استباق الخيرات … والحسد المذموم!!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين من أرسله ربه رحمة للعالمين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

وبعد:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا تَحاسُدَ إلا في اثنين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه في حقه فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل».

هذا الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة في ثلاثة مواضع من صحيحه؛ في كتاب فضائل القرآن باب اغتباط صاحب القرآن برقم (5026)، وفي كتاب التمني باب تمني القرآن والعلم برقم (7232)، وفي كتاب التوحيد باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رجل آتاه الله القرآن» برقم (7528)، كما أخرجه أيضًا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في موضعين؛ في كتاب فضائل القرآن برقم (5025)، وفي كتاب التوحيد برقم (7529) .

وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين عن ابن عمر رضي الله عنهما باب فضل من يقوم بالقرآن برقم (266، 267)، كما أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة باب ما جاء في الحسد برقم (1936)، كما أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد باب الحسد برقم (4209)، والدارمي في فضائل القرآن، وأحمد في المسند (2/9، 36، 88، 133، 479، 4/105، 5/14).

شرح الحديث:

الحسد هو تمني زوال النعمة عن المنعم عليه سواء تمناها لنفسه أم لا، وهو مذموم شرعًا وعقلاً وعرفًا، والدافع إلى الحسد أن الطباع جبلت على حب الترفع والتعالي على الجنس، فإذا رأى نعمة أنعم الله بها على غيره وليست له أحب أن تزول هذه النعمة عن صاحبها، وتأتيه هو ليرتفع عليه، أو أن تزول عن صاحبها فقط حتى يتساويا في عدم التمتع بها .

وصاحب الحسد مذموم إن عمل بمقتضى ذلك من قولٍ أو فعلٍ أو عزمٍ، وينبغي لمن خطر له الحسد أن يكرهه كما يكره ما طبع عليه من حب المنهيات، واستثنى العلماء من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على فعل المنكرات وارتكاب المعاصي .

وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة: وعرفها بعض العلماء بأن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على ذلك يسمى منافسة، قال الحافظ في الفتح: فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}، وإن كان في المعصية فهو مذموم، ومنه: «ولا تنافسوا»، وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم – أو أفضل – من الغبطة في هذين الأمرين، قال: ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما .

وقوله: «لا تحاسد» أي: لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يَحْسُنُ الحسدُ إن حَسُنَ، أو أطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين، كأنه قيل: لو لم يحصلا إلا بالطريق المذموم لكان ما فيهما من الفضل والخير حاملاً على الإقدام على تحصيلهما به فكيف والطريق المحمود يمكن تحصليهما به وهو من جنس قوله تعالى: «فاستبقوا الخيرات» فإن حقيقة السبق أن يتقدم على غيره في المطلوب وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: «لا حسد» .

وقد أشار إلى البدنية بإتيان القرآن والقيام به، والمراد بالقيام به العمل به مطلقًا، أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها ومن تعليمه والحكم والفتوى بمقتضاه، وقد جاء في رواية لأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي «رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ويتبع ما فيه» . قوله: «إلا في اثنتين»: قال الحافظ: كذا في معظم الروايات «اثنتين» بتاء التأنيث، أي لا حسد محمود في شيء إلا في خصلتين، وعلى هذا فقوله: «رجلٌ» بالرفع، والتقدير: خصلةُ رجلٍ حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وللمصنف في الاعتصام «إلا في اثنين»، وعلى هذا فقوله: «رجل» بالخفض على البدلية . ويجوز النصب بإضمار «أعني» وهي رواية ابن ماجه .

وفي حديث: «إلا على اثنتين»: تقول حسدته على كذا أي على وجود ذلك له، وأما حسدته في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا وكأنها سببته .

قوله: «رجل آتاه الله القرآن» وللمصنف في باب اغتباط صاحب القرآن من كتاب فضائل القرآن: «رجل علمه الله القرآن»: أي أن الله تعالى أنعم عليه بالقرآن كاملاً تلاوة وحفظًا وتدبرًا وفهمًا وعلمًا وعملاً، لا يعدل عنه إلى غيره يحكمه في شئون حياته كلها.

وقوله: «يتلوه آناء الليل وآناء النهار» وفي رواية: «من آناء الليل» بزيادة من، وفي حديث ابن عمر: «وقام به آناء الليل»، والمقصود أنه مشغول بالقرآن ليلاً ونهارًا، يتلوه ويتدبره ويعمل به .

قوله: «يقول لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل» . وعند المصنف في كتاب فضائل القرآن: «فسمعه جار له فقال: «ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل» أي يتمنى من يغبطه جاره أو الذي لم يؤت القرآن أن يرزقه الله تعالى علم الكتاب مثل جاره فيعمل مثل عمله، وهذا التمني مأجور عليه كما جاء في حديث أبي كبشة الأنماري عند الترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي: «إنما الدنيا لأربعة نفر؛ عبدٍ رزقه الله مالاً وعملاً فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزهما سواء» .

