أخرج البخاري في ( صحيحه ) عن حكيم بن حزام ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا – أو قال : حتى يتفرقا – فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) .
وعن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إن المتبايعين كل واحد منهما بالخيار في بيعهما على صاحبه ما لم يتفرقا أو يكون البيع خيارًا )
وفي رواية : ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا ، أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ) .
وقال نافع : وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه ، والحديثان أخرجهما مسلم أيضًا برقم ( 1531 ، 1532) .
جاءت الشريعة بحماية الضرورات الخمس : الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال، فشرع لذلك أمورًا ضبطها وقننها حتى يصلح حال الناس ويزول الفساد ويحل الوئام ، ومن أهم هذه الأمور البيع ؛ فالبيع مشروع بالقرآن والسنة والإجماع والقياس، حيث بين الله سبحانه في كتابه الكريم وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – في سنته المطهرة أحكام البيع والمعاملات لحاجة الناس إلى ذلك كحاجتهم إلى شراء الغذاء الذي به قوام الأبدان والملابس والمساكن والمراكب وغيرها من ضرورات الحياة وحاجاتها ومكملاتها ، فمن أدلة مشروعيته في القرآن قوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) [ البقرة : 275] .
وفي السنة أحاديث كثيرة جدًّا ؛ منها حديث الزبير بن العوام مرفوعًا : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) .
وأما القياس فإن حاجة الناس إلى البيع قائمة ؛ لأن الإنسان تتعلق حاجته بما في يد غيره ولا تطيب نفسى مسالكه أن يبذله له بغير عوض ، ولا تطيب نفس مالكه أن يبذله له بغير عوض؛ لذا اقتضت الحكمة أن يكون البيع مشروعًا لتحقيق الأغراض المباحة للناس وتيسير بلوغهم حاجاتهم .
والبيع : مبادلة مال بمال ؛ بقصد التملك بما يدل عليه من صيغ القول والفعل .
والأصل في البيوع والمعاملات التجارية كلها – الحل والإطلاق – لا فرق بين تجارة الإدارة التي يديرها التجار بينهم ، هذا يأخذ العوض ، وهذا يعطي المعوض ؛ لقوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ) [ البقرة : 282] ، ولا بين التجارة في الديون الحال ثمنها المؤجل مثمنها كالسلم وبيع السلع بأثمان مؤجلة ، ولا بين تجارة التربص والانتظار بأن يشتري السلع في أوقات رخصها وينتظر بها الرواج في المواسم ، ولا بين التجارة بالتصدير والتوريد من محل إلى آخر ، وبين التجارة والتكسب أفرادًا ومشتركين .
فكل هذه الأنواع وما يتبعها قد أباحها الشارع ، وأطلقها لعباده رحمة بهم ومراعاة لمصالحهم، ودفعًا للأضرار عنهم ، وكلها جائزة بما يقترن بها ويتبعها من شروط ووثائق ونحوها ، يدخل في عموم ذلك جميع أجناس المبيعات وأنواعها وأفرادها من عقارات وحيوانات وأمتعة وأطعمة وأواني وأشربة وأكسية وفرش وغيرها ، إذا سلمت من المحاذير الشرعية التي حذر منها الشرع ، ولابد أن يقترن ذلك بالتراضي بين المتبايعين رضًا يصدر
عن معرفة ، وإذا كان أحد الطرفين سفيهًا أو مجنونًا قام عنه وليه .
واعلم أن المحاذير المانعة هي : الربا ، والغرر ، والظلم ، والميسر ، والغش ، والتدليس ، وبخس الكيل والميزان .
أنواع البيوع :
1- المقايضة : وهو بيع عين بعين ، كأن يعطي تمرًا ويأخذ ثيابًا ، أو يعطي غنمًا يشتري بها بيتًا دون توسيط النقود .
قال ابن منظور : وقايض مقايضة إذا أعطاه سلعة وأخذ عوضها سلعة وباعه فرسًا بفرسين ، والقيض : العوض .
