جمع القرآن (1)

أخرج البخاري في ( صحيحه) عن زيد بن ثابت الأنصاري ، رضي الله عنه – وكان ‏ممن يكتب الوحي – قال : أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، وعنده عمر بن ‏الخطاب فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء ‏القرآن ، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا ‏أن تجمعوه ، وإني لأرى أن تجمع القرآن ، فقال أبو بكر : قلت لعمر : كيف ‏أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ فقال عمر : هو والله خير ، فلم ‏يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ، ورأيت الذي رأى عمر ، قال ‏زيد : وعمر عنده جالس لا يتكلم ، فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا ‏نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فتتبع القرآن ‏فاجمعه ، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من ‏جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلان شيئًا لم يفعله النبي – صلى الله عليه وسلم – ؟ فقال ‏أبو بكر : هو والله خير ، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له ‏صدر أبي بكر وعمر ، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والاكتاف والعسب ‏واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت من سورة ( التوبة ) آيتين مع أبي خزيمة ‏الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا ‏عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ  ) [ التوبة : 128] حتى ختم براءة إلى آخرها .‏

وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر ‏حتى توفاه الله ، ثم عند حصفة بنت عمر . ‏

وأخرج البخاري عن زيد بن ثابت الأنصاري أيضًا : لما نسخنا الصحف في المصاحف ‏فقدت آية من سورة ( الأحزاب ) كنت أسمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرأها ‏لم أجدها عند أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم شهادته شهادة رجلين : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ ‏عَلَيْهِ  ) [ الأحزاب : 23] ، فألحقناها في سورتها في المصحف .‏

الحديث يبين جمع زيد للقرآن مما كان مكتوبًا فيه من :‏

العسب : جمع عسيب ، وهو جريد النخل يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف ‏العريض .‏

واللخاف : جمع لخفة : هو الحجارة الرقاق أو صفائح الحجارة .‏

والرقاع : جمع رقعة : وقد تكون من جلد أو ورق .‏

وقطع الأديم : الجلد بعد دبغه ، أما قبل دبغه فيسمى إهابًا .‏

والأكتاف : عظم البعير أو الشاة كان إذا جف كتبوا عليه .‏

والأضلاع : جمع ضلع ، وهو العظم المعروف .‏

والأقتاب : جمع قتب ، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه .‏

وقعة اليمامة :‏

كانت فتنة بني حنيفة أصلها في ادعاء مسليمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي ‏‏، حيث ادعى النبوة ، وأرسل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابًا قال فيه : ( من ‏مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك . ‏

أما بعد : فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف ‏الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون ) ، فأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( بسم ‏الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى مسيلمة الكذاب ، ‏السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، ‏والعاقبة للمتقين ) ، وكان ذلك أواخر سنة عشر من الهجرة ، وقد توفي النبي صلى ‏الله عليه وسلم قبل القضاء على فتنة مسيلمة فكانت وقعة اليمامة في آخر السنة ‏الحادية عشرة التي توفي فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، ولكنها امتدت حتى ‏أول السنة الثانية عشرة ، وقد صبر فيها الصحابة صبرًا لم يعهد مثله .‏

يقول ابن كثير في ( فضائل القرآن ) : إن مسيلمة التف حوله من المرتدين قريبٌ من ‏مائة ألف ، فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفًا ، ‏فالتقوا معهم ، فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب ، فنادى ‏القراء من كبار الصحابة : يا خالد خلصنا ، يقولون : ميزنا عن هؤلاء الأعراب ، ‏فتميزوا منهم وانفردوا ، فكانوا قريبًا من ثلاثة آلاف ، ثم صدقوا الحملة وقاتلوا ‏قتالاً شديدًا وجعلوا يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة : فلم يزل ذلك دابهم حتى ‏فتح الله عليهم وولى جيش الكفر فارًّا ، واتبعتهم السيوف المسلمة في أقفيتهم قتلا ‏وأسرًا ، وقتل الله مسيلمة وفرق شمل أصحابه ، ثم رجعوا إلى الإسلام .‏

