من أحكام البيع (2)

أخرج البخاري في ( صحيحه ) عن حكيم بن حزام ، رضي الله عنه ، قال ‏‏: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا – أو ‏قال : حتى يتفرقا – فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا ‏محقت بركة بيعهما ) .‏

وعن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( ‏إن المتبايعين كل واحد منهما بالخيار في بيعهما على صاحبه ما لم يتفرقا أو ‏يكون البيع خيارًا ) ‏

وفي رواية : ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا ‏جميعًا ، أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع ، وإن ‏تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ) .‏

وقال نافع : وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه ، ‏والحديثان أخرجهما مسلم أيضًا برقم ( 1531 ، 1532) .‏

جاءت الشريعة بحماية الضرورات الخمس : الدين ، والنفس ، والعرض ، ‏والعقل ، والمال، فشرع لذلك أمورًا ضبطها وقننها حتى يصلح حال الناس ‏ويزول الفساد ويحل الوئام ، ومن أهم هذه الأمور البيع ؛ فالبيع مشروع ‏بالقرآن والسنة والإجماع والقياس، حيث بين الله سبحانه في كتابه الكريم ‏وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – في سنته المطهرة أحكام البيع والمعاملات ‏لحاجة الناس إلى ذلك كحاجتهم إلى شراء الغذاء الذي به قوام الأبدان ‏والملابس والمساكن والمراكب وغيرها من ضرورات الحياة وحاجاتها ومكملاتها ‏‏، فمن أدلة مشروعيته في القرآن قوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) [ البقرة : ‏‏275] .‏

وفي السنة أحاديث كثيرة جدًّا ؛ منها حديث الزبير بن العوام مرفوعًا : ( ‏لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله ‏بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) .‏

وأما القياس فإن حاجة الناس إلى البيع قائمة ؛ لأن الإنسان تتعلق حاجته بما في يد غيره ولا تطيب نفسى مسالكه أن يبذله له ‏بغير عوض ، ولا تطيب نفس مالكه أن يبذله له بغير عوض؛ لذا اقتضت ‏الحكمة أن يكون البيع مشروعًا لتحقيق الأغراض المباحة للناس وتيسير ‏بلوغهم حاجاتهم .‏

والبيع : مبادلة مال بمال ؛ بقصد التملك بما يدل عليه من صيغ القول ‏والفعل .‏

والأصل في البيوع والمعاملات التجارية كلها – الحل والإطلاق – لا فرق بين ‏تجارة الإدارة التي يديرها التجار بينهم ، هذا يأخذ العوض ، وهذا يعطي ‏المعوض ؛ لقوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ) [ ‏البقرة : 282] ، ولا بين التجارة في الديون الحال ثمنها المؤجل مثمنها ‏كالسلم وبيع السلع بأثمان مؤجلة ، ولا بين تجارة التربص والانتظار بأن ‏يشتري السلع في أوقات رخصها وينتظر بها الرواج في المواسم ، ولا بين ‏التجارة بالتصدير والتوريد من محل إلى آخر ، وبين التجارة والتكسب أفرادًا ‏ومشتركين .‏

فكل هذه الأنواع وما يتبعها قد أباحها الشارع ، وأطلقها لعباده رحمة بهم ‏ومراعاة لمصالحهم، ودفعًا للأضرار عنهم ، وكلها جائزة بما يقترن بها ‏ويتبعها من شروط ووثائق ونحوها ، يدخل في عموم ذلك جميع أجناس ‏المبيعات وأنواعها وأفرادها من عقارات وحيوانات وأمتعة وأطعمة وأواني ‏وأشربة وأكسية وفرش وغيرها ، إذا سلمت من المحاذير الشرعية التي حذر ‏منها الشرع ، ولابد أن يقترن ذلك بالتراضي بين المتبايعين رضًا يصدر  ‏

