يقول رب العزة سبحانه فى أول وحيه على خاتم رسله : ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ” .
انظر أيها المسلم الكريم رعاك الله وسدد خطاك كيف بدأ ربنا الأكرم وحيه بالهداية ، فبدأ إنزال القرآن الكريم بهذه الآيات البينات التى جاءت شاملة لتعريف العبد بربه ثم بنفسه ثم بسبيل فلاحه فى العلم والعمل وتصحيح القصد . فعرف ربنا سبحانه بنفسه أنه هو الرب الذى خلق ، والإنسان من خلقه وأنه سبحانه خلق الإنسان من علق وأنه الأكرم الذى علم الإنسان وجعل القلم وسيلة العلم . وعرف سبحانه العبد بنفسه بأنه عبد له رب هو الله ، وأنه مخلوق والله خالقه ، وأنه محتاج للعلم والله هو الذى يعلم ، وأن الذى خلق الأبدان ورباها هو الذى أنزل المنهج الذى لا تصلح الحياة إلا به . وعرف سبيل الفلاح وهو العلم والعمل بمقتضاه والقصد إلى الله فى العلم والعمل فكرر الأمر بالقراءة وكرر نسبة العلم إليه . فانظر بتدبر إلى هذه الآيات لترى فيها ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ” . وفيها ” اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ” . وترى فيها ” عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ ” . وترى فيها ” خَلَقَ الْإِنْسَانَ ” ” عَلَّمَ الْإِنْسَانَ ” فحين يأمره بالقراءة باسم ربه يعنى العمل بمقتضى الأمر والقصد بمعنى أن يكون لله رب العالمين . ولك أن تتدبر المعانى لترى أسباب الفلاح هى نفسها فى الدعاء الذى افتتح به القرآن ترتيباً فى سورة الفاتحة فى قوله سبحانه : ” اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ” ( أى بتصحيح العلم والعمل والقصد ) غير المغضوب عليهم ( أى الذين خالفوا فى العمل مع وجود العلم ) ولا الضالين ( الذين عملوا بغير علم ولا هدى ) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء : اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ( مسلم 4/2088 ) ويعلمنا أن نقول : ” اللهم إنى أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً متقبلاً ” (1) .
فالحديث الشريف يبين أن من العلم علماً نافعاً وعلماً لا ينفع .
وطلب العلم النافع عبادة من العبادات وقربة من القربات التى يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وهو يؤدى إلى العمل الصالح وخشية فى القلب ” إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ” ( فاطر : 28 ) وفهماً وتعقلاً ” وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ” بل وسلوكاً موفقاً . فالعلم لا خير فيه إن لم ينبن عليه سلوك مستقيم ويورث فى النفس عملاً صالحاً كما روى عن ابن مسعود ( إن الناس أحسنوا القول كلهم فمن وافق قوله فذلك الذى أصاب حظه ومن خالف فعله قوله فإنما يوبخ نفسه ) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ” مثل العالم الذى يعلم الناس الخير وينسى نفسه ، كمثل السراج يضىء للناس ويحرق نفسه ” (2) .
على ذلك فالعلم النافع له شرطان : الأول : أن يكون شرعياً . والثانى : أن يكون لله سبحانه ، فإذا خالف العلم الشرع فى ذاته أو قصده فقد مشروعيته .
ولما كان الإسلام ينظر إلى العلم على أنه عبادة من العبادات لذلك أوجب على أتباعه الاحتياط والتثبت فى أخذ العلم فلا يؤخذ إلا عن أهل الأمانة والثقة فى دينهم وعقيدتهم خاصة فيما يتعلق بالقيم الاجتماعية والسلوكية والتصور العام للخلق والتاريخ فلا يجوز أن يتلقى المسلم هذا التصور إلا عمن يوثق فى دينه فيقول الله سبحانه : ” وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ” فسمى الوحى الذى جاءه علماً وما عند أهل الكتاب سماه أهواء .
ولقد امتدح الله سبحانه نفسه بالعلم فى كتابه فى مواضع تعد بالمئات . وامتدح خلقه بالعلم فى مواضع كثيرة منها : “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ” . وقوله : ” وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ” .
ويقول صلى الله عليه وسلم فى طلب العلم وطلبته : ” من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ” أخرجه مسلم .
ولكن قد يكون العلم غير نافع وهو الذى استعاذ منه النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله : ” وأعوذ بك من علم لا ينفع ” وقد ضرب الله سبحانه لهذا العلم الذى لا ينفع المثل فى قوله تعالى : ” يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ” .
وكان هذا المثل أيضاً فى قارون الذى آتاه الله تعالى من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة فقال : ” إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ” . ويقول سبحانه : ” يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ” .
إذا تذكرنا هذا عرفنا أن فرعون كان علمانياً عندما اغتر بالعلم الذى كان فى زمانه عند قومه ورعيته ” وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ” ( القصص : 38 ) انظر كيف يدعى أن العلم الذى عنده أنه ( لا إله إلا فرعون ) ويسخر علوم البناء وهندستها فى تحدى رسالات الله رب العالمين .
فقارن بين هؤلاء وبين الملك المؤمن ذى القرنين الذى آتاه الله العلم فسخره فى طاعته ” قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ” ( الكهف : 95-97) فاستخدم ما علمه الله من خواص المعادن وصهرها فى إقرار الأمن وحماية الخلق وإن كانوا لا يكادون يفقهون قولاً .
فتحت اسم العلم والأدب والفن يعمل جماعة من لصوص الأفكار يتسلقون ليوهموا الناس أنهم على شىء والله سبحانه يقول : ” فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ” ( الرعد : 17 )
إذا فلا بد أن ندعو بصبر واستمرار إلى دين الله إلى الإسلام حتى يرجع الجميع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وطريقنا هو ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ” .
—————
(1) صحيح . أخرجه أحمد ، والنسائى فى اليوم والليلة وابن ماجة وأبو يعلى ( 6930، .. ) والحميدى ، والطبرانى فى الصغير ( 1/260 ) ، وغيرهم من حديث أم سلمة .
(2) حسن . أخرجه الطبرانى فى الكبير ، والخطيب فى اقتضاء العلم العمل ( رقم 70 ) ، من حديث جندب بن عبد الله ، وله شاهد من حديث أبى برزة عند البزار والطبرانى والخطيب ( رقم 71 ) وغيرهم . وانظر صحيح الترغيب .