وقد قُتِل من المسلمين في هذه الغزوة خمسمائة ، وقيل : أربعمائة وخمسون ، منهم ‏من المهاجرين والأنصار ثمانية وخمسون رجلاً غالبهم من قراء القرآن ، أما من قتل ‏من الكافرين فكانوا بضعة وخمسين ألفًا .‏

ولقد صبر الصحابة في حرب اليمامة صبرًا لم يعهد مثله، وجعل خالد لا يبرز له ‏منهم أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا أكله، وممن استشهد في هذه الغزوة.‏

جعفر بن ثابت بن قيس حفر لقدميه بعدما تحنط وتكفن يحمل الراية حتى قتل . ‏

‏ زيد بن الخطاب قال : أيها الناس عضوا على أضراسكم ، واضربوا في عدوكم ، ‏وامضوا قدمًا ، وقال : والله لا أتلكم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي ، ‏فقتل شهيدًا ، رضي الله عنه .‏

وقال أبو حذيفة : يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال ، وحمل فيهم حتى أبعدهم ‏وأصيب ، رضي الله عنه .‏

وممن قتل في هذه الغزوة : حزن بن أبي وهب ، جد سعيد بن المسيب ، وقتل معه ‏ولداه عبد الرحمن ووهب ، وابن ابنه حكيم بن وهب بن حزن .‏

وقتل سالم مولى أبي حذيفة ، أحد الأربعة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم : (استقرئوا القرآن من أربعة ) .‏

وكان أبو دجانة سماك بن خراش ، أحد الشجعان ، ممن اقتحم على بني حنيفة ‏الحديقة ، فانكسرت رجله ، شارك وحشيًا في قتل مسيلمة .‏

ومنهم الطفيل بن عمرو الدوسي ، الذي أسلمت دوس بدعوته لهم .‏

أما عباد بن بشر فكان صاحب شجاعة وبلاء شديد ، وكان ذا ورع وعبادة وتهجد .‏

وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، الذي أسلم قبل دار الأرقم ، وهاجر إلى الحبشة ‏والمدينة ، وقد آخى النبي – صلى الله عليه وسلم – بينه وبين عباد بن بشر .‏

وقد قتل يوم اليمامة أيضًا .‏

‏ – السائب بن عثمان بن مظعون ، والسائب بن العوام أخو الزبير بن العوام ، وعبد الله ‏بن سهيل بن عمرو ، وهو ممن أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة ، فلما عاد إلى ‏مكة حبسه أبوه سهيل بن عمرو ، فلما كان يوم بدر خرج معهم ، فلما ‏تواجهوا فر إلى المسلمين ، فشهدها معهم .‏

‏ –  عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان أبوه رأس المنافقين ، وأما هو فمن ‏سادات الصحابة وفضلائهم ، شهد بدرًا وما بعدها ، وكان أشد الناس على أبيه ‏‏.‏

ومنهم معمر بن عدي ، وهو أخو عاصم بن عدي ، الذي آخى رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم بينه وبين زيد بن الخطاب ، ولما قال الناس عند موت رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم : وددنا أنا متنا قبله ! قال معمر : لكني والله ما أحب أن أموت ‏قبله لأصدقه ميتًا كما صدقته حيًّا .‏

وممن استشهد يومئذ من الصحابة أيضًا :‏

‏ – مالك بن عمرو ، وهو من المهاجرين ، وممن شهدوا بدرًا .‏

‏ – ويزيد بن قيس بن رباب الأسدي ( بدري ) ، والحكم بن سعيد بن العاص بن ‏أمية .‏

‏ –  وعامر بن البكر الليثي ( بدري ) ، وصفوان بن أمية بن عمرو ، وأبو قيس بن ‏الحارث بن قيس السهمي ممن هاجر إلى الحبشة ، وعبد الله بن مخرمة من ‏المهاجرين وممن شهد بدرًا ، وعمارة بن حزم بن زيد ( من الأنصار ) .‏