عن معرفة ، وإذا كان أحد الطرفين سفيهًا أو مجنونًا قام عنه وليه .‏

واعلم أن المحاذير المانعة هي : الربا ، والغرر ، والظلم  ، والميسر ، والغش ، ‏والتدليس ، وبخس الكيل والميزان .‏

أنواع البيوع :‏

‏1- المقايضة : وهو بيع عين بعين ، كأن يعطي تمرًا ويأخذ ثيابًا ، أو يعطي غنمًا ‏يشتري بها بيتًا دون توسيط النقود .‏

قال ابن منظور : وقايض مقايضة إذا أعطاه سلعة وأخذ عوضها سلعة وباعه فرسًا ‏بفرسين ، والقيض : العوض .‏

‏2- المراطلة : بيع النقد بمثله – فضة بفضة ، أو ذهبًا بذهب – وتجب فيها ‏المساواة وزنًا ، وأن تكون يدًا بيد ، لا تأجيل فيها ؛ لحديث أبي بكرة ، ‏رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( لا تبيعوا الذهب ‏بالذهب ، إلا سواء بسواء ، والفضة بالفضة ، إلا سواء بسواء ، وبيعوا ‏الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم ) . أخرجه البخاري ومسلم .‏

قال في ( بداية المجتهد ) : إجماع العلماء على أنه إذا قال : أبيعك هذه بدراهم ‏مثلها وأنظرك بها حولاً أو شهرًا أنه لا يجوز ، ولو قال له : أسلفني دراهم ‏وأمهلني فيها حولاً أو شهرًا لجاز ذلك ، وليس بينهما إلا اختلاف اللفظ .‏

‏3- الصرف : بيع النقد بنقد آخر – ذهب بفضة – ومثلها سائر العملات المختلفة ‏اليوم ، ويجب أن تكون يدًا بيد ، فلا يجوز فيها التأجيل ؛ لحديث عمر بن ‏الخطاب ، رضي الله عنه ، المتفق عليه : ( الذهب بالورق ربًا ، إلا هاء وهاء ‏‏) .‏

‏4-  الإجارة : وهي بيع المنفعة بالمال مثل كراء الدور للسكنى ، أو العمل ، ‏وكراء الدواب والسيارات ، وكراء الأرض لزراعتها . ( الكراء ؛ أي الإجارة ) ‏‏.‏

‏5-  البيع : وهو بيع العروض (1) بالنقود ، وهو لا يسمى إلا بيعًا ؛ لأنه أكثر ‏الأنواع شيوعًا، وله أربعة أقسام :‏

أ – بيع ناجز : وهو ما يكون يدًا بيد ؛ أي تسلم السلعة والثمن في مجلس العقد .‏

ب – بيع السلم : وهو ما يكون الثمن حالاً والعرض مؤجلاً ، ويشترط فيه تسليم ‏الثمن في مجلس العقد ، وأن يكون العرض معينًا ؛ أي كيل معلوم أو وزن معلوم ‏إلى أجل معلوم ، وكذلك الصنف ونوعه ووصفه معلوم في مجلس العقد .‏

جـ – بيع الأجل : وهو ما يكون العرض حالاً والثمن مؤجلاً ، ويشترط فيه أن ‏تكون القيمة والأجل محددين .‏

د – بيع الدين بالدين : هو ما يكون العرض والثمن مؤجلين ، وهو ما لا يجوز ‏فعله ؛ لحديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى ‏عن بيع الكالئ بالكالئ – يعني الدين بالدين . [ أخرجه الطحاوي في ( شرح ‏معاني الآثار ) ] .‏

الحوالة : هي نقل دين من ذمة إلى ذمة ، كأن يكون لك على رجل دين ، ويكون ‏لذلك الرجل على آخر دين كذلك ، فيقول لك ذلك الرجل ، خذ دينك الذي عليَّ ‏من فلان لذلك الآخر ، وهذا قد يسميه البعض : بيعًا ، وفيها حديث الشيخين ‏عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( مطل ‏الغني ظلم ، ومن اتبع على مليء فليتبع ).

