التربية بين الأصالة والتجديد‏ (11) – الأثر التربوي للاعتقاد الصحيح

لقد صاغ الاعتقاد الصحيح حياة المسلمين وسلوكهم حيث سمعوا القرآن يتلي وفيه قصص الأمم السابقة. وأيقنوا أن الله هو الذي سلب النار إحراقها عندما ألقي فيها إبراهيم – عليه السلام – فكانت عليه برداً وسلاماً. وهو الذي سلب ماء البحر إغراقه عندما ضربه موسي – عليه السلام – بعصاه. وهو الذي طوى الأبعاد لمحمد – صلى الله عليه وسلم – طيا في إسرائه ومعراجه. وهو الذي جعل العجوز العقيم تلد بعد أن صار بعلها شيخاً كبيراً. وهو الذي أرقد أهل الكهف في نومهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا. وهو الذي رفع المسيح من بين يدي أعدائه وشبه لهم غيره. وهو الذي أرسل الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على آل فرعون. وهو الذي سلط الريح على ثمود ونجا صالحاً وقد أرادوا به كيداً. وهو  الذي أرسل الطير الأبابيل على أصحاب الفيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول.

ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة وحنيناً غريباً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة. تمثلوا الآخرة فتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأي العين فطاروا إليها طيران الحمام الزاجل لا يلوي على شئ. وتجلت لهم النار بأهوالها كأنهم يرونها رأي العين فهربوا منها فراراً إلى الله يطلبون النجاة بالمسارعة في طاعته وامتثال أمره.

أمثلة من حياة الرعيل الأول :

عن أنس رضي الله عنه قال “بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أصحابه شئ فخطب فقال : عرضت على الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر. ولو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. فما أتي على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أشد منه غطوا رءوسهم ولهم حنين (1)” (متفق عليه).

وعنه رضي الله عنه قال : “كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء. وكانت مستقبلة المسجد. وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس فلما أنزلت هذه الآية : ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)) [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله إن الله تبارك وتعالي يقول : ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)) وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح. وقد سمعت ما قلت وإني أري أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه” (متفق عليه).

وعن عطاء بن أبي رباح قال “قال لي ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلي .

قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت إني أُصرع وأتكشف فادع الله لي.

قال : إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت أصبر.

فقالت إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها” (متفق عليه)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين. لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال :اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر. إن أجد ريحها من دون أحد. قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بسهم. ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس : كنا نري أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه” (متفق عليه).

وقال ابن الكلبي : كان عمرو بن الجموح آخر الأنصار إسلاما. ولما ندب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الناس إلى بدر أراد الخروج معهم فمنعه بنوه بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لشدة عرجه. فلما كان يوم أحد قال لبنيه : منعتموني الخروج إلى بدر فلا تمنعوني الخروج إلى أحد، فقالوا : إنا الله قد عذرك فأتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه.والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك. وقال لبنيه : لا عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة. فأخذ سلاحه وولي وقال اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائباً، فلما قتل يوم أحد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : والذي نفسي بيده لقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته” (أسد الغابة).

وروي مسلم أن أبا موسي الأشعري قال وهو بحضرة العدو : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف. فقام رجل رث الهيئة فقال يا أبا موسي أنت سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول هذا؟ قال نعم. قال فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام. ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشي بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل.

وروي مسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال يوم بدر : قوموا إلى جنة عرضها السموات  والأرض. فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال نعم، قال : بخ بخ . قال ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال : فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمي بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن هشام بن حسان قال خرجنا حجاجاً فنزلنا منزلاً في بعض الطريق فقرأ رجل كان معنا هذه الآية ((لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ)) [الحجر: 44] فسمعته امرأة فقالت : أعد رحمك الله، فأعادها : فقالت خلفت في البيت سبعة أعبد (2) أشهدكم أنهم أحرار، لكل باب واحد منهم.

وعن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه قرأ سورة براءة فأتي على هذه الآية ((انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا)) [التوبة: 41] قال : أري ربي يستنفرني شابا وشيخا، جهزوني !!

فقال له بنوه : قد غزوت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى قبض ومع أبي بكر ومع عمر فنحن نغزو عنك. فقال : جهزوني. فجهزوه فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير (أسد الغابة).

وعن حبان بن زيد قال نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً هما قد سقط (3)حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فأقبلت عليه فقلت: يا عم أعذر الله إليك. قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله (أخرجه الطبراني وابن كثير عند تفسير هذه الآية).

وقال الحسن البصري إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضي وهم والله أصحاب القلوب، ألا تراه يقول ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)) [فاطر: 34] والله لقد كابدوا  في الدنيا حزنا شديداً وجري عليهم ما جري على من كان قبلهم والله ما أحزنهم ما أحزن الناس ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار (عن كتاب التخويف من النار).

ونظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون فقال له : ما الذي أري بك، قال أسقام وأمراض يا أمير المؤمنين إن شاء الله. فأعاد عليه عمر ، فأعاد عليه الرجل مثل ذلك ثلاث مرات. فقال : إذا أبيت إلا أن أخبرك فإني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها وملاعبها واستوي عندي حجارتها وذهبها، ورأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت له نهاري وكل ذلك صغير حقير في جنب عفو الله وثواب الله عز وجل وجنب عقابه (عن كتاب التخويف من النار).

وقال إبراهيم التيمي : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : أي شيء تريدين ؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا. قال : فأنت في الأمنية فاعملي (عن كتاب التخويف من النار).

 ———

(1) الحنين بكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف

(2) أي سبعة من العبيد الأرقاء.

(3) طاعنا في السن.