وغيرهم رضي الله عنهم ، كان منهم يوم اليمامة البلاء الحسن والشجاعة النادرة ‏والقتال الشديد ، وإن كان في قتلهم شرخ في الإسلام ، إلا أن الله جعل في ذلك الشرخ ‏خيرًا ، بأن نبه عمر ليشير على الصديق بجمع القرآن ، فجمع ، فالحمد لله الذي ‏جعل من كل شدة تمر بالإسلام خيرًا وحفظًا وتمكينًا ، ومن راجع السيرة والتاريخ ‏في القديم والحديث عرف ذلك ولمسه ، والحمد لله رب العالمين .‏

من إهانات الله لمسيلمة الكذاب ‏

الله يظهر المعجزات على يد أنبيائه ، شاهد صدق على قولهم ، فلما أراد مسيلمة – ‏لعنه الله – أن يستخف قومه ، فيدعي لهم أنه صاحب آيات معجزة عامله الله بضد ‏مقصوده ، فأظهر الإهانة له في ذلك ، من ذلك أنه بصق في بئر فغاص ماؤها بالكلية ‏‏، وفي أخرى فصار ماؤها أجاجًا ، وتوضأ وسقى بوضوئه نخلاً فيبست وهلكت ، ‏وأتى بولدان يبرك عليهم ، فجعل يمسح رءوسهم ، فمنهم من قرع رأسه ، ومنهم ‏من لثغ لسانه ، ويقال : إنه دعا لرجل من أصحابه لوجع في عينيه فمسحهما ‏فعمي . [( البداية والنهاية ) : ( جـ6ص331) ] .‏

أتباع مسيلمة ‏

جاء رجل – هو طلحة النمري – من اليمامة إلى مسيلمة الكذاب فسأله : من يأتيك ؟ ‏قال : رجس ، قال : أفي نور أم في ظلمة ؟ فقال : في ظلمة ، فقال : أشهد أنك ‏كذاب ، وأن محمدًا صادق ، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر .‏

يفسر ذلك لنا أن اتباع مسيلمة لم يكن إيمانًا بنبوته ، ولكن كان لأغراض دنيوية ‏شتى : ( وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا  ) [ الكهف : 17] .‏

إنا نحن نزلنا الذكر ‏

من أقوال بعض المفسرين في قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون  ) ‏‏: ‏

قال الفخر الرازي : قال بعضهم : حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر ، ‏فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه ؛ لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه ‏لتغير نظم القرآن ، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن ، فصار كونه معجزًا ‏كإحاطة السور بالمدينة ؛ لأنه يحصنها ويحفظها .‏

وقال آخرون : إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته .‏

وقال آخرون : أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده ؛ بأن قيض جماعة يحفظونه ‏ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف .‏

وقال آخرون : المراد بالحفظ هو أن أحدًا لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له ‏أهل الدنيا ، هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى ، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له ‏لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له الصبيان : أخطأت أيها الشيخ ‏وصوابه كذا وكذا ، فهذا هو المراد من قوله : ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون  ) .‏

واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ ، فما من كتاب إلا وقد دخله ‏التصحيف والتحريف والتغيير ، إما في الكثير منه أو في القليل ، وبقاء هذا ‏الكتاب مصونًا عن جميع جهات التحريف ، مع أن دواعي الملحدة واليهود ‏والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده ، من أعظم المعجزات ، وأيضًا أخبر الله تعالى ‏عن بقائه محفوظًا عن التغيير والتحريف ، وانقضى الآن قريبًا من ستمائة سنة ، ‏فكان هذا إخبارًا عن الغيب ، فكان ذلك أيضًا معجزًا قاهرًا . اهـ . كلام الفخر ‏الرازي . [ واليوم مضى أكثر من أربعة عشر قرنًا ولا يزال بحمد الله محفوظًا كما ‏نزل ] .‏

