الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
فإن نِعَم الله على عباده – كما هو معلوم – كثيرة، لا تُعد ولا تُحصى، وكلُّ نعمة منها تستوجب الحمدَ والشكر.
وهذه النعم الكثيرة الوافرة في فضلها وقدرها ونوعها، ليست سواء، ومن بينها أشجار وثمار جمَعَ الحقُّ – سبحانه وتعالى – فيها بين صفة الغذاء والدواء.
والنخلة واحدة من هذه الأشجار النادرة الصفات؛ لما جعل الله فيها من العجائب والغرائب، وإليك البيانَ:
النخلة في القرآن:
لقد حدَّثَنا القرآن الكريم عن النخيل عشرين مرة في سوره وآياته، ونصْف هذه المرات تقريبًا جاء النخل فيه مقترنًا بالعنب، وهذه تحتاج إلى دراسات مستقلة؛ لبيان العلاقة التاريخية والاقتصادية والطبية والبيئية بين العنب والنخل.
لكن الذي يستلفت النظرَ، ويثير الفكر، هو حديث القرآن عن جذع النخلة الذي آوى الله إليه مريمَ – عليها السلام.
فقد كانت مريم – عليها السلام – قبل أن تبشَّر بعيسى عليه السلام – تجلس في محرابها؛ لتعبد ربَّها، ويأتيها رزقها رغدًا من عند الله، من غير تعب ولا نصب ولا سبب؛ قال الله – عز وجل -: [ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ] [ آل عمران: 37].
فلما حملتْ، واضطرها طلق الولادة إلى جذع النخلة لتستند إليه، وتتعلق به – كما تفعل الحامل – لما حدث هذا، توالت الآيات، وتتابعت المعجزات.
فلقد تحدَّث القرآن الكريم عن جذع نخلة، وليس عن نخلة؛ ولهذا قال القرطبي – رحمه الله -: “الجذع: ساق النخلة اليابسة في الصحراء، الذي لا سعف عليه ولا غصن”.
ومع هذا فقد أمرها الله بأن تهز هذا الجذع اليابس؛ ليتساقط الرطب!
ومريم – عليها السلام – التي رأتْ آيات الله من قبل في طعام المحراب، قد سارعت إلى امتثال أمر الله بهز الجذع، ولم تقل: أنى يكون لي رطب؟! كما قالت من قبل ذلك: [ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ] [آل عمران :47 ]، ومع أنها لم تؤمر في المحراب أن تأخذ بالأسباب في حال صحتها، فقد أُمرتْ أن تأخذ بأسباب تحصيل الرزق في مرض ولادتها، وهو تنبيه لطيف على أن الله قادر على أن يرزق العبد بغير سبب ولا تعب، كما فعل بمريم – عليها السلام – في محرابها، وهو – سبحانه – قادرٌ على أن يرزق عبده المريض ومن عجز عن الأخذ بالأسباب كاملة، فيسوق إليه رِزقَه بأضعف الأسباب، كما فعل بمريم – عليها السلام – في ولادتها، وأي أثر تُحدِثه يدُ امرأة في غاية الضعف عند ولادتها، في جذع نخلة قوي يَعجِز عن تحريكه الرجلُ القوي؛ بل الجمْعُ من الرجال؟!
فلما أطاعتْ أمْر ربها، أراها الآية الكبرى، وأظهر لها بركة الطاعة، وثمرة الخشوع والخضوع لله رب العالمين؛ قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “كان جذعًا نخرًا، فلما هزَّت نظرت إلى أعلى الجذع، فإذا السعف قد طلع، ثم نظرتْ إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم اخضرَّ فصار بلحًا، ثم احمرَّ فصار زهوًا، ثم رطبًا، كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشرخ فيه شيء”.
ومن المعلوم أن النخلة الأنثى لا تثمر إلا بعد انتقال اللقاح إليها من شجرة نخل أخرى، هي الذَّكر، سواء انتقلت حبوب اللقاح بفعل الرياح، أو الإنسان، أو غير ذلك، كما أن النخلة تحتاج إلى زمنٍ تثمر بعده الرطب، يصل إلى قريب من ستة أشهر، إذًا هنا جذع نخلة قد صار في لحظة نخلة مثمرة، بغير زمن ولا تلقيح من ذكر، فلما رأتْ مريمُ – عليها السلام – هذه الآيةَ من ربها، أيقنت أن الله – سبحانه – قد ساقها لها؛ لتكون جوابًا عمليًّا على سؤالها السابق لجبريل – عليه السلام -: [ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ] [مريم: 20]؟
النخلة في السُّنة:
وأما الأحاديث الصحيحة، فقد ورد ذكر النخلة فيها بصورة تجعلها تتميَّز عن باقي الشجر.
