انقطع بعد موت النبي – صلي الله عليه وسلم – إلا ما كان من أجزاء ذاته باقيًا بيقين بعد موته عند أحد .

وقد ذهب ذلك المتيقن مع انقراض قرن الصحابة رضي الله عنهم .

الثاني : بركة عمل واتباع ، وهي عامة لكل من وافق عمله سنة النبي – صلي الله عليه وسلم- ، فكل مسلم فيه بركة عمل مقدرة بقدر اتباعه ، فالعالم بالسنة له بركة علمه والعامل بكتاب الله فيه بركة عمل . وهذه البركة لا تتعدى إلا بالأعمال لا بالذات ، لذا قال أسيد بن حضير : ( ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ) .

ومعلوم أن أسيد وغيره لا يبتغي من أبي بكر وآله بركة ذات في شعره وعرقه وثوبه .

وإنما هي بركة عمل وإيمان وتصديق ونصرة واتباع .

ومن ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها لما تزوج النبي – صلي الله عليه وسلم – جويرية بنت الحارث قالت : فما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها . فهذه بركة عمل لتزوج النبي – صلي الله عليه وسلم – بها فكان أن سبب ذلك عتق كثير في قومها ( انتهى ).

قال الألباني في ( التوسل أنواعه وأحكامه ) : لابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره – صلي الله عليه وسلم – ولا ننكره خلافًا لما يوهمه صنيع خصومنا ، ولكن لهذا التبرك شروطًا منها : الإيمان الشرعي المقبول عند الله فمن لم يكن مسلمًا صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا ، كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلاً على أثر من آثاره – صلي الله عليه وسلم – ويستعمله ، ونحن نعلم أن آثاره – صلي الله عليه وسلم – من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين ، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرًا نظريًا محضًا فلا ينبغي إطالة القول فيه .

حول أحاديث التبرك جاء في البخاري في الحديث الطويل في صلح الحديبية : ( ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي – صلي الله عليه وسلم – بعينيه قال : فوالله ما تنخم رسول الله – صلي الله عليه وسلم – نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له . فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك . ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت مليكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد – صلي الله عليه وسلم – محمدًا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده . وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها …. ) .

قال ابن حجر في ( الفتح ) : لعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا في ذلك إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم وكأنهم قالوا بلسان الحال : ما يحب إمامه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه ؟ بل هم أشد اغتباطًا به وبدينه وبنصره من القبائل التي تراعي بعضها بعضًا بمجرد الرحم فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ . ( انتهى ) ، ومعنى هذا أن التبرك هذا مباح وإن كانت المبالغة فيه لشهود عروة بن مسعود الثقفي نائبًا عن قريش وهو وافد الملوك يعجبه أُبهة الملُك فواجهه النبي – صلي الله عليه وسلم – بالذي يعجبه والذي إذا حكاه لقريش لانوا إلى الصلح وعدلوا عن القتال .

ولقد كان موقف الحديبية حافلاً بمثل ذلك ، فإنه عندما وفد إليهم من قبل قريش رجل من بني كنانة وهم قوم يعظمون البيت بعثوا الهدي في وجهه واستقبله الناس بالتلبية .

فلما رأى الرجل ذلك قال : سبحان الله . ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت .

هذا وإن موقف الجهاد وحضور العدو يكون فيها ما لا يكون في سواها من المواقف فهذا أبو دجانة سماك بن خراش رضي الله عنه يسير يوم أحد بسيفه يتبختر أما العدو فقال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ( إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في مثل هذا الموطن ) .

ومثل هذا حديث البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال : كنت عند النبي – صلي الله عليه وسلم – وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال ، فأتى النبي – صلي الله عليه وسلم – أعرابي فقال : ألا تنجز لي ما وعدتني ؟ فقال : له : ( أبشر ) . فقال : قد أكثرت عليَّ من أبشر . فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال : ( رد البشرى ، فاقبلا أنتما ) . قالا : قبلنا . ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال : (اشربا منه ، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا ) فأخذا القدح ففعلا ، فنادت أم سلمة من وراء الستر : أن أفضلا لأمكما ، فأفضلا لها منه طائفة ، فكأن ذلك كان في محضر كثير من حديثي العهد بالإسلام فأراد أن يريهم بأمر مباح منزلته عند أتباعه من المسلمين وكيف أنهم يستمعون لأمره ويعظمون قدره .

هذا وأحاديث التبرك بشعره وبوضوئه وقعت غالبها في مثل هذه المواقف كما حدث في أكبر جموعه شهودًا في حلق شعره في حجة الوداع بمنى وفي وضوئه بالأبطح حيث يجتمع الحجاج وحيث يستعدون للرحيل وفيهم من لم يسبق لهم رؤية النبي – صلي الله عليه وسلم -.

