عن أبي عمرو الشيباني واسمه سعد بن إياس . قال حدثني صاحب هذه الدار وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود . قال : سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل ؟ قال : الصلاة على وقتها . قلت ثم أي ؟ قال : بر الوالدين . قلت ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله . قال : حدثني بهن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولو استزدته لزادني (1) (متفق عليه) .
إن الغاية الكبرى والحكمة الإلهية التي أبيح من أجلها الجهاد والقتال هي : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) فالجهاد للقضاء على الفتنة وليس لإحداث الفتنة ، حيث يريد الله سبحانه أن يكون العالم الإنساني أمة واحدة يحيون لله يقيمون أمره ويحكمون بعدله الذي شرعه . أمة يرعى فيها الغني دنيا الفقير بالرحمة ، والقوي حال الضعيف بالرعاية ويسعى أعلاهم لأدناهم في ساعة العسرة في صفاء الأخوة وصدق المحبة والحنو الودود من الرحمة ، تزكي مشاعر النفس محبة العبد لربه سبحانه تلك هي الأمة المنشودة التي أنزل الله سبحانه شرعه من أجل بنائها ، وجعل لكل فرد قيمة . فالجناية على الفرد الواحد جناية على البشرية جمعاء والخير حين عُد أسبابه للفرد الواحد يشمل الإنسانية كلها ، قتل إنسان في فتنة قتل لكل الأفراد وتيسير أسباب الحياة لواحد منهم إمداد لكل الأحياء حيث يقول سبحانه : (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) .
صان الإسلام دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فحرمها من بعضهم على بعض فلا تحل إلا بإذن من الله ورسوله فيخطب النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع يقول : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) ويقول- صلى الله عليه وسلم – : (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ويقول – صلى الله عليه وسلم – : (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
هذا ومع أن الأمة الإسلامية هي أمة الجهاد ، إلا أن غاية الفساد الذي منيت به هذه الأمة في أيامنا هذه أن سرى في بعض أبنائها معنى غريب للجهاد صور فيه بعضهم الانقلابات العسكرية جهادًا والقيام بالمظاهرات جهادًا واستخدام المنابر لكشف عورات الحكام والمحكومين جهادًا وسرقة أموال بعض العصاة والكفار جهادًا والاغتيال جهادًا وترويع الآمنين بإلقاء المتفجرات في الأماكن العامة جهادًا . وقتل السياح الوافدين إلى بلاد المسلمين جهادًا وغير ذلك كاختطاف الطائرات وقتل الأبرياء واستحلال الأموال وتكفير المسلمين . كل ذلك ألصق زورًا وبهتانًا بكلمة الجهاد وهي منه بريئة بل إن الله بعث نبيه – صلى الله عليه وسلم – بشرع يحفظ على الناس ضرورات خمس (الدين والنفس والعرض والمال والعقل) فكل ما هدد واحدة منها فهو مخالف لشرع الله محارب لله ولرسوله .
هذا الفهم الغريب والمريب أوقع كثيرًا ممن شهدوا ألا إله إلا الله وشهدوا أن محمدًا رسول الله في الغلو فوقعت بينهم الإحن والعداوات ورفعوا السلاح فسفكت الدماء ومن المرارة البالغة أن ألصق ذلك باسم الإسلام . فحُمل السلاح على المسلمين من مسلمين باسم الجهاد ، مع أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : (من حمل علينا السلاح فليس منا ) .
يقول ابن حجر : ليس منا أي ليس على طريقتنا لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يروعه ويحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله (ثم قال ابن حجر) هذا في حق من لا يستحل ذلك . فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم .
هذا حتى أخذ المنافقون وأعداء الإسلام يشوشون بذلك على الإسلام وأهله وطلبته والله غالب على أمره .
هذا الفهم الغريب غلو في دين الله حرمه الله ورسوله وجاء التحذير منه وقد أصل هذه المسألة علماء الإسلام قديمًا وحديثًا ومن ذلك قولهم (1) : الغلاة تجدهم على تكرر العصور يربط بينهم خصائص معينة وتجمعهم أوصاف بيِّنة تكاد تطرد فيهم وقد ذكر العلماء لهم أوصافًا إجمالية وتفصيلية المشترك منها في كثير من فرق الغلاة وصفان يجمعان قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : (يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ) أي أنهم يتصفون بعدم فهم القرآن الكريم كما يتصفون باستحلال دماء المسلمين .