2- المراطلة : بيع النقد بمثله – فضة بفضة ، أو ذهبًا بذهب – وتجب فيها المساواة وزنًا ، وأن تكون يدًا بيد ، لا تأجيل فيها ؛ لحديث أبي بكرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا سواء بسواء ، والفضة بالفضة ، إلا سواء بسواء ، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم ) . أخرجه البخاري ومسلم .
قال في ( بداية المجتهد ) : إجماع العلماء على أنه إذا قال : أبيعك هذه بدراهم مثلها وأنظرك بها حولاً أو شهرًا أنه لا يجوز ، ولو قال له : أسلفني دراهم وأمهلني فيها حولاً أو شهرًا لجاز ذلك ، وليس بينهما إلا اختلاف اللفظ .
3- الصرف : بيع النقد بنقد آخر – ذهب بفضة – ومثلها سائر العملات المختلفة اليوم ، ويجب أن تكون يدًا بيد ، فلا يجوز فيها التأجيل ؛ لحديث عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، المتفق عليه : ( الذهب بالورق ربًا ، إلا هاء وهاء ) .
4- الإجارة : وهي بيع المنفعة بالمال مثل كراء الدور للسكنى ، أو العمل ، وكراء الدواب والسيارات ، وكراء الأرض لزراعتها . ( الكراء ؛ أي الإجارة ) .
5- البيع : وهو بيع العروض (1) بالنقود ، وهو لا يسمى إلا بيعًا ؛ لأنه أكثر الأنواع شيوعًا، وله أربعة أقسام :
أ – بيع ناجز : وهو ما يكون يدًا بيد ؛ أي تسلم السلعة والثمن في مجلس العقد .
ب – بيع السلم : وهو ما يكون الثمن حالاً والعرض مؤجلاً ، ويشترط فيه تسليم الثمن في مجلس العقد ، وأن يكون العرض معينًا ؛ أي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم ، وكذلك الصنف ونوعه ووصفه معلوم في مجلس العقد .
جـ – بيع الأجل : وهو ما يكون العرض حالاً والثمن مؤجلاً ، ويشترط فيه أن تكون القيمة والأجل محددين .
د – بيع الدين بالدين : هو ما يكون العرض والثمن مؤجلين ، وهو ما لا يجوز فعله ؛ لحديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن بيع الكالئ بالكالئ – يعني الدين بالدين . [ أخرجه الطحاوي في ( شرح معاني الآثار ) ] .
الحوالة : هي نقل دين من ذمة إلى ذمة ، كأن يكون لك على رجل دين ، ويكون لذلك الرجل على آخر دين كذلك ، فيقول لك ذلك الرجل ، خذ دينك الذي عليَّ من فلان لذلك الآخر ، وهذا قد يسميه البعض : بيعًا ، وفيها حديث الشيخين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( مطل الغني ظلم ، ومن اتبع على مليء فليتبع ).
والمليء : أي الغني ، والمعنى أن على المحال قبول الإحالة إذا أحاله على غني ورضي المحال عليه ، ويشترط تماثل الحقين ، وأن يكون في شيء معلوم .
شروط صحة البيع :
1- المنفعة المباحة شرعًا للمعقود عليه، فلا يباع ما لا نفع فيه، فبيع ما لا نفع فيه سفه في العقل وإضاعة للمال، ولا يباع ما يحرم الانتفاع به؛ لحديث البخاري: ( قاتل الله اليهود ! حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ) .
2- ملكية البائع للمباع أو الإذن له في بيعه ، أما بيع الفضولي – أي الذي لم يؤذن له – ففيه خلاف مشهور ، حيث اتفق الفقهاء على صحة بيع الفضولي إذا كان المالك حاضرًا ، أو أجاز البيع ؛ لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل ، واتفقوا على عدم صحة بيعه إذا كان المالك غير أهل للإجازة كالسفيه والصبي ، واختلفوا إذا كان الملك أهلاً للتصرف وكان غائبًا ، والجمهور على صحة البيع ، إلا أنه موقوف على إجازة المالك ، ودليل ذلك ؛ حديث عروة البارقي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أعطاه دينارًا يشتري له به شاة ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، فجاء بدينار وشاة ، فقال له صلى الله عليه وسلم : ( بارك الله لك في صفقة يمينك ) . رواه البخاري .
