نشرت جريدة اللواء الإسلامي في عددها التاسع عشر في الصفحة السابعة مقالًا غريب العنوان والبنيان. وكان عنوانه (لا عذاب بين الموت ودخول الجنة).
وقد تضمن المقال ما كنت أود ألا تقع فيه جريدة اللواء الإسلامي خاصة. ذلك لأنها خرجت أصلًا لتصحيح المفاهيم وتقويم سلوك المسلم في وقت كثرت فيه مقالات المتقولين وأباطيل المبطلين. وكذلك فجريدة اللواء لكل الناس وليست للخاصة والذين ينقدون ويمحصون فمعظمهم يأخذ الكلمة المكتوبة لا على أنها على عهدة كاتبها ولكن على أنها الحق الذي يوافق القرآن والسنة.
والعجب أن العدد نفسه يناقش الخوارج الجدد (التكفير والهجرة) ثم يروج لأفكار المعتزلة والخوارج بهذا المقال.
ومن مخالفات هذا المقال.
أولًا: عنوانه يدل صراحة على إنكار عذاب القبر.
ثانيًا: يصرح الكاتب في مقاله أن أصحاب الكبائر من أهل التوحيد يدخلون النار ويخلدون فيها فلا يخرجون.
ثالثًا: يدعى الكاتب أن العقل لا يقبل أن يسبق دخول الجنة عذاب في النار.
رابعًا: يذكر قول الله تعالى حكاية عن اليهود ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)البقرة- 80 ويستشهد به على أن القول بخروج أهل التوحيد من النار عقيدة اليهود التي بكتهم الله عليهم.
وهذا الذي أكتبه بيان سريع لعقيدة الفرقة الناجية – أهل السنة والجماعة – فيما سبق. أما بسط ذلك ففي كتب العقيدة.
فأقول بعون الله تعالى وتوفيقه:
أولًا: إن الأمور الإعتقادية لا تؤخذ بالأهواء ولكن بالنقل الصحيح من القرآن والسنة وما كان عليه حال الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. وأن العقيدة السليمة أساس النجاة في الحياة الدنيا والآخرة وأن ما نعانيه اليوم من مفاسد تعمل باسم الدين من الفرق الحديثة والقديمة بل ومفاسد الدنيا في البيع والشراء والنساء أصله فساد الاعتقاد. وعلى هذا فإن تصحيح العقيدة والحرص على بيانها رأس الخير. وكذلك الترويج للعقائد الباطلة من عقائد الخوارج والشيعة والنصيرية وغيرهم رأس الشر، فالناس أحوج إلى معرفة العقيدة الصحيحة منهم إلى الماء والهواء..
ثانيًا: عذاب القبر ثابت بالقرآن والسنة.
أما أدلة القرآن فقول الله تعالى في سورة غافر 45-46 ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) ويقول عنها ابن كثير هي عمدة أهل السنة والجماعة في إثبات عذاب القبر.
وأدلة السنة: منها حديث مسلم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم – في حائط لبني النجار على بغلته ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه، فإذا ستة أو خمسة أو أربعة أقبر فقال- صلى الله عليه وسلم – من يعرف أصحاب هذه القبور؟ فقال رجل أنا، قال – صلى الله عليه وسلم -: فمتى مات هؤلاء. قال: ماتوا على الإشراك. فقال – صلى الله عليه وسلم – (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه).
وحديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري ومسلم قالت دخلت علي(1) عجوز من عجائز يهود المدينة فقالت: أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت فكذبتها ولم أنعم أن أصدقها. قالت فخرجت ودخل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت يا رسول الله إن عجوزًا من عجائز يهود أهل المدينة دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. قال: صدقت إنهم يعذبون عذابًا تسمعه البهائم كلها. قالت: فما رأيته بعد صلى صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر).
ثالثًا: العقيدة والعقل.
تواترت الأخبار عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما يراه العقل مستحيلًا، ولكن قد يأتي بما تحار فيه العقول. فإن رجوع الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا بل الروح لها مع البدن خمسة أنواع من التعلق تتغاير أحكامها:
أحدها: روح الجنين في بطن أمه.
وثانيها: بعد خروجه على الأرض. وثالثها: حال النوم فلها تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
والرابع: في القبر (في البرزخ) فللروح اتصال مع البدن ومفارقة تخالف كل ما سبق.
والخامس: بعد البعث وهو أكمل أحوال التعلق بالبدن فهو تعلق لا يقبل الموت ولا النوم.
واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ فكل من مات وهو مستحق لهذا العذاب ناله سواء دفن في قبر أو أكلته السباع أو احترق حتى صار رمادًا ونسف في الهواء.
فإن العذاب يصل إلى روحه وبدنه. نؤمن بذلك كما أخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكم من بدعة نشأت وضلالة حدثت بحمل كلام الشارع على الغلو أو التقصير – فيلزم حمل الأخبار الصحيحة على مراد الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم – وما يقال في علاقة العقل بعذاب القبر يقال في كل ما ثبت من الأمور الاعتقادية الغيبية.
رابعًا: دخول أصحاب المعاصي من أهل التوحيد النار ثم خروجهم منها ودخولهم الجنة ثابت بالقرآن والسنة. لقول الله تعالى في سورة مريم 71-72(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ).
ولقد تواترت الأحاديث بشفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – في أهل الكبائر من أمته، ممن دخل النار فيخرجون منها. وقد خالف في ذلك الخوارج والمعتزلة جهلًا أو عنادًا.
وهذه الشفاعة يشارك النبي فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون وهي تتكرر منه- صلى الله عليه وسلم – أربع مرات. لحديث أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ولحديثه الطويل في الشفاعة في صحيح مسلم جاء فيه (.. وأخر له ساجدًا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسلم تعط واشفع تشفع. فأقول: يارب أمتي. أمتي. فيقول : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل. ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدًا.. حتى قال- صلى الله عليه وسلم – فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل).
والناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال:
– فالمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم: يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا – أي تبطل الحق
أو تحق الباطل فيتصورها صورة من صور الظلم القائم في دنياهم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
– والمعتزلة والخوراج أنكروا شفاعة نبينا – صلى الله عليه وسلم – وغيره في أهل الكبائر.
– أما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة النبي في أهل الكبائر وبشفاعة من صح الخبر فيهم، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله
له ويحد له حدًا كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه.
خامسًا: نسبة هذا الاعتقاد لليهود خلط وتمويه لأن ما عليه اليهود ليس من قبيل الكبائر لكنه الشرك والكفر ومحاربة الله ورسوله وتحريف الكتب المنزلة وتكذيب الأنبياء والمرسلين بل وقتلهم، وكل هذا يجعل نقل كلامهم في هذا الموضع خطأ واضحًا خاصة إذا أضيف إليه وجود نصوص القرآن والسنة السابق بيانها.
هذا وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين ..
——
(1) دخلت بسكون التاء، وعلى بتشديد الياء. بمعنى أن العجوز هي التي دخلت على عائشة.