قال النووي : المراد أنهم ليس لهم حظ إلا مرور القرآن على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم لأن المطلوب هو تعقله وتدبره بوقوعه في القلب . وعدم فهمهم للقرآن يجعلهم (كما قال ابن عمر) يأخذون آيات نزلت في الكفار فيجعلونها على المسلمين ، ويزيد الأمر بلية أنهم يدَّعون العلم مع جهلهم . وينتقصون العلماء ويسعون في الفتنة ويعيبون القاعدين عنها كأنهم في جهاد . ذلك ورسول الله- صلى الله عليه وسلم – يقول : (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم . والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي . من تشرف لها تستشرفه . فمن وجد منها ملجأ أو معاذًا فليعذ به ).
ذلك إذا كان بذل الجهد يطيل من عمر ذلك القتال ويكثر من سفك الدماء صار السكون خير من الحركة وكلما زاد بذل الجهد زادت فيه الفتنة . ولا يعني ذلك ترك السعي للخير لمن استطاعه إنما ذلك يكون لمن يثمر سعيه خيرًا . لذا فإن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه لما أحاط به الخوراج منع الجند من حراسته حتى لا يقع في الناس سفك الدماء ففدى المسلمين بدمه هو . وكذلك فعل خير ابني آدم . حتى إن النبي- صلى الله عليه وسلم – ندب في الفتنة إلى تعطيل آلة القتال (لأن تستعرض بسيفك أحدًا) أي تضرب به الجبل حتى تُعطل حده فلا يغريك به الشيطان فيوقعك مع أهل القتال في الفتنة ولو كان ثمن ذلك أن تكون كخير ابني آدم فتبرأ من الإثم وتنجوا عند ربك فلا تبسط يدك لقتل أحد . ويبوء الآخر بالإثم كله فلا يتسلسل القتل . لكنه في آخر الزمان يقتتل الناس فلا يدري القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قتل .
ولقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : (إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيه الهرْج . والهرْج القتل ) .
هذا مع أن المولى سبحانه قد أكمل شرعه وأتم دينه وجعله كافيًا للناس يحكمهم في كل حال ، إن حكموه سعدوا وصلحوا وتخلصوا من الفساد في أنفسهم ومن حولهم . جعل الشرع للحاكم نظامًا وللمحكوم كذلك جعل للحاكم نظامًا عند استقامة الرعية يحفظ به استقامتها فتزداد استقامة ، وللحاكم نظامًا عند فساد الرعية تعتدل به الرعية ويزول اعوجاجها وفسادها . وجعل للرعية نظامًا عند صلاح الراعي واستقامته تبقى الأمة به في صلاحها بل وتزداد منه. وجعل للرعية نظامًا عند فساد الراعي يصلح به فيقل الفساد ويزداد الخير وينتشر الرشاد بين الناس . فالشرع الشريف أكمله الله سبحانه ليحكم في كل حال ويؤدي إلى الصلاح والإصلاح ويزيل الفساد . فلا يجوز لأحد أن يبتدع من عند نفسه ولا لجماعة كذلك أن تبتدع مالم يأذن به الشرع . ثم يدعي أن هذا الذي يفعله لمصلحة شرع الله ودعوته . لأن هذا سوء ظن بالله وشرعه . فالله هو الملك وهو قادر على إحياء شرعه في أرضه وكونه . فالله سبحانه قال : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) وهو القائل : ( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) وهو القائل سبحانه ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) فكل من يدعي أن عملا يصلح به حال الناس ولم يعمل به رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وأهل القرون الثلاثة الأولى فهو مبتدع ضال لا يجوز اتباعه .
نصيحة يقول د . سعد الدين صالح : أما واجب الشباب المسلم فهو التعقل والاتزان والبعد عن التهور والحماس الزائد وتجنب الاصطدام بالحكام ويكفيهم تربية أنفسهم وذويهم تربية إسلامية ذلك أن الفرد المسلم يخلق (2) الأسرة المسلمة والأسرة المسلمة تخلق المجتمع المسلم والمجتمع المسلم يلد الحكومة المسلمة وكيفما تكونوا يولى عليكم .