والمليء : أي الغني ، والمعنى أن على المحال قبول الإحالة إذا أحاله على غني ‏ورضي المحال عليه ، ويشترط تماثل الحقين ، وأن يكون في شيء معلوم .‏

شروط صحة البيع :‏

‏1- المنفعة المباحة شرعًا للمعقود عليه، فلا يباع ما لا نفع فيه، فبيع ما لا نفع ‏فيه سفه في العقل وإضاعة للمال، ولا يباع ما يحرم الانتفاع به؛ لحديث ‏البخاري: ( قاتل الله اليهود ! حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ) .‏

‏2-  ملكية البائع للمباع أو الإذن له في بيعه ، أما بيع الفضولي – أي الذي لم يؤذن ‏له – ففيه خلاف مشهور ، حيث اتفق الفقهاء على صحة بيع الفضولي إذا كان ‏المالك حاضرًا ، أو أجاز البيع ؛ لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل ، واتفقوا ‏على عدم صحة بيعه إذا كان المالك غير أهل للإجازة كالسفيه والصبي ، ‏واختلفوا إذا كان الملك أهلاً للتصرف وكان غائبًا ، والجمهور على صحة البيع ‏‏، إلا أنه موقوف على إجازة المالك ، ودليل ذلك ؛ حديث عروة البارقي أن ‏النبي – صلى الله عليه وسلم – أعطاه دينارًا يشتري له به شاة ، فاشترى له به ‏شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، فجاء بدينار وشاة ، فقال له صلى الله عليه ‏وسلم : ( بارك الله لك في صفقة يمينك ) . رواه البخاري .‏

‏3-  قدرة البائع على تمكين المشتري من العين المباعة أو من الانتفاع بها ، فلا ‏يصح بيع السمك في الماء ، ولا الطير في الهواء ، ولا الشارد من الإبل ، وأمثال ‏ذلك .‏

‏4-  أهلية البائع والمشتري للتصرف ، فلا يصح بيع المجنون ، ولا السفيه ، ولا ‏الصبي غير المميز ، ولا شراؤه ، ويعفى عن التافه اليسير كالحلوى يشتريها ‏الطفل .‏

‏5-  التراضي، فلا يصح من مكره بغير حق مراعاة للعدل والإنصاف ؛ لقوله ‏تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ‏تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [ النساء : 29] .‏

‏6-  انتفاء الجهالة والغرر والربا .‏

‏7-  أن يكون المبيع موجودًا عند العقد ، إلا في بيع سلم .‏

‏8-  أن يكون الثمن معلومًا .  ‏

تحديد الثمن : لتحديد ثمن المبيع طرق :‏

منها : المزايدة : وهي أن يعرض البائع سلعته في السوق ليتزايد المشترون فيها ‏فتباع لمن دفع الثمن الأعلى ، وهي صورة من صور البيع المباحة إذا خلت من ‏النجش ، بل صرح بعض أهل العلم باستحباب المزايدة عند بيع مال المفلس لما فيه ‏من توقع زيادة الثمن وتطييب نفوس الغرماء ، ومصلحة ذلك الفقير الذي أفلس ؛ ‏لذا سماه بعض أهل العلم بيع الفقراء .‏

وقد جاء في عقد المزايدة قرار المجمع الفقهي في المحرم 1414 هـ كما يلي :‏

‏1- عقد المزايدة عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداءًا أو كتابة للمشاركة في ‏المزاد ويتم عند رضا البائع .‏

‏2-  يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى : بيع ، أو إجارة ، وغير ذلك ، ‏وبحسب طبيعته إلى : اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد ، وإلى إجباري  ‏كالمزادات التي يوجبها القضاء وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة ‏والحكومية والأفراد .‏

‏3-  أن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط ‏وشروط قانونية يجب ألا تتعارض مع أحكام الشريعة .‏