3- قدرة البائع على تمكين المشتري من العين المباعة أو من الانتفاع بها ، فلا يصح بيع السمك في الماء ، ولا الطير في الهواء ، ولا الشارد من الإبل ، وأمثال ذلك .
4- أهلية البائع والمشتري للتصرف ، فلا يصح بيع المجنون ، ولا السفيه ، ولا الصبي غير المميز ، ولا شراؤه ، ويعفى عن التافه اليسير كالحلوى يشتريها الطفل .
5- التراضي، فلا يصح من مكره بغير حق مراعاة للعدل والإنصاف ؛ لقوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [ النساء : 29] .
6- انتفاء الجهالة والغرر والربا .
7- أن يكون المبيع موجودًا عند العقد ، إلا في بيع سلم .
8- أن يكون الثمن معلومًا .
تحديد الثمن : لتحديد ثمن المبيع طرق :
منها : المزايدة : وهي أن يعرض البائع سلعته في السوق ليتزايد المشترون فيها فتباع لمن دفع الثمن الأعلى ، وهي صورة من صور البيع المباحة إذا خلت من النجش ، بل صرح بعض أهل العلم باستحباب المزايدة عند بيع مال المفلس لما فيه من توقع زيادة الثمن وتطييب نفوس الغرماء ، ومصلحة ذلك الفقير الذي أفلس ؛ لذا سماه بعض أهل العلم بيع الفقراء .
وقد جاء في عقد المزايدة قرار المجمع الفقهي في المحرم 1414 هـ كما يلي :
1- عقد المزايدة عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداءًا أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع .
2- يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى : بيع ، أو إجارة ، وغير ذلك ، وبحسب طبيعته إلى : اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد ، وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة والحكومية والأفراد .
3- أن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط وشروط قانونية يجب ألا تتعارض مع أحكام الشريعة .
4- طلب الضمان : ممن يريد دخول المزايدة جائز شرعًا ، على أن يُرد لكل مشارك لم يرسُ عليه العطاء ، وأن يحتسب من الثمن لمن فاز بالصفقة .
5- رسم الدخول : أو قيمة دفتر الشروط لا يزيد عن القيمة الفعلية له لكونه ثمنًا له .
6- النجش حرام . اهـ .
ومن طرق تحديد الثمن : المناقصة : وهي أن يطلب المشتري سلعة موصوفة ؛ فيتنافس الباعة في عرضها بأقل ثمن ، ويرسو البيع على من رضي بأقل سعر .
قال في ( موسوعة الفقه ) : ويسري عليها ما يسري على المزايدة مع مراعاة التقابل .
ومنها : المرابحة : وهي بيع المشتري أو وكيله سلعة بالثمن الأول مع إضافة زيادة معلومة ؛ إما بمقدار محدد ، أو نسبة عشرية معلومة .
ومنها : الوضيعة : وهي بيع بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء معلوم .
ومنها : التولية : وهو نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح .
ومنها : بيع المسترسل : وهو بيع من لا يعرف القيمة ، ولا يحسن المماكسة .
ومنها : بيع الأشراك : وهو بيع بعض المبيع ببعض الثمن ، بحيث تصبح السلعة بينهما مشاعًا لكل منهما نسبة معلومة منها .
بعد سرد صور تحديد الثمن نقول بعون الله تعالى : ترجم البخاري في ( صحيحه ) باب : ( صاحب السلعة أحق بالسوم ) ، وقال ابن بطال : لا خلاف بين العلماء في هذه المسألة ، وأن متولي السلعة من مالك أو وكيل أولى بالسوم من طالب الشراء .
ثم قال ابن حجر : لكن ذلك ليس بواجب ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لجابر في شأن جمله : ( بعنيه بأوقية ) ؛ أي أنه حدد السعر ، مع أنه - صلى الله عليه وسلم – هو المشتري .