فلقد روى البخاري في “صحيحه”، بسنده إلى ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ]إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟]، فوقع الناسُ في شجر البوادي، قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: [هي النخلة]؛ البخاري: كتاب العلم.
قال ابن حجر – رحمه الله -: “وبركة النخلة موجودةٌ في جميع أجزائها، مستمرةٌ في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب، والليف في الحبال، وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركةُ المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعُه مستمر له ولغيره، حتى بعد موته” “فتح الباري” ( ج 1، ص176).
وفي حديث البزار: [مثل المؤمن مثل النخلة، ما أتاك منها نفعك]، وقد ذكر أهل العلم أنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في قوله: [ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ] [ إبراهيم: 24، 25]، ونقل بعض العلماء من نصيحة لقمان لابنه قوله: “يا بني، ليكن أول شيء تكسب بعد الإيمان خليلاً صالحًا؛ فإنما مثل الخليل كمثل النخلة، إن قعدتَ في ظلها أظلتْك، وإن احتطبتَ من حطبها نفعتْك، وإن أكلتَ من ثمرها وجدتَه طيبًا”.
وقد تحدث الشعراء عن صفة عجيبة في النخل، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان، فقالوا:
كُنْ كَالنَّخِيلِ عَنِ الأَحْقَادِ مُرْتَفِعًا
بِالطُّوبِ يُرْمَى فَيُلْقِي أَطْيَبَ الثَّمَرِ
إنها شجرة عظيمة البركة، كثيرة النفع، وديعةٌ مسالمة، لا تؤذي جارًا ولا جدارًا، تقابل الإساءة بالإحسان، وتقنع بالقليل من الماء، ولا تحتاج منك إلى غذاء؛ بل هي تعطيك الغذاء، وقد ذكروا أن النخلة بما تثمره يمكن أن تحلَّ مشكلة الغذاء العالمية التي استعصتْ على الحل.
وإذا كانت هذه الشجرة المباركة قد اجتمع فيها هذا الخيرُ الكثير، فليس عجيبًا ولا غريبًا أن تخبر عائشةُ – رضي الله عنها – أنه كان يمضي الهلال والهلال والهلال ولا يُوقد في بيت النبوة نار؛ أي: للطهي، وأنهم كانوا يأكلون الأسودَينِ – أي: التمر والماء – لمدة شهرين متتابعين!
ولأجْل هذا؛ حثَّت الشريعة على زراعة النخيل حثًّا شديدًا، وقد جاء هذا الترغيب في حديث عجيب، يقول فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: [إذا قامت الساعة، وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن يغرسها، فليغرسه]، فإذا كان هذا وقتَ قيام الساعة، والكلُّ سيَهلِك ويفنى، فلمَن تغرس هذه النخلة الصغيرة (الفسيلة)؟!
إنه دلالة واضحة على اهتمام الشريعة بزراعة النخل، فإذا كان من يشهد الساعة مأمورًا بذلك، فغيرُه أولى بهذا الأمر، وهذا ما ينبغي أن يعلمه المسلم، وهو أن يتقرَّب إلى الله بزراعة النخل، سواء أدرك ثمرتها وأكَلَ منها في حياته، أو انتفع بها من يأتي بعده، وعلى هذا يكون توجيه الحديث السابق: [إذا قامت الساعة]؛ أي: إذا قامتْ قيامة أحدكم؛ لأن كل من مات فقد قامت قيامته، فمن أدركه الموت وفي يده شتلة النخل(الفسيلة) فليغرسها قبل خروج روحه، فيكون ذلك آخر أعماله التي يتقرَّب بها إلى الله.
أحاديث موضوعة في فضل النخل:
ومن تمام الفائدة أن نذكر أنه وردتْ أحاديثُ موضوعةٌ في فضل النخل، قد حذَّر منها أهل العلم؛ حتى لا يغتر بها أحد، من أشهرها ما ذكره الشوكاني في كتابه “الفوائد المجموعة”، وكذلك الزرقاني في “مختصر المقاصد الحسنة”، وغيرهما من أهل العلم، وقد جاء الحديث المذكور: (أكرموا عمتكم النخلة؛ فإنها خلقتْ من فضلة طينة أبيكم آدم…) إلخ.
قال ابن عدي – رحمه الله -: في إسناده جعفر بن أحمد بن علي الغافقي، ولا شك أنه وضع هذا الحديث؛ أي: لأنَّه كان وضاعًا، وكذلك قال غيره من أهل العلم.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.