‏4-  طلب الضمان : ممن يريد دخول المزايدة جائز شرعًا ، على أن يُرد لكل ‏مشارك لم يرسُ عليه العطاء ، وأن يحتسب من الثمن لمن فاز بالصفقة .‏

‏5-  رسم الدخول : أو قيمة دفتر الشروط لا يزيد عن القيمة الفعلية له لكونه ‏ثمنًا له .‏

‏6-  النجش حرام . اهـ .‏

ومن طرق تحديد الثمن : المناقصة : وهي أن يطلب المشتري سلعة موصوفة ؛ ‏فيتنافس الباعة في عرضها بأقل ثمن ، ويرسو البيع على من رضي بأقل سعر .‏

قال في ( موسوعة الفقه ) : ويسري عليها ما يسري على المزايدة مع مراعاة ‏التقابل .‏

ومنها : المرابحة : وهي بيع المشتري أو وكيله سلعة بالثمن الأول مع إضافة ‏زيادة معلومة ؛ إما بمقدار محدد ، أو نسبة عشرية معلومة .‏

ومنها : الوضيعة : وهي بيع بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء معلوم .‏

ومنها : التولية : وهو نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح ‏‏.‏

ومنها : بيع المسترسل : وهو بيع من لا يعرف القيمة ، ولا يحسن المماكسة .‏

ومنها : بيع الأشراك : وهو بيع بعض المبيع ببعض الثمن ، بحيث تصبح السلعة ‏بينهما مشاعًا لكل منهما نسبة معلومة منها .‏

بعد سرد صور تحديد الثمن نقول بعون الله تعالى : ترجم البخاري في ( صحيحه ‏‏) باب : ( صاحب السلعة أحق بالسوم ) ، وقال ابن بطال :  لا خلاف بين ‏العلماء في هذه المسألة ، وأن متولي السلعة من مالك أو وكيل أولى بالسوم من طالب ‏الشراء .‏

ثم قال ابن حجر : لكن ذلك ليس بواجب ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه ‏وسلم لجابر في شأن جمله : ( بعنيه بأوقية ) ؛ أي أنه حدد السعر ، مع أنه ‏- صلى الله عليه وسلم – هو المشتري .‏

التسعير : ‏

وهو تقدير السلطان ونائبه للناس سعرًا وإجبارهم على التبايع به ، والتسعير لا ‏يجوز ، والأصل فيه الحرمة ، إلا بشروط معينة ، ودليل ذلك قول الله تعالى : ( ‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ‏مِنْكُمْ ) [ النساء : 29] ، فاشتراط التراضي في الآية لا يتحقق بالتسعير .‏

ودليل ذلك من السنة ما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أنس بن مالك ، ‏رضي الله عنه ، قال : غلا السعر على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فقالوا  ‏‏: يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : ( إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق ، ‏وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة من دم ولا مال ) .‏

وفي الحديث بيان خطر ظلم الناس في دمائهم وأموالهم ، وأن خطره عظيم يوم ‏القيامة ، حيث لا وفاء إلا بالحسنات والسيئات ، فالناس يتعاملون في أموالهم ، ‏والتسعير حجر عليهم ، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين ، وليس نظره في ‏مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع برفع الثمن ، وإذا ‏تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم ، وإلزام صاحبه أن ‏يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى : ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) ‏‏.‏

يقول البسام في ( توضح الأحكام ) : إذا كان تحديد السعر على الناس ظلمًا تبرأ ‏منه النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فما بالك بالحكومات التي تدعي الإسلام وتسلب ‏أموال الرعية باسم الاشتراكية ، وتأميم موارد رزقهم ، ثم ترهقهم بالضرائب ‏والرسوم والتعريفات الجمركية التي ألحقت الفقر والفاقة بالمستهلكين من ‏رعاياهم ، ومع هذا لم تزدهم هذه  الأعمال إلا فقرًا وديونًا واستعمارًا للدول ‏الغنية .‏