قال القرطبي في تفسيره عن يحيى بن أكثم : كان للمأمون – وهو أمير إذ ذاك – ‏مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب ، حسن الوجه ، ‏طيب الرائحة ، قال : فتكلم فأحسن الكلام والعبارة ، قال : فلما تقوض المجلس ‏دعاه المأمون فقال له : إسرائيلي ؟ قال : نعم ، قال له : أسلم حتى أفعل بك ‏وأصنع ، ووعده ، فقال : ديني ودين آبائي ، وانصرف ، قال : فلما كان بعد سنة ‏جاءنا مُسلمًا ، قال : فتكلم على الفقه فأحسن الكلام ؛ فلما تقوض المجلس دعاه ‏المأمون وقال : ألست صاحبنا بالأمس ؟ قال له : بلى ، قال : فما كان سبب ‏إسلامك ؟ قال : انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان ، وأنت ‏تراني حسن الخط ، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت ، ‏وأدخلتها الكنيسة (1) فاشتُريت مني ، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ ‏وزدت فيها ونقصت ،  وأدخلتها البيعة فاشتُريت مني ، وعمدت إلى القرآن فعملت ‏ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت ، وأدخلتها للورَّاقين فتصفحوها ، فلما أن وجدوا ‏فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها ؛ فعلمت أن هذا كتاب الله محفوظ ، ‏فكان هذا سبب إسلامي ، قال يحيى بن أكثم : فحججت تلك السنة فلقيت سفيان ‏بن عُينية فذكرت له الخبر ، فقال لي : مصداق هذا في كتاب الله عز وجل ، قال: ‏قلت : في أي موضع ؟ قال : في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل : ( بِمَا ‏اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه  ) [ المائدة : 44] ، فجعل حفظه إليهم فضاع .‏

قال السعدي في تفسيره : ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون  ) أي في حال إنزاله وبعد إنزاله ، ‏ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم ، وبعد إنزاله أودعه الله ‏في قلب رسوله واستودعه في قلوب أمته ، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها ‏والزيادة والنقص ومعانيه من التبديل ، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا ‏وقيض الله له من يبين الحق المبين ، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده ‏المؤمنين .‏

قال في ( زاد المسير ) : (  من بين يديه ومن خلفه  ) : فيها ثلاثة أقوال : أحدها ‏‏: بين يدي تنزيله وبعد نزوله .‏

الثاني : أنه ليس قبله كتاب يبطله ، ولا يأتي بعده كتاب يبطله .‏

الثالث : لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم ، ولا في إخباره عما تأخر .‏

وفي خلافة أبي بكر جمع القرآن زيد وعمر بإشراف الصديق ، رضي الله عنهم ، ‏وكان ذلك في أول العام الثاني عشر أما في خلافة عثمان فجمع القرآن زيد بن ثابت ‏‏، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، ‏وقال عثمان لثلاثة القرشيين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن ‏فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما أنزل بلسانهم ففعلوا ، وكان ذلك سنة خمس ‏وعشرين ، وكان نسخًا للصحف التي كتبت في جمع أبي بكر الصديق ، رضي الله ‏عنه .‏

نقل السيوطي عن ابن التين وغيره : الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع ‏أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته ؛ لأنه لم يكن ‏مجموعًا في موضع واحد ، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم ‏عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه ‏القراءات حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات ، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة ‏بعض ، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك ، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا ‏لسوره ، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش ، محتجًا بأنه نزل بلغتهم ، ‏وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعًا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر ، فرأى ‏أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة .‏

فالقرآن الكريم كتاب الله الخاتم ، أنزله على نبيه الكريم ، وحمله إليه ملك الوحي ‏جبريل ، وحفظه رب العزة سبحانه ، فهو في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ‏‏: ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ ‏السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ  ) [ الشعراء : 210 – 212] ، ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ ‏الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ‏الْمُنْذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ  ) [ الشعراء : 192 – 195] .‏