هذا فإن كانت الآثار النبوية التي يتبرك بها قد انقطعت فإن رسول الله – صلي الله عليه وسلم- يرشد إلى الأمر الذي لا ينقطع ، فلقد أخرج البيهقي في ( الشعب ) عن عبد الرحمن بن أبي قراد أن النبي – صلي الله عليه وسلم – توضأ يومًا فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي – صلي الله عليه وسلم – : ( ما يحملكم على هذا ؟ ) قالوا : حب الله ورسوله . فقال النبي – صلي الله عليه وسلم – : ( من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث ، وليؤد أمانته إذا اؤتمن وليحسن جوار من جاور ) : قال الألباني في ( مشكاة المصابيح ) رقم ( 4990) : حديث حسن وأخرجه السيوطي في (جامع الأحاديث ) رقم ( 22081) وقد ذكره ابن كثير في تفسير الآية 36 من سورة النساء .

الحديث العاشر ونسبه إلى الطبراني وأبو نعيم . وقال الألباني: خرجته في ( الصحيحة ) رقم ( 2998).

من أحاديث التبرك بالنبي – صلي الله عليه وسلم –

1- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي – صلي الله عليه وسلم – كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث . فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها أخرجه البخاري ومسلم .

2-  أخرج مسلم في كتاب الفضائل ، باب قرب النبي عليه الصلاة والسلام من الناس وتبركهم به ، عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله – صلي الله عليه وسلم – إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها .

فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها .

3- أخرج مسلم في ( صحيحه ) كتاب الحج باب السنة أن يرمي ثم ينحر ، عن أنس أن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال للحلاق : ( خذ ) وأشار إلى جانبه الأيمن ثم جعل يعطيه الناس فوزع الشعرة والشعرتين بين الناس ثم قال بالأيسر فصنع ثم قال : ( ههنا أبو طلحة ) فدفعه إلى أبي طلحة .

4-  روى مسلم في ( صحيحه ) عن أنس عن أم سليم أن النبي – صلي الله عليه وسلم – كان يأتيها فيقيل عندها فتبسط له نطعًا فيقيل عليه وكان كثير العرق فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير فقال النبي – صلي الله عليه وسلم – : ( يا أم سليم ما هذا ؟ ) قالت : عرقك أدوف – أي أخلط – به طيبى – وفي رواية نرجو بركته لصبياننا . قال : ( أصبت ).

5-  أخرج البخاري في ( صحيحه ) عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن امرأة أهدت بردة للنبي – صلي الله عليه وسلم – فأخذها فلبسها محتاجًا إليها فقال له رجل : يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها فقال : ( نعم ) فلما قام النبي – صلي الله عليه وسلم – لامه أصحابه فقالوا : ما أحسنت حين رأيت النبي – صلي الله عليه وسلم – أخذها محتاجًا إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه . فقال : رجوت بركتها حين لبسها النبي – صلي الله عليه وسلم – لعلي أكفن فيها .

6- حديث أم عطية عند الشيخين في تكفين ابنة النبي – صلي الله عليه وسلم – لما أعطاهم إزاره وقال: ( أشعرنها إياها ).

7-  حديث أبي أيوب الأنصاري عند مسلم في تتبعه موضع أصابع النبي – صلي الله عليه وسلم – في الإناء بعد أكله منه .

8- حديث سعد بن سعد عند الشيخين في قول ابن عباس لما استأذنه أن يعطي أشياخًا عن يساره الإناء بعد ما شرب منه فقال ابن عباس: لا أوثر بنصيبي منك أحدًا.

9-  أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : دعا رسول الله – صلي الله عليه وسلم – بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال : ( اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا ) فأخذا القدح ففعلا ما أمرهما به رسول الله -صلي الله عليه وسلم – فنادتهما أم سلمة من وراء الستر : أفضلا لأمكما مما في إنائكما ، فأفضلا لها منه طائفة ، قال ابن حجر : والغرض منه ( إيجاد البركة بريقه المباركة ) .

10-  أخرج مسلم في ( صحيحه ) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت عن جبة عندها : هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت قبضتها وكان النبي – صلي الله عليه وسلم – يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفي بها .

بركة الصالحين يقول ابن تيمية في ( الفتاوى ) ما ملخصه : أما قول القائل ( نحن في بركة فلان ) فهذا الكلام صحيح باعتبار ، باطل باعتبار ، أما الصحيح أن يراد أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر . فحصل لنا الخير باتباعه وطاعته وأيضًا ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل الرزق والنصر ، ففي الحديث : ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ) بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ، بل قد يدفع الله العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين لقوله تعالى : ( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) [ الفتح : 25] ، وكذلك قول النبي – صلي الله عليه وسلم – : ( لولا ما في البيوت من النساء والذراري لأمرت بالصلاة فتقام ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم ) ، وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها . فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود .

