بيت المقدس .. والأيدي المتوضئة

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه . وبعد ..

يقول المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [النور : 55] .

في الآية الكريمة معان واضحات ولمحات طيبات ، وإرشاد كريم ووعد محقق ، فالآية الكريمة أولاً تفسِّر قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد :7] ، فالإيمان وعمل الصالحات هو سبيل النصر .

وهو ثانيًا بيان العمل الذي من أجله يُمَكّن الله ، عز وجل ، للمؤمنين في الأرض ، وهو : (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) . وهذا بيان لوظيفة الخلق : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات :56] ، وهي الهدف من الحكم بما أنزل الله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون ) [يوسف :40] .

ففي غمرة الأحداث السياسية وصراع أمم الأرض ينسى المسلمون أن الله نصر نوحًا ، عليه السلام ، لما دعاه : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) [القمر :10] . ونصر هودًا وصالحًا ، عليهما السلام ، على كثرة عدوهم وقلة ناصريهم من البشر ، ونصر إبراهيم ولوطًا وموسى وسائر أنبيائه ورسله ، ثم قال لهذه الأمة : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

وقد تحقق الوعد للمؤمنين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وكانوا في أمة لا يُنظر إليها إلا بعين الاحتقار والاستصغار ، فإذا بهم يملكون فارس والروم واليمن وإفريقية ، ويتوغلون في أوربا ، لما كان القوم قد حققوا الشرط : ( ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، لكن الشيطان أغوى أجيالاً من بعدهم : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) [مريم :59] ، ففقدوا بتخليهم عن الوفاء بالشرط : ( ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، فقدوا تحقق الوعد ؛ فإذا ببلادهم تهان بالكافرين والملحدين واليهود والمجوس والصليبيين وأعوانهم وأضرابهم من الكافرين ، فكان أن غاصت بقاع واسعة من بلاد المسلمين تحت الشيوعية ونارها ، وبلاد أخرى تحت الصليبية وكفرها ، وكان أخيرًا أن وقع بيت المقدس أسير اليهود، أشباه القردة والخنازير ، قتلة الأنبياء ، والمغضوب عليهم ، والملعونين في كتاب رب العالمين.

فهل من عودة إلى العزة والنصر والتمكين ؟ الجواب : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

لكن ينبغي علينا هنا أن نعلم ما هو هذا الشرط ؟ إنه الإيمان وعمل الصالحات .

أما الإيمان فأركانه ستة : (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) . وهو الأساس الذي لا ينبغي أن نغفل عنه لحظة ولا أن نهمل منه شيئًا .

أما عمل الصالحات فمعناه فعل المأمورات واجتناب المحظورات طاعة لله وإيمانًا برسوله- صلى الله عليه وسلم – ، لكن الآية جاءت في سورة (النور) وهي السورة التي نزلت مُؤْذِنة بعهد جديد في حياة الرسالة الخاتمة من حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وكان نزولها عُقيب غزوة بني المصطلق التي جاءت بعد غزوة الأحزاب بوقت قصير حيث كانت غزوة الأحزاب آخر غزوة تُهاجِم فيها جيوش المشركين المسلمين في المدينة ، حيث قال النبي – صلى الله عليه وسلم – بعدها : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم ) . هذه رواية في البخاري ، وفي رواية البزار عن جابر ، رضي الله عنه ، بلفظ : (لا يغزونكم بعد هذا أبدًا ، ولكن أنتم تغزوهم) .

فجاءت سورة (النور) تطهر المؤمنين ليقوموا بواجب الجهاد والدعوة فيكونوا محلاًّ لنصر الله تعالى ، فيطهرهم بهذه الأوامر الشرعية التي فصَّلتها السورة الكريمة ، وأجملتها الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) . وإن كانت كلمة (الصَّالِحَاتِ  ) تعني المأمورات امتثالاً ، والمنهيات اجتنابًا ، فإن مأمورات سورة (النور) تصبح مقصودة بطريق الأولى ، فإقامة الحدود المشروعة وحفظ الألسنة عن الخوض في أعراض الخلق وغض البصر عن المحارم وحفظ السمع والاستئذان في البيوت وتعليم الأطفال وحفظ الجوارح والفروج كل ذلك من الصالحات .

بهذا يعلم كل مسلم أن عليه واجبًا نحو نشر دعوة الإسلام وعودة العز لأهله وإرجاع الأرض المسلوبة ، وأن الأمر ليس إلا بنصر الله العزيز الحكيم ، لا بالدعاوى الفارغة الجوفاء ولا الحناجر العالية ، ولا الأصوات المبحوحة والمسيرات الطويلة ، إنما بإقامة شرع الله ودينه ، جاءت الآية التالية في سورة (النور) بعدها بقوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) [النور : 56] .

فبالجباه الساجدة والأيدي المتوضئة والأنفس الزكية والأجساد المتطهرة والألسنة المحفوظة يقع النصر والتمكين ؛ بذلك يشعر كل أحد أن عليه واجبًا نحو النصر ، نحو القدس ، نحو دماء المسلمين ، نحو ديار المسلمين ، فليؤدِّ كل أحد الواجب عليه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) [محمد :7] . فكيف تطلبون نصره وأنتم تفرطون في شرعه !

فليؤد كل واحد أمانته ويراقب الله في رعيته ، ينصرنا الله ويمكن لنا في أرضه بديننا الذي رضيه لنا ويبدل خوفنا أمنًا ، وفقرنا غنى لنقيم شرعه ونعمل بدينه .

فهيا معشر المسلمين ، والله يؤيدنا ، والله من وراء القصد .