أما أن يقف الشباب المسلم أمام التيار وهو أضعف من أن يتحمل قوته فذلك مساوي الانتحار ذلك أن السياسة لعبة خطيرة ذات أطراف متعددة والفوز فيها لا يكون إلا للأقوى خاصة وأن هناك قوى عالمية تقف بحزم أمام العودة إلى الإسلام (3) .
ومن هنا كان على الشباب المسلم أن يعد نفسه أولاً بقوة العقيدة والتنظيم .
ولا يستعجل النتائج بالأعمال المتهورة.(انتهى من كتاب احذروا الأساليب الحديثة -ص308).
الجهاد في سبيل الله دعوة
وإنما شرع الجهاد للدعوة إلى الله سبحانه حتى في نظام الرق (4) الذي وصفه الإسلام فهو دعوة جميلة جعلت تاريخ الإسلام ملئ بالموالي وأبنائهم الذين صاروا علماء فلم يمنعهم أصلهم وعبوديتهم من السيادة بالعلم والعمل ، لذا فإن قتل السياح أو سرقة الكفار أو ظلمهم مخالف تمامًا لشرع الله . لذلك ننقل من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية بشأن معاملة غير المسلمين قولهم : الإسلام دين السماحة واليسر والسهولة وهو مع ذلك دين العدالة والإكرام للرفيق من الآداب الإسلامية لكن إذا كان كافرًا فيختلف الحكم باختلاف قصد المكرم له وباختلاف ما يكرمه به . فإذا كان المقصود شرعيًا لكونه يريد إيجاد انسجام بينه حتى يدعوه إلى الإسلام وينقله من الكفر والضلال فهذا قصد نبيل ومن القواعد المقررة في الشريعة أن الوسائل لها حكم الغايات فإذا كانت الغاية واجبة وجبت الوسيلة وإذا كانت الغاية محرمة حرمت الوسيلة وهكذا . وإذا لم يكن مقصود شرعي في الإكرام ولم يترتب على تركه ضرر على هذا المكرم في دينه أو نفسه أو أهله أو ماله فلا يجوز ذلك . وإن ترتب عليه ضرر جاز. وأما إكرامهم بالطعام والشراب مما حرمه الله جعل وعلا كلحم الجنزير والخمر فهذا لا يجوز فإن إكرامهم بذلك معصية لله وطاعة لهم وتقديم لحقهم على حق الله والواجب على المسلم هو التمسك بدينه وعدم الإعانة على الإثم والعدوان . (وتقول اللجنة أيضًا) موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي محبتهم ونصرتهم على المسلمين لا مجرد التعامل معهم بالعدل ولا مخالطتهم لدعوتهم للإسلام وغشيان مجالسهم والسفر إليهم للبلاغ ونشر الإسلام . (انتهى) .
فبلاد الكفر تغتنم فرص من يسافر إليهم لتزين له الكفر وتدعوه إليه . وهؤلاء يغتنمون وجود السياح ليشوهوا لهم الإسلام وينفروهم منه ولا حول ولا قوة إلا بالله .
هذه كلمات قصيرة ولمحات خاطفة أصلها أبحاث طويلة سطر فيها كثير من طلبة العلم ولكني أردت الإشارة حيث تعرضنا للحديث عن الجهاد في سبيل الله . وبسط هذا الموضوع لا يتسع له مثل هذا المقال وفي الإشارة كفاية والله من وراء القصد .
——————————-
(1) هذه هي الحلقة الرابعة في شرح هذا الحديث وهي الثانية في الكلام عن الجهاد .
(2) راجع كتاب الغلو في الدين .
(3) يقصد الدكتور بلفظه يخلق أي يصنع ويكون كقول الشاعر : (ولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري) وإن كان الأفضل ألا تستخدم لفظة (يخلق) في حق البشر لأن الله سبحانه قال : ( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وقال : ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وقال : (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ) وقال ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل ) .
(4) فالله غالب على أمره يرجع دينه وينصره مهما تجمعت قوى الشر وإنما ينصر الله من عمل بدينه الذي أنزل ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين ) .
(5) الرق في الإسلام حكم من أحكام الجهاد .