وأما المعنى الباطل فمثل أن يريد الإشراك بالخلق: مثل أن يكون رجل مقبور بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل . فقد كان رسول الله – صلي الله عليه وسلم – سيد ولد آدم مدفونًا بالمدينة عام الحرة وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله. وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالاً أوجبت ذلك .

وكذلك الخليل – صلي الله عليه وسلم – مدفون بالشام وقد استولى النصارى (1) على تلك البلاد قريبًا من مائة سنة .

وكان أهلها في شر ، وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره وتقبيل الأرض عنده ونحو ذلك يحصل له السعادة وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله .

وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له ويدخله الجنة بمجرد محبته وانتسابه إليه .

فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة فهو من أحوال المشركين وأهل البدع باطل لا يجوز اعتقاده ولا اعتماده ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ( انتهى ) .

وقد بيَّن جانبًا من ذلك الشاطبي في ( الاعتصام ) في أوائل الجزء الثاني منه فليراجع لأهميته ونفاسته .

هذا والأدلة التي وردت في التبرك بآثار النبي – صلي الله عليه وسلم – لا يقاس عليها غيره فلا يقال بجواز التبرك بالصالحين وآثارهم .

ويقول ابن باز في مجلة ( صوت الأمة الهندية ) عدد شعبان 1416 ( ص 22) : والواجب على المسلمين الاتباع والتقيد بالشرع والحذر من البدع القولية والعملية ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بشعر الصديق رضي الله عنه أو عرقه أو وضوئه ولا بشعر عمر أو عثمان أو علي أو عرقهم أو وضوئهم ولا بعرق غيرهم من الصحابة وشعره ووضوئه لعلمهم بأن هذا أمر خاص بالنبي – صلي الله عليه وسلم – ولا يقاس عليه غيره في ذلك .

وقد قال الله عز وجل : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [ التوبة : 100] .

الغلو في الصالحين : أخرج البخاري في ( صحيحه ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب بعد ، أما وُد فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني عُطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتَنَسخ العلم عبدت .

وأخرج أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي – صلي الله عليه وسلم – فقال : ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) وكان ذلك في مرض النبي – صلي الله عليه وسلم – فانظر – رعاك الله وأرشدك – كيف كان السؤال عن كنيسة والأحاديث دالة على أن ذكرها كان ذكر إعجاب منها وأن اسمها مارية حيث في رواية ( فذكرن من حسنها وتصاوير فيها فرفع النبي – صلي الله عليه وسلم- رأسه فقال …. ) .

وتدبر لتعلم أن ذلك الحكم لا يقبل النسخ فهو محكم من أهم محكمات الشريعة ، وأنه – صلي الله عليه وسلم – لم يقل بنوا على قبره كنيسة إنما قال : ( مسجدًا ) ليعرف الناس أن هذه الأمة مشمولة بالنهي والتحريم ، ويدل على ذلك أيضًا حديث مسلم الذي أخرجه عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة ، ورواية عائشة : قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – في مرضه الذي لم يقم منه : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا .

قال ابن حجر في ( الفتح ) : فوجه التعليل أن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاة كما صنع أهل الجاهلية ، وجرهم ذلك إلى عبادتهم . وتدبر كيف أن ذلك كان تعليقًا على كنيسة عظيمة فلا يصح أن نفهم أن الصلاة على القبر بمعنى فوقه إنما بناء المسجد من أجل القبر أو الدفن في المسجد تعظيمًا لذلك الصالح.

تنبيه: النبي – صلي الله عليه وسلم – لم يدفن في مسجده ولا بني المسجد على قبره، راجع لذلك ما كتبه الشيخ محمد على عبد الرحيم رحمه الله بذلك الشأن.

هذا ولقد نهى رب العزة عن الغلو في الأنبياء على شرف منزلتهم فقال تعالى : ( يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) [ النساء : 171]  ، ولقد جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) ، لكن الشيطان وسوس للناس فشابهوا النصارى في غلوهم وشركهم في بناء المساجد على القبور ، وصلوا فيها ، وطافوا بتلك القبور واستغاثوا بها ، وزعموا أنها تكشف الكربات وتقضي الحاجات ، وظنوا أن الصلاة في هذه الأضرحة أفضل من الصلاة في المساجد .

وفي حديث ابن عباس أن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال : ( إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) فإذا كان النهي قد ورد في الغلو في الأنبياء وفي خاتمهم – صلي الله عليه وسلم – وهو صاحب المنزلة العالية العظيمة عند الله فكيف بغيره من الصالحين والأولياء فهي باب الشرك وسببه ولذا فإن الشرع جاء بحماية التوحيد والبعد عن الشرك ، ولما كان ذلك الغلو في الصالحين تضافرت نصوص الشرع قرآنًا وسنة وكان عليها أقوال الأئمة في ذلك ، لأن التوحيد والإخلاص والنهي عن الشرك أهم مقاصد الشريعة والله أعلم .

وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .