التأليف بين التقريب والتفكير

لقد بعث الله سبحانه وتعالى رسولا كريما أنزل عليه القرآن الكريم وأمره أن يعمل بالكتاب ثم أمر الناس أن يعملوا بالكتاب على مقتضى علم الرسول فصارت القدوة للناس كاملة في النص والتطبيق العملي فقال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) وقال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه : (أو مالك فيّ أسوة) ثم كان الأصحاب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

عن المعنى الذي لا يعرفونه أو الحكم الذي يغيب عنهم فيجيبهم عن مسألتهم ويوضح لهم الفهم ويقرب إليهم العمل فعندما قالوا لرسول الله :

(ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم ، قال أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون إن لكم بكل تسبيحة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر . قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) .

فانظر كيف قرب لهم مفهوم الصدقة فجعل منها التسبيح والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى جعل جماع الرجل لزوجته التي أحلها الله له صدقة فلما صعب عليهم فهم قضاء الشهوة وحصول الأجر قرب لهم الفهم بقوله : (أفرأيتم إن أتاها في حرام أيكون عليه وزر كذلك إن أتاها في حال كان له بها أجر ) .

على هذا تم تقريب الشرع كله للصحابة حتى فهموا وعملوا فقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ).

ثم كان دور الصحابة هو تقريب المفاهيم الشرعية للتابعين فكان من ذلك تدوين القرآن الكريم وشرح ما غمض عليهم ومن ذلك ما كان من عروة بن الزبير حين سأل خالته عائشة عما أشكل عليه من قول الله عز وجل : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) فوضحت عائشة الأمر وذكرت أن الأصنام كانت منصوبة على الصفا والمروة فتحرج الناس بعد الإسلام من الطواف مع وجود الأصنام فقال الله سبحانه رفعًا لذلك الحرج (لا جناح)

ثم لما كان الناس يتناقلون حديث النبي صلى الله عليه وسلم فخافوا من دخول الكذب لظهور كذبة نسبت لرجل وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من ذلك بقوله : (إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد فمن كذب على متعمدًا فليتبوا مقعده من النار) فلما خاف الصحابة الكذب قالوا لرواة الحديث : سموا لنا رجالكم (فكان بعد ذلك لا يروى حديث إلا بمعرفة من رواه وعمن رواه فنشأ بذلك علم الرجال الذي يعتبر أوسع علوم الدنيا اليوم .

ثم جاء عصر التدوين والجمع فجمعت الكتب على أساس ذكر الأقوال مسندة إلى قائليها سواء كان الحديث مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من أقوال الصحابة الكرام أو الأئمة من بعدهم ووضعوا قاعدة (من أسند لك فقد حملك) لسهولة معرفة الرجال وصدقهم وعدالتهم وضبطهم ولأن عزائم العلماء وطلبة العلم كانت متوفرة كافية قادرة على تحمل تلك المسئولية ، فيعرفون المقبول من المردود من الأخبار من الأحاديث النبوية وبتوالي العصور طالت الأسانيد وضعفت الهمم فاحتاج الناس إلى تقريب النصوص أكثر من مجرد الإسناد فانبرى لذلك علماء جهابذة نقدوا وميزوا بين المقبول والمردود فجمعوا الصحيح وما قاربه مما يكون عليه العمل في كتب مستقلة منها ما جمع النصوص فقط دون أقوال الفقهاء مثل مسند أحمد وصحيح مسلم ومنها ما جمع مع الحديث أقوالا فقهية ومعان مستنبطة مثل موطأ مالك وصحيح البخاري .

ثم احتاج الناس إلى فصل الفقه الذي يعمل به في كتب خاصة فنشأت كتب الفقه كالأم للشافعي (والخراج لأبي يوسف) وغيرها من الكتب التي قربت المعاني الفقهية وسار الأئمة كذلك بتقسيم علوم الإسلام إلى فنون فمنهم من كتب في السير والمغازي ومنهم من كتب الفقه ومنهم من جمع في الحديث ومنهم من كتب في التفسير وكثرت العلوم وتنوعت فنونها لتقريب الأفهام الصحيحة للوقائع والعلوم الموضحة بالقرآن والسنة والخادمة لها وهكذا .

واحتاج الناس إلى بيان الطرق التي استنبطت بها تلك الأحكام وهي موجودة في القرآن والسنة ولكن لا يدركها إلا الجهابذة من الأئمة العلماء المجتهدين فصنفوا كتب أصول الفقه لتقريب استنباط المعاني وكان من أول هذه الكتب (كتاب الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله تعالى) كما احتاج الناس لمعرفة أحكام الحديث صحة وضعفا فصنفت كتب علم الحديث المختلفة مع علم الرجال وتطويرًا له وتقريبًا للناس حتى يعرفوا الأحكام وكيف يطلقها العلماء ثم احتاج الناس للربط بين الحكم ودليله فكانت الشروح للمختصرات الفقهية وعمل الهوامش لها والحواشي وتنوعت الكتب وزادت زيادة كثيرة .

ولا تزال تلك المسيرة المباركة في التقريب متصلة الحلقات فنرى اليوم من طلبة العلم من قدم خدمة لكتب معينة بأن ميز منها الصحيح عن غيره وبعضهم جمع الصحيح وحده وجهود العلامة المحدث البارع محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في ذلك واضحة فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .

وكذلك سلسلة الصحيح المسند التي يقوم بها العلامة الشيخ (مقبل بن هادى الوادعي اليمني) وجملة من تلاميذه المباركين ، وكثير من الدراسات الأخرى على كتب السنة وكتب التفسير وكتب الفقه لتقريب تلك العلوم للناس ليستفيد منها العلماء وطلبة العلم والعوام حتى تعم الفائدة العلمية جميع أفراد الأمة فلا يحرم أحد من هذه الهداية التي بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بها ويتحقق وعد الله الكريم ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ) .

لكن في القرون الأولى ظهرت أقوال غير مستنبطة من الأدلة الشرعية وإن تذرع أصحابها بشبهات من نصوص القرآن أو السنة فصاغوا القول فيها بأفكارهم فنشأت البدع المختلفة وكانت هذه البدع تختلف بعدًا وقربًا من الإسلام الصافي لكنها تجتمع كلها في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فإن كل بدعة ضلالة) وذلك هو طريق إطلاق العقل للتفكير بغير أن ينضبط بنصوص الشرع الشريف لذا ينبغي على علماء الإسلام أن يقربوا علوم الشرع للناس فلا يدعوا بابا للشيطان يملى على أعوانه ما يسمونه (فكرًا) وهي أقوال غريبة عن البيئة الإسلامية إما لتأثرها بمناهج وفلسفات أخرى أو لمرضاة أهواء وإشباع شهوات . أو لتبرير معاص وإعطاء التحليل لإنحرافات ومخالفات لنصوص الإسلام حتى أن الكثير منهم يدعى أنه يوافق روح الإسلام وإن خالف النصوص ولذلك يجب علينا أخذ العلم الموافق للكتاب والسنة من العلماء العاملين ونعرف لهم فضلهم وفضل هذا العلم .

فالعلم الصحيح هو ما قرب للناس من حال خير القرون . وما يسر لهم فهم القرآن والسنة كما فهموها .

والعلم الصحيح هو الحكم على الحوادث والواقعات بحكم الله ورسوله وتقريب ذلك للناس ليسلكوا السلوك الصحيح والله الهادي للصواب.