الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، والصلاة و السلام على إمام المتقين، و خاتم النبيين، و على آله و صحبه، وبعد:
فإن كتاب إحكام الأحكام، للإمام الحافظ الفقيه الأصولي صاحب الفنون ابن دقيق العيد ـ رحمه الله تعالى ـ كتاب عظيم، قل أن تجد له نظيرًا، لا يستغني عنه عالم متقن، ولا طالب علم متوسط، ففيه مباحث شريفة، وفوائد منيفة، وتدقيقات قل أن تجتمع في مثله، و هو من أحسن الكتب التي تربي الملكة في استنباط الأحكام الفقهية، ولذا ستكون عليه تلك الإطلالة،
وسنتحدث في هذا المقال حديثًا قصيرًا عن كتابين آخرين للكتاب صلة بهما:
الأول: كتاب: عمدة الأحكام، للإمام الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ـ رحمه الله تعالى ـ.
وهو الكتاب الأصل الذي شرحه ابن دقيق العيد ـ رحمهما الله تعالى ـ.
الآخر: كتاب: العدة، للشيخ العلامة عز الدين أبي إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، المعروف بالأمير ـ رحمه الله ـ ( المتوفى: 1182 هـ ). وهذا الكتاب شرح للشرح (حاشية ).
فائدة: ظهرت المتون العلمية سواء كانت في الحديث، أو الفقه، أو علوم الآلة، كاللغة و الأصول، و نحوهما عندما استقرت العلوم، و احتاج الطلاب لمصنف جامع يجمع أطرافها في لفظ مختصر ليتصور العلم في ذهن طلاب العلم من أقرب طريق.
ومن أمثلة تلك المتون في العلوم المختلفة:
ـ كتاب: موطأ الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ، فهو متن علمي يجمع طائفة أصيلة من أحاديث الأحكام، و آثار الصحابة و التابعين، و عمل أهل المدينة.
ـ كتاب: الرسالة، للشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ، فهو متن علمي أصولي كتبه الإمام الشافعي بطلب من عبد الرحمن بن مهدي، أراد أن يبين له فيه معاني القرآن، و يجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة. . . ، فكان أول واضع لعلم الأصول.
فليس معنى المتن ضيق كما يظنه كثير من إخواني من طلاب العلم.
ثم جاءت الحاجة لشرح تلك المتون العلمية و تفسيرها، بما يفتح مغاليقها، و يبين غريبها، و يوجه استدلال العلماء، و يوضح طريق الاستنباط فيها، فكانت الشروح العلمية، و تلك صنعة المتأخرين بداية من علماء القرن الخامس الهجري تقريبًا.
وربما استغلق قول الشارح، أو أطلق ما هو مقيد، و أو ذكر عامًا له مخصص، أو ترك مبهمًا لم يبينه، أو ترك ما يستدرك عليه، فظهرت الحاجة لشرح الشروح، و هو ما يعرف اصطلاحًا بالحواشي العلمية، و ربما فاقت شهرة هذه الحواشي تلك الشروح.
وربما ترك صاحب الحاشية مسألة لم يتعرض لها، أو ذكر مشكلاً يحتاج لحل، أو أرسل قولاً يحتاج لتوثيق، فظهرت من هنا الحاجة لشرح تلك الحواشي، فظهر ما يعرف اصطلاحًا بالتقريرات، و هي شروح عظيمة الفائدة لطلاب العلم الذين يدققون في أقوال العلماء.
فتراث الأمة يكاد أن يكون في هذه الأربعة: المتون، و الشروح، و الحواشي، و التقريرات، إضافة للمطولات و المختصرات.
ولنشرع الآن فيما أردنا بيانه في هذا المقال:
أولاً: كتاب عمدة الأحكام:
اسم الكتاب: عمدة الأحكام في معالم الحلال و الحرام، عن خير الأنام محمد عليه الصلاة و السلام، مما اتفق عليه الشيخان البخاري و مسلم.
وهذا الكتاب كما سبق من تأليف الإمام الحافظ تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ـ رحمه الله تعالى ـ ( المتوفى: 600 هـ ).
و فكرة هذا الكتاب تتلخص في أمرين:
ـ جمع طائفة مختصرة من الأحاديث التي تدور عليها الأحكام العملية الشرعية.
ـ أن تكون هذه الطائفة من أصح أحاديث الأحكام، و لذا انتقاها مما اتفق عليه الشيخان البخاري، و مسلم ـ رحمهما الله تعالى ـ كما هو واضح من عنوان الكتاب.
ـ وهذا الكتاب مرتب على الأبواب الفقهية فهو يبدأ بكتاب: الطهارة، و ينتهي بكتاب: العتق، ويحوي بين دفتيه ستة عشر كتابًا.
ـ و قد انتقى فيه ثمانية و أربعين، و أربع مئة حديثٍ ( 448 )، هي عيون أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الشيخان.
ـ وهذا الكتاب من أنفع كتب أحاديث الأحكام، ولذا كان يبدأ العلماء بحفظه، و لا يغني عنه مختصرٌ آخر في أحاديث الأحكام، وفيه ما يزيد عن مئتي حديث متفق عليها ليست في كتاب الحافظ ابن حجر: بلوغ المرام.