هذا ، فإذا تلاعب بأسواق المسلمين فئة من أهل الجشع جاز للسلطان ، بل قد ‏يجب عليه أن يتدخل لمنعهم من هذا البعث ، ولو سعر عليهم ما كان ظالمًا ، بل ‏هو مانع لهم من الظلم ؛ لحديث : ( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا ) .‏

فقال رجل : يا رسول الله ، أنصره مظلومًا ، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره ؟ ‏فقال : (تحجزه ، أو تمنعه من الظلم ، فإن ذلك نصره ) . ‏أخرجه البخاري عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه .‏

ولذلك فالتسعير جائز بشرطين :‏

‏1- أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس .‏

‏2-  أن يكون الغلاء لقلة العرض أو كثرة الطلب .‏

وفي ذلك نص قرار المجمع الفقهي في جمادى الأولى 1409 هـ :‏

أولاً : الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في ‏بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة ‏الإسلامية الغراء وضوابطها ، عملاً بمطلق قول الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ‏لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .ثانيًا : ‏ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك ‏متروك لظروف التجارة عامة ، وظروف الأسواق والسلع ، مع مراعاة ما تقتضي ‏به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير .ثالثًا : تضافرت ‏نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام ‏وملابساته كالغش والخديعة والتدليس والاستغلال وتزييف حقيقة الربح ‏والاحتكار ، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة  .

رابعًا : لا يتدخل ولي ‏الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا عن عوامل ‏مصطنعه ، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على ‏تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب ‏الخلل والغلاء والغبن الفاحش ، والله أعلم .‏

‏( انتهى قرار المجمع الفقهي )  ، وفيه بيان شروط جواز التسعير ، وفيه أيضًا ‏أن ربح التجارة ليس له في الإسلام حد إذا خلت الأسواق من المخالفات الشرعية .‏

عقد البيع : ينعقد البيع بكل قول أو فعل عده الناس بيعًا ، وحصل به المقصود ، ‏ولا يشترط ألفاظًا  بعينها ، ولكن ما تعارف عليه الناس ، فالعرف أحد القواعد ‏التي أخذ بها الفقهاء ؛ لذا ترجم البخاري في كتاب البيوع باب : ( إجراء أمر ‏الأمصار على ما يتعارفون بينهم ) .‏

وينعقد البيع بالكتابة بين حاضرين ، أو باللفظ من أحدهما ، والكتابة من الآخر ‏‏، أو بالمراسلة من غائب كأن يرسل إليه يقول : بعتك داري بكذا ، فإذا قبل بعد ‏اطلاعه عليه ؛ سواء بكتاب أو برسول يشافهه صح البيع ، ويصح كذلك بالإشارة ‏من الأخرس إذا كانت مفهومة .‏

البيع بالمعاطاة : وهو إعطاء كل من المتبايعين لصاحبه ما يقع عليه التبادل دون ‏ذكر صيغة الإيجاب والقبول أو بذكر أحدهما دون الآخر ويصح بها البيع في ‏القليل والكثير عند الجمهور.‏

وقد جاء الشرع الحنيف بالعدل والإنصاف والتيسير ، فحد حدودًا ، ووضح معالم ‏البيع والأسواق ؛ حتى يقطع أسباب الشحناء والتباغض بسبب الأموال ، وهو من ‏محاسن الشريعة الغراء .‏

أمثلة من البيوع المحرمة :‏

نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أنواع من البيع لما فيها من الغرر (1) والغش ‏المؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل وإثارة الأحقاد ووقوع النزاع والخصومات بين ‏الناس ، ومن ذلك :‏

المحاقلة : مشتقة من الحقل ، حيث يكون الزرع في الحقل ؛ وهي بيع الحب في ‏سنبله بعد اشتداده بحب من جنسه ، وفيه جهالة المقدار والجودة ، وفيه الربا ‏لعدم العلم بالتساوي والضابط الشرعي ( الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم ‏‏) .‏