فالقرآن أنزله رب العزة جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ‏شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ، وكان ذلك في ليلة القدر : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ‏لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ  ) [ الدخان : 3] ، ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر ) [ القدر : 1] ، ثم ‏نزل بعد ذلك مفرقًا بحسب الوقائع على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( وَقَالَ ‏الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ ‏تَرْتِيلًا(32)وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) [ الفرقان : 32 ، ‏‏33] .‏

فكان هذا القرآن ينزل مجيبًا للأسئلة ، هاديًا في الحيرة ، مرشدًا في الظلمة ، ‏منقذًا من الهلكة، فصلاً في كل أمر احتاجوا فيه إلى بيان .‏

فيوم شق عليهم الصوم وكان الفطر عند غروب الشمس إلى صلاة العشاء أو النوم ‏وحدث ما حدث من أمور شقت على المسلمين من شدة جوع أو شوق إلى نسائهم أنزل ‏الله قوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ‏عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ‏مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ ‏الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ  )[البقرة:187].‏

ولما كانوا في غزوة الحديبية  وصلوا الظهر جماعة خلف النبي – صلى الله عليه وسلم – ‏فسجدوا جميعًا ، توعدهم العدو إذا جاءت صلاة العصر فسجدوا مالوا عليهم ‏ليقتلوهم وهم سجود فقبل أن تأتي صلاة العصر أنزل الله القرآن يريد كيد عدوهم .‏

أخرج أحمد في ( مسنده ) عن أبي عباس الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين ‏القبلة ، فصلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الظهر ، فقالوا : لقد كانوا على ‏حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من ‏أبنائهم وأنفسهم ، قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : ( وَإِذَا ‏كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ  ) [ النساء : 102] ، قال : فحضرت ، فأمرهم ‏رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فأخذوا السلاح ، قال : فصفنا خلفه صفين ، قال : ‏ثم ركع فركعنا جميعًا ، ثم رفع فرفعنا جميعًا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه ‏وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس ‏الآخرون فسجدوا مكانهم ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف ‏هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعًا ، ثم رفع فرفعوا جميعًا ، ثم سجد النبي صلى الله ‏عليه وسلم بالصفالذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس ‏الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ثم انصرف ، قال: فصلاها رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم مرتين، مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم(2).‏

فكان نزول آيات صلاة الخوف وهم في الميدان لا يعلمون بكيد العدو ، فنزل الوحي ‏بالقرآن ينجيهم الله من كل كيد ويرد كيد عدوهم في نحورهم .‏

وتأتي خولة بنت ثعلبة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في حجرة عائشة تشكو ‏أن زوجها أوس بن الصامت قد ظاهر منها ، وتجادل النبي – صلى الله عليه وسلم – في ‏شأنها ، فينزل الله عز وجل فصل قضيتها في الحال بقوله : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ ‏الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ‏بَصِيرٌ )  إلى قوله تعالى : (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ  ) [ المجادلة : 1 – 4] .‏

وكذلك لما وقع أهل الإفك في أم المؤمنين ، رضي الله تعالى عنها ، وقالوا ما قالوا ، ‏واحتار النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ووقع الناس في شدة ، وبكت عائشة ، رضي الله ‏عنها ، بكاءً شديدًا ، فرَّج الله عنهم جميعًا بأن أنزل قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا ‏بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ ‏مِنَ الْإِثْمِ  )  إلى قوله : ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ النور : 10 – 21 ] .‏

وتتبع ذلك أمر يطول سرده ويصعب جمعه، فكان القرآن في نزوله تفريج الهم، ‏وتوضيح الأمر، وبيان الدين، وتصحيح العبادة، والرد على المشركين، وتفنيد ‏حجج المبطلين، وتثبيت المؤمنين.‏

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.‏

——————-

‏(1) المعروف أن الكنائس للنصارى، والبيع لليهود، فلعله تصحيف أو من قبيل ‏إطلاق كل منهما على الآخر.‏

(2) صلاة الخوف لها عدة هيئات، والحديث يبين هيئة من هيئاتها.‏