التسعير :
وهو تقدير السلطان ونائبه للناس سعرًا وإجبارهم على التبايع به ، والتسعير لا يجوز ، والأصل فيه الحرمة ، إلا بشروط معينة ، ودليل ذلك قول الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [ النساء : 29] ، فاشتراط التراضي في الآية لا يتحقق بالتسعير .
ودليل ذلك من السنة ما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : غلا السعر على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فقالوا : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : ( إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق ، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة من دم ولا مال ) .
وفي الحديث بيان خطر ظلم الناس في دمائهم وأموالهم ، وأن خطره عظيم يوم القيامة ، حيث لا وفاء إلا بالحسنات والسيئات ، فالناس يتعاملون في أموالهم ، والتسعير حجر عليهم ، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين ، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع برفع الثمن ، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم ، وإلزام صاحبه أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى : ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .
يقول البسام في ( توضح الأحكام ) : إذا كان تحديد السعر على الناس ظلمًا تبرأ منه النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فما بالك بالحكومات التي تدعي الإسلام وتسلب أموال الرعية باسم الاشتراكية ، وتأميم موارد رزقهم ، ثم ترهقهم بالضرائب والرسوم والتعريفات الجمركية التي ألحقت الفقر والفاقة بالمستهلكين من رعاياهم ، ومع هذا لم تزدهم هذه الأعمال إلا فقرًا وديونًا واستعمارًا للدول الغنية .
هذا ، فإذا تلاعب بأسواق المسلمين فئة من أهل الجشع جاز للسلطان ، بل قد يجب عليه أن يتدخل لمنعهم من هذا البعث ، ولو سعر عليهم ما كان ظالمًا ، بل هو مانع لهم من الظلم ؛ لحديث : ( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا ) .
فقال رجل : يا رسول الله ، أنصره مظلومًا ، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره ؟ فقال : (تحجزه ، أو تمنعه من الظلم ، فإن ذلك نصره ) . أخرجه البخاري عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه .
ولذلك فالتسعير جائز بشرطين :
1- أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس .
2- أن يكون الغلاء لقلة العرض أو كثرة الطلب .
وفي ذلك نص قرار المجمع الفقهي في جمادى الأولى 1409 هـ :
أولاً : الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها ، عملاً بمطلق قول الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .ثانيًا : ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة ، وظروف الأسواق والسلع ، مع مراعاة ما تقتضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير .ثالثًا : تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش والخديعة والتدليس والاستغلال وتزييف حقيقة الربح والاحتكار ، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة .
رابعًا : لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا عن عوامل مصطنعه ، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش ، والله أعلم .
( انتهى قرار المجمع الفقهي ) ، وفيه بيان شروط جواز التسعير ، وفيه أيضًا أن ربح التجارة ليس له في الإسلام حد إذا خلت الأسواق من المخالفات الشرعية .
عقد البيع : ينعقد البيع بكل قول أو فعل عده الناس بيعًا ، وحصل به المقصود ، ولا يشترط ألفاظًا بعينها ، ولكن ما تعارف عليه الناس ، فالعرف أحد القواعد التي أخذ بها الفقهاء ؛ لذا ترجم البخاري في كتاب البيوع باب : ( إجراء أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم ) .
وينعقد البيع بالكتابة بين حاضرين ، أو باللفظ من أحدهما ، والكتابة من الآخر ، أو بالمراسلة من غائب كأن يرسل إليه يقول : بعتك داري بكذا ، فإذا قبل بعد اطلاعه عليه ؛ سواء بكتاب أو برسول يشافهه صح البيع ، ويصح كذلك بالإشارة من الأخرس إذا كانت مفهومة .
البيع بالمعاطاة : وهو إعطاء كل من المتبايعين لصاحبه ما يقع عليه التبادل دون ذكر صيغة الإيجاب والقبول أو بذكر أحدهما دون الآخر ويصح بها البيع في القليل والكثير عند الجمهور.
وقد جاء الشرع الحنيف بالعدل والإنصاف والتيسير ، فحد حدودًا ، ووضح معالم البيع والأسواق ؛ حتى يقطع أسباب الشحناء والتباغض بسبب الأموال ، وهو من محاسن الشريعة الغراء .