المخابرة : كراء الأرض لزراعتها بأن يكون لصاحب الأرض جانب من الزرع معينًا ‏وللزارع جانب آخر ، وفيها الجهالة ، فربما صلح هذا وتلف هذا ، والصحيح أن ‏يكون لكل منهما جزء معلوم مشاعًا في الناتج ليشتركا في الغنم والغرم ويسلما من ‏الجهالة .‏

المزابنة : بيع مكيل أو موزون لا يعلم مقداره بشيء من جنسه ، مثل بيع العنب ‏بالزبيب ، أو الرطب بالتمر ، أو التمر في رءوس النخل بتمر مثله ، وفيها ‏الجهالة والمخاطرة بغير حاجة ، وفيها الربا .‏

إلا أن الشرع رحمة بالخلق رخص في بيع العرايا (2) ، والعرية هي عطية ثمر ‏النخلة للمساكين دون الرقبة ، فقد يحتاج المسكين للرطب أو التمر ليأكله هو ‏وعياله فرخص الشرع له في بيعه في رءوس النخل لفقره رخصه بقدر الحاجة ، أو ‏قد يتأذى صاحب العرية بدخول المسكين الذي أخذ النخلة ( العرية ) كلما دخل ‏عليه في بستانه ، فرخص في بيع العرية خرصًا ( أي تقديرًا و تخمينًا ) وجاءت الرخصة فيما دون خمسة أوسق (3) للحاجة ، فتدبر ‏فذلك باب رحمة ورخصة وألفة وقطع نزاع قد يقع بين الناس .‏

المخاضرة : بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها ، وقد نهى الشرع عنها ؛ ‏لحديث أنس ، رضي الله عنه ، نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن بيع الثمر حتى ‏تزهو ، قال : (أرأيت إن منع الله الثمر ، بم تستحل مال أخيك ) .‏

وللحديث بقية إن شاء الله .‏

———-

(1) الغرر : أصل عظيم من أصول فساد البيع ، لذا جاء الباب الأول في كتاب ‏البيوع عند مسلم عن صور بيوع الغرر .‏

والغرر اليسير معفو عنه للحاجة ، فدخول الحمام وإجارته جائزة مع تفاوت ‏الناس في : استهلاك الماء ، ومدة البقاء فيه ، والشرب من السقاء ، وكذلك تناول ‏الطعام من المطعم بصورة المائدة المفتوحة ، مع تفاوت الناس في شربهم وأكلهم ‏جائز .‏

قال القرطبي في ( المفهم ) : فإن كل بيع لابد فيه من نوع من الغرر ، لكنه لما كان ‏يسيرًا غير مقصود لم يلتفت الشرع إليه ، ولما انقسم الغرر إلى هذين الضربين فيما ‏تبين أنه من الضرب الأول منع ، وما كان من الضرب الثاني ( اليسير ) أجيز . ‏اهـ .‏

‏(2) العرايا : جمع عرية : وهي منح ثمرة النخلة لفقير دون الشجرة ، ومثلها ‏المنيحة ، وهي أن يتطوع صاحب الشاة أو الناقة الحلوب فيعيطها للفقير ‏يشرب لبنها حتى إذا جف لبنها ردها إلى صاحبها ، ولما كانت المنيحة تقبل ‏النقل إلى بيت الفقير والشجرة لا تنقل من بستان الغني ، كان وقوع الحرج ‏للغني من دخول الفقير عليه في بستانه ؛ لذا جاء الشرع رحمة بالناس ، ‏فرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق خرصًا وتخمينًا يبعهما بتمر ‏مثله ، والحمد لله رب العالمين .‏

‏(3) الوسق : ستون صاعًا ، والصاع أربعة أمداد ، والمد حفنة بحفنة الرجل ‏المعتدل ، والله أعلم .‏