الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فنورد في هذا العدد- إن شاء الله- أدلة الحجاب كما ناقشها العلماء رحمهم الله تعالى:
ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها بما في ذلك وجهها، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ}، فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى: يدنين عليهن من جلابيبهن: أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة، تبصر بها، وممن قال به ابن مسعود وابن عباس، وعبيدة السّلمانى، رضي الله عنهم، وغيرهم.
قيل: النظر في الآية الكريمة وهو قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ}، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نصّ من كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: إن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ}، يدخل في معناه ستر وجوههنّ بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: {قُلْ لأَزْوَاجِكَ}، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين، فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب كما ترى. ثم قال الشيخ الشنقيطى: ومن الأدلة على ذلك أيضا: ما قدّمنا في سورة النور في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، من أن استقراء القرآن، يدل على أن معنى إلا ما ظهر منها: الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصح تفسير إلا ما ظهر منها: بالوجه والكفين.. كما تقدم إيضاحه.
واعلم أن قول من قال: إنه قد قامت قرينة قُرآنية على أن قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة القرآنيّة المذكورة هى قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} قال: وقد دل عليه قوله: أن يعرفن على أنهن سافرات، كاشفات عن وجوههن، لأن التي تستر وجهها لا تعرف، باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منعًا باتًّا، لأن قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} صريح في منع ذلك.
وإيضاحه: أن الإشارة في قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن، وكشفهن عن وجوههن، كما ترى، فإدناء الجلابيب، منافٍ لكون المعرفة، معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه كما لا يخفى.
وقوله في الآية الكريمة: قل لأزواجك: دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية، ليست بكشف الوجوه، لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين..
والحاصل أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلّة متعددة:
الأول: سياق الآية كما أوضحناه آنفًا في قوله: «لأزواجك».
الثاني: أن عامة المفسرين والصحابة ومن بعدهم: فسروا الآية، مع بيانهم سبب نزولها: بأن نساء المدينة كن يخرجن بالليل، لقضاء حاجاتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفسّاق يتعرضون للإماء ولا يتعرضون للحرائر، ولا تمييز بين لباسهن، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته، ونساء المؤمنين، أن يتميّزن في زيّهن عن زيِّ الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن فإذا فعلن ذلك، ورآهن الفسّاق علموا أنهن حرائر، ومعرفتهن بأنهن حرائر لا إماء، هو معنى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} فهي معرفة بالصّفة، لا بالشخص، وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن كما ترى..
وهذا هو الذي فسّر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية وهو واضح، وليس المراد فيه أنّ تعّرض الفساق للإماء جائز، بل هو حرام، ولاشك أن المتعّرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: الذين في قلوبهم مرض، في قوله تعالى: {لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}.
وجاء في لسان العرب تعريف الجلباب بأنه: ثوب أوسع من الخمار، دون الرداء، تغطّى به المرأة رأسها وصدرها. وقيل: هو ثوب واسع، دون الملحفة، تلبسه المرأة، وقيل: هو ما تغطي به المرأة الثياب، من فوق كالملحفة، وقيل: هو الخمار، وفي حديث أم عطية: تلبسها صاحبتها من جلبابها. أي: إزارها، وفي التنزيل العزيز: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} قال ابن السكّيت: قالت العامرية: الجلباب الخمار، وقيل: جلباب المرأة ملاءتها التي تشتمل بها، واحدها جلباب، والجمع جلابيب.
الثالث: الفهم العملّي لمعنى يدنين عليهن من جلابيبهن إنّ من يتتبع أقوال أمهات المؤمنين، والصحابة وزوجاتهم وأعمالهمْ، يدرك أنهم رضي الله عنهم جميعًا، قد أبانوا ما يجب أن تعمله المرأة في تغطية وجهها بهذا الجلباب، مسارعة منذ نزلت الآية، ويستبعد أن عملهن ذلك عن عدم فهم للدلالة المطلوبة من نص الآية الكريمة.. كيف وهم أمام سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصره، الذي يعلمهم ما خفي عليهم بالفهم أو العمل.
تقول عائشة رضي الله عنها في تزكيتها لنساء الأنصار: رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} الآية، شققن مروطهن، فاعتجرن بها، فصلّين، خلف رسول الله- وفي رواية الفجر- كأن على رؤوسهن الغربان.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار، كأنّ على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهنَّ أكسية سود يلبسنها وما ذلك إلا أن الرّجال كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلّغون نساءهم بما نزل من تشريع، فيسارعن في التطبيق، وحسن الامتثال.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطّين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدة.
وعائشة رضى الله عنها، تتحدث عن نفسها وعن نساء الصحابة ذلك الوقت، عندما قالت وهى حاجّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَكنّا عز وجل«نا»هنا للجمع لها ولنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنساء الصحابة في ذلك الحج نكشف عن وجوهنا، فإذا حاذينا الرجال، سدلنا الحجاب على وجوهنا، فإذا جاوزونا كشفناه، وهذا الحج هو حج الوداع.
وفى رواية: قالت: «كان الركبان يمرّون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه»(1) وهذا تطبيق عمليّ من نساء الصدر الأول، ومسارعة في الفهم، وهنّ القدوة، وبحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، مع أن إحرام المرأة في وجهها، فكان تغطيته عند محاذاة الركبان، ولم يعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة من محظورات الإحرام، التى تستوجب الكفارة؛ مما يدل على وجوب ستر الوجه، مع أن المشروع في إحرام المرأة كشفه، وما ذلك إلا بوجود مانع قويّ بالتغطيه امتثالاً لأمر الله في الحجاب.