فصاحب القرآن معروف بسمته وخلقه وعلمه وعمله قائم لله به آناء الليل والنهار يعمل به فيظهر ذلك في سلوكه وفي عقيدته وعبادته ومعاملاته، والكيس من جيرانه أو ممن يعاملونه ويخالطونه يقتدي به، ومن لم يستطع أن يصل إلى درجته تمنى أن يكون له مثل غبطة له، ولا يتمنى زوال العلم والقرآن عنه، بل يتمنى المماثلة والانتفاع بالقرآن وبصاحبه في الاقتداء والعمل .

وقوله: «ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في حقه» وللمصنف عن ابن عمر: «فهو يتصدق به آناء الليل والنهار»، وله أيضًا في حديث أبي هريرة في كتاب فضائل القرآن: «فهو يهلكه في الحق» . وعند المصنف في «صحيح مسلم كذلك في حديث ابن مسعود: «فسلطه على هلكته في الحق» . والتعبير بالتسليط يدل على قهر النفس المجبولة على الشح، كما أن التعبير بالهلكة يدل على أنه لا يبقي منه شيئًا، والمراد بإهلاكه إنفاقه على الأهل والولد، والبر والصلة والصدقة حتى كأنه لم يبق منه شيئًا .

وأما قوله: «في الحق» فهو قيد لإنفاق المال وإهلاكه بأن يكون في الحق أي في الطاعات ليزيل عنه ما يمكن أن يتوهم من الإسراف والتبذير المذمومين . قال الحافظ في الفتح: «قوله فهو يهلكه في الحق» فيه احتراس بليغ، كأنه لما أوهم الإنفاق في التبذير من جهة عموم الإهلاك قيده بالحق .

قوله: «فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل» . وفي كتاب فضائل القرآن عند المصنف: «فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل»: أي أن هذا الغني الموفق الذي رزقه الله تعالى المال فسلطه على هلكته في الحق يراه الناس يعمل الخيرات ويسابق إليها ويسارع فيها فحينئذ يتمنى من يغبطه أن يكون له مال مثله ويرجو الله عز وجل أن يوفقه في إنفاقه في وجوه الخير .

قال النووي في شرح مسلم: «آناء الليل والنهار» أي: ساعاته، وواحده آنٌ: وإِنْيٌ، وأنْيٌ .

وقال ابن عبد البر في الاستذكار: وقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم الحسد في الخير وأورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشار إليه فيما سبق، وكذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ثم قال: ويقال إن الحسد لا يكاد يسلم منه أحد، فمن لم يحمله حسده على البغي لم يضره حسده، وروى عن الحسن البصري أنه قال: «ليس أحد من ولد آدم إلا وقد خلق معه الحسد، فمن لم يجاوزه إلى الظلم والبغي لم يتبعه منه شيء» . ثم قال رحمه الله: وقد أشبعنا هذا المعنى بالآثار عن السلف في ذم الحسد وفضل من لم يحسد الناس .

وفي الحديث الحث على التنافس في الأعمال الصالحة ولا سيما ما يقوم عليه أمر الإسلام في كل زمان ومكان، وهما العلم والمال، فأما العلم فأصله كتاب الله تعالى الذي هو أصل الدين، فإذا وجد القرآن وجد الدين، وإذا فرط المسلمون في كتاب ربهم وجهلوه تشجع أعداؤهم على تشكيكهم في كتاب الله من حيث صدقه وأنه من عند الله حقًا، ثم لغته وأنه اشتمل على تناقضات، وحينئذ يجدون أرضًا خصبة لغرسهم الفاسد المهلك الذي يأتي على الأخضر واليابس، وجدوا أرضًا خبيثة لا تخرج إلا نكدًا، فإذا هان على المسلمين قرآنهم وظنوا أنه كتاب ثقة وآداب يمكن الاستفادة منه كما يمكن الاستغناء عنه، إذا حدث ذلك هان عليهم دينهم وأصيبوا بالذل والهوان والضعف والخذلان، فتسلط عليهم الأعداء، وتكالبت عليهم قوى الشر والطغيان، ويكون ذلك بما كسبت أيدينا .

وأما المال فعليه تقوم حياة الأفراد والأمم، فإذا أنفق في حقه، واتقى فيه صاحبُه ربَّه وعمل فيه بالطاعات، وكان المال عونًا له على اجتناب المعاصي والخطيئات، فإنه حينئذ يكون قد وظف ماله في خدمة دينه، فلا يسرف ولا يبذر، ويكون المال عدة للمسلمين في مواجهة أعدائهم، أما إذا بخل المسلم الغني بماله فإن المجتمع تتقطع أواصره وتنفك عرى التواصل والتواد بين أفراده، ويضعف فيصبح نهبًا لأعدائه، تتقاذفه أمواج فتنتهم ويتحكمون في تسيير دفته مرة ذات اليمين وتارة ذات الشمال، أما إذا تمسك المسلمون بدينهم وأخذوا ما آتاهم الله تبارك وتعالى بقوة، ونصروا الله عز وجل، قال الله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، إذا رجعوا إلى دينهم وعرفوا أن عزهم فيه وأنهم لا قوام لهم بغير دينهم، إذا عادوا إلى الله وآمنوا به وتوكلوا عليه فلا شك أن الله سينصرهم على أعدائهم ويرد كيد الأعداء في نحورهم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} .

نسأل الله أن يعزل الإسلام وأهله، وأن يذل الكفر وأهله، وأن يمكن لعباده المؤمنين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.