أمثلة من البيوع المحرمة :
نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أنواع من البيع لما فيها من الغرر (1) والغش المؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل وإثارة الأحقاد ووقوع النزاع والخصومات بين الناس ، ومن ذلك :
المحاقلة : مشتقة من الحقل ، حيث يكون الزرع في الحقل ؛ وهي بيع الحب في سنبله بعد اشتداده بحب من جنسه ، وفيه جهالة المقدار والجودة ، وفيه الربا لعدم العلم بالتساوي والضابط الشرعي ( الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم ) .
المخابرة : كراء الأرض لزراعتها بأن يكون لصاحب الأرض جانب من الزرع معينًا وللزارع جانب آخر ، وفيها الجهالة ، فربما صلح هذا وتلف هذا ، والصحيح أن يكون لكل منهما جزء معلوم مشاعًا في الناتج ليشتركا في الغنم والغرم ويسلما من الجهالة .
المزابنة : بيع مكيل أو موزون لا يعلم مقداره بشيء من جنسه ، مثل بيع العنب بالزبيب ، أو الرطب بالتمر ، أو التمر في رءوس النخل بتمر مثله ، وفيها الجهالة والمخاطرة بغير حاجة ، وفيها الربا .
إلا أن الشرع رحمة بالخلق رخص في بيع العرايا (2) ، والعرية هي عطية ثمر النخلة للمساكين دون الرقبة ، فقد يحتاج المسكين للرطب أو التمر ليأكله هو وعياله فرخص الشرع له في بيعه في رءوس النخل لفقره رخصه بقدر الحاجة ، أو قد يتأذى صاحب العرية بدخول المسكين الذي أخذ النخلة ( العرية ) كلما دخل عليه في بستانه ، فرخص في بيع العرية خرصًا ( أي تقديرًا و تخمينًا ) وجاءت الرخصة فيما دون خمسة أوسق (3) للحاجة ، فتدبر فذلك باب رحمة ورخصة وألفة وقطع نزاع قد يقع بين الناس .
المخاضرة : بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها ، وقد نهى الشرع عنها ؛ لحديث أنس ، رضي الله عنه ، نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن بيع الثمر حتى تزهو ، قال : (أرأيت إن منع الله الثمر ، بم تستحل مال أخيك ) .
وللحديث بقية إن شاء الله .
———-
(1) الغرر : أصل عظيم من أصول فساد البيع ، لذا جاء الباب الأول في كتاب البيوع عند مسلم عن صور بيوع الغرر .
والغرر اليسير معفو عنه للحاجة ، فدخول الحمام وإجارته جائزة مع تفاوت الناس في : استهلاك الماء ، ومدة البقاء فيه ، والشرب من السقاء ، وكذلك تناول الطعام من المطعم بصورة المائدة المفتوحة ، مع تفاوت الناس في شربهم وأكلهم جائز .
قال القرطبي في ( المفهم ) : فإن كل بيع لابد فيه من نوع من الغرر ، لكنه لما كان يسيرًا غير مقصود لم يلتفت الشرع إليه ، ولما انقسم الغرر إلى هذين الضربين فيما تبين أنه من الضرب الأول منع ، وما كان من الضرب الثاني ( اليسير ) أجيز . اهـ .
(2) العرايا : جمع عرية : وهي منح ثمرة النخلة لفقير دون الشجرة ، ومثلها المنيحة ، وهي أن يتطوع صاحب الشاة أو الناقة الحلوب فيعيطها للفقير يشرب لبنها حتى إذا جف لبنها ردها إلى صاحبها ، ولما كانت المنيحة تقبل النقل إلى بيت الفقير والشجرة لا تنقل من بستان الغني ، كان وقوع الحرج للغني من دخول الفقير عليه في بستانه ؛ لذا جاء الشرع رحمة بالناس ، فرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق خرصًا وتخمينًا يبعهما بتمر مثله ، والحمد لله رب العالمين .
(3) الوسق : ستون صاعًا ، والصاع أربعة أمداد ، والمد حفنة بحفنة الرجل المعتدل ، والله أعلم .