ـ و المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ قد استل كتابه هذا الكتاب على ما يبدو من كتابه: الأحكام الكبرى، ولذا تجد فيه بعض الهنات التي لا يخلو بشر منها كأن يكون روى الحديث في كتابه: الأحكام الكبرى من طريق الشيخين و غيرهما، و قد ساق بعض ألفاظه فيه من طريق هذا الغير، ثم يسهو، ويستله في هذا الكتاب ويعزوه للشيخين، فمن أمثلة ذلك حديث محمد بن عباد بن جعفر قال سألت جابر بن عبد الله: ” أنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. ” زاد مسلم: ” ورب الكعبة. “
و الزيادة في مسلم (حديث: 1143 ) بلفظ: ” ورب هذا البيت. “
و إنما هذا اللفظ للنسائي في الكبرى ( 2760 )، و قد ساقه هكذا المصنف الشيخ عبد الغني المقدسي في الكبرى (حديث: 441 ) فنقله هنا سهوًا.
ـ وربما وهم فروى الحديث في كتابه ـ وشرطه في هذا الكتاب أن يكون متفق عليه ـ فيرويه في كتابه، و هو لأحدهما، فمن أمثلة ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها. ” و هو من أفراد مسلم ( 737 ).
[ وقد ذكر هذين المثالين محقق الكتاب نظر الفاريابي ]
ـ و المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ يسوق لفظ الحديث في الغالب من كتاب: الجمع بين الصحيحين، للحميدي.
طبعات الكتاب:
قد طبع الكتاب عدة مرات منها:
1 ـ طبع في مطبعة السنة المحمدية بتحقيق الشيخ العلامة: محمد حامد الفقي ـ رحمه الله تعالى ( المتوفى:1371هـ).
2 ـ طبعة دار المعارف في مصر سنة (1373 هـ) بتصحيح الشيخ العلامة المحدث أحمد محمد شاكر ـ رحمه الله تعالى ـ ( المتوفى: 1377 هـ ).
3 ـ طبعة دار المأمون للتراث سنة (1405 هـ) بتحقيق الشيخ: محمود الأرناؤوط.
5 ـ طبع في المطبع الأنصاري بدهلي في الهند ضمن مجموعة الحديث النجدية.
6 ـ طبع في مطبعة المنار بمصر باعتناء الشيخ: محمد رشيد رضا ـ رحمه الله تعالى ـ ( المتوفى: 1354 هـ ) ضمن مجموعة الحديث النجدية أيضاً سنة (1342 هـ).
7 ـ طبع في دار الفاريابي للمطبوعات العربية، على سبع نسخ خطية، دراسة و تحقيق: نظر محمد الفاريابي، وهي من أحسن طبعات الكتاب و أجودها، و فيه من التوثيق ما ليس في غيره، وقد قدم له بدراسة قيمة.
شروح الكتاب:
حظي هذا الكتاب بعدد كبير من الشروح قاربت الخمسين شرحًا نظرًا لاهتمام أهل العلم به فمن هذه الشروح:
1ـ إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، للشيخ تقي الدين أبي الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المشهور بابن دقيق العيد ـ رحمه الله تعالى ـ، وسيأتي الكلام عنه تفصيلاً.
2 ـ الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، للإمام الحافظ العلامة أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن المتوفي سنة (804هـ) وهو أجل كتبه وأحسنها، وقد توسع في الشرح توسعاً واضحاً رحمه الله تعالى.
طبع بتحقيق وتخريج وتعليق الشيخ عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح الطبعة الأولى سنة (1417 هـ) نشر دار العاصمة في الرياض.
3 ـ كشف اللثام في شرح عمدة الأحكام، لشمس الدين أبي العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي ( المتوفى: 1189 هـ )، وهو من أوسع شروح الكتاب، وقد طبع في سبع مجلدات، اعتنى به تحقيقًا وضبطًا وتخريجًا: نور الدين طالب، الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، دار النوادر – سوريا، الطبعة: الأولى، 1428 هـ – 2007 م
4 ـ خلاصة الكلام على عمدة الأحكام، للشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك ـ رحمه الله تعالى ـ ( المتوفى: 1376 هـ)، طبع في مجلد واحد أكثر من مرة منها طبعة: شركة الشمرلي للطبع والنشر بالقاهرة سنة: 1379 هـ، نشرته مكتبة الرياض سنة: 1392 هـ، وسنة (1400 هـ ).
5 ـ تنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام، للشيخ محمد بن صالح العثيمين طبعته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عدة مرات.
6 ـ تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام، طبع عدة مرات منها الطبعة الثالثة سنة: 1393 هـ، في مجلدين، و هو من أيسر و أسهل شروحه، فيصلح للطالب المبتدئ، و لا يستغني عنه المنتهي.
7 ـ نيل المرام شرح عمدة الأحكام، للشيخ حسن بن سليمان النوري، والشيخ علوي بن عباس المالكي ( المتوفى: 1391 هـ) رحمه الله تعالى، نشر مكتبة الاقتصاد في مكة المكرمة الطبعة الثالثة سنة: 1388 هـ.
[ انظر: شروح الكتاب، و طبعاتها في جامع المتون العلمية، للشيخ: عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم ( ص 262 ). ]
هذا ما يسره الله تعالى في هذا المقال، فإن يكن صوابًا فالحمد لله، وإن تكن الأخرى فاستغفر الله منه.