ولما كان كثير من أهل العلم يرون كشف الوجه من واجبات الإحرام، فإن عمل عائشة رضى الله عنها ونساء الصحابة وأمهات المؤمنين، بالاحتجاب، وتغطية الوجه عند محاذاة الركبان، لا يعتبر مخالفة لمقتضيات الإحرام، وإنما عارضه ما هو أقوى منه دليلا، وأوجب في حق المرأة، وهنّ إذا لم يؤمرن صراحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أقرهن، ومعلوم أن السنة النبوية في قوله وإقراره وعمله صلى الله عليه وسلم.. وستر الوجه جاء فيه القول والإقرار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاواه: وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن المرأة المحرمة تنهى عن النقاب والقفّازين، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفّازين، كانا معروفين في النساء الّلاتى لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.
الرابع: إذا علم أن الأدلة التي يستدل بها المجيزون على جواز كشف الوجه للأجانب من المرأة، هي أربعة، كما مرّ بنا(2) من إحصاء الشيخ محمد بن عثيمين، رحمه الله.
فإن وجوه الاستدلال بعدم الجواز التى أوردها فضيلته عشرة؛ أربعة من كتاب الله، وستة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زادها بالحادي عشر وهو: الاعتبار الصحيح والقياس المطّرد. الذي جاءت به الشريعة الكاملة، وهو إنكار المفاسد ووسائلها والزّجر عنها، وإقرار المصالح ووسائلها والحث عليها.
وقال في ذلك: فكل ما كانت مصلحته خالصة أو راجحة على مصلحة فهو مأمور به أمر إيجاب أو أمر استحباب، وكل ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة على مصلحة. فهو منهي عنه نهي تحريم، أو نهي تنزيه، وإذا تأملنا السّفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب، وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة، وإن قدّر فيه مصلحة فهي يسيرة منغمرة في جانب المفاسد.
ثم ذكر من هذه المفاسد أربعًا وهى:
1- الفتنة؛ فإن المرأة بنفسها فتنة فضلاً عما يجمّل وجهها ويبهّيه، ويظهره بالمظهر الفاتن، وهذا من أكبر دواعي الشرّ والفساد.
2- زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان، ومن مقتضيات فطرتها، فقد كانت المرأة مضرب المثل في الحياء يُقال: أشد حياءً من العذراء في خدرها، وزوال الحياء عن المرأة نقص في إيمانها، وخروج عن الفطرة التى خلقت عليها.
3- افتتان الرجال بها، لا سيما إذا كانت جميلة، وحصل منها تملّق وضحك ومداعبة كما في كثير من السافرات.
4- اختلاط النساء بالرجال، فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه، والتجوّل سافرة لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمته، وفى ذلك فتنة كبيرة، وفساد عريض.
الخامس: إذا كان العلماء رحمهم الله يرون من العلل في الحجاب خوف الفتنة، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء» وأخبر صلى الله عليه وسلم: «أن فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء». فقد جاءت محاذير عن إبداء الزينة الباطنة، كالنحر والصدر، وجاء الأمر من الله جلّت قدرته بحفظ النساء لفروجهن، وهذا يقتضى الأمر بالوسيلة المقرّبة إلى حفظ الفروج.
الوجه أعظم فتنة في المرأة:
ولاشك أن زينة المرأة وجمالها الباطن في وجهها، الذي هو مجمع المحاسن فيها، ولم يرخص الله ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير المحارم برؤيته إلا للخاطب «لعلّه يؤدم بينهما».. مما يدعو إلى إدراك الحكمة في التشريع في اعتبار الوجه هو المقصود بالحجاب وإدنائه من أعلى الرأس، إلى النّحر والصدر، ليشمل الوجه. وعلة أخرى في هذا السبيل في دلالة الآية الكريمة: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}، والمراد من ذلك صوت الخلخال وغيره مما تتحلّى به المرأة للرجل. يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذا: فإذا كانت المرأة منهيّة عن الضرب بالأرجل خوفًا من افتتان الرجل بها، لما يسمع من صوت خلخالها ونحوه. فكيف بكشف الوجه.. ومعلوم أن الوجه هو مجمع المحاسن. فأيهما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالاً بقدم امرأة لا يدري ما هى وما جمالها؟ ولا يدرى أشابة هى أم عجوز؟ ولا يدرى أشوهاء هى، أم حسناء؟ أيهما أعظم فتنة هذا، أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل، ممتلئ شبابًا ونضارة، وحسنًا وجمالاً، وتجميلاً بما يجلب الفتنة، ويدعو إلى النظر إليها؟ إن كل إنسان- له إربة في النساء- ليعلم أيَّ الفتنتين أعظم، وأحق بالستر والإخفاء، فإن كان قد اخْتُلِفَ في فهم الزينة الظاهرة، فإن الحجّة في فهم الصحابة ونسائهم، حيث طبقن ذلك عملاً بتغطية الوجه والصدر والنحر والشعر، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: «وكان يعرفني قبل نزول الحجاب» وقولها في الإحرام: كنّا بالجمع، تعنى: نفسها ونساء الرسول ونساء المؤمنين نكشف وجوهنا فإذا حاذينا الرجال، سدلت إحدانا خمارها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا.
فهذا العمل حجّة لا يصحّ تأويله، لأنّه تطبيق عملى لمفهوم النصّ الشرعى، في آية الحجاب، خاصة وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولو عملوا شيئًا خطأً لنبههم إليه، كما في صلاة المسيء.
وللحديث بقية إن شاء الله.
—–
1- هذه الرواية ضعيفة، وتراجع الرواية الصحيحة رواية فاطمة بنت المنذر: البخاري كتاب الحج (ح1545).
2- في المقال السابق عدد رمضان 1423هـ.