الكون والشرع

أن الله أنزل لنا شرعاً فأحكمه وأكمله ورضيه هو الذى خلق لنا الكون فأبدعه وأتقنه ، لذا فإن المتأمل المتدبر يرى بين الشرع والكون تكاملاً وتطابقاً يُزاد كلما تأملنا فى شرع الله وكونه وفى الأحداث تمر علينا وبتذكر شرع الله والعمل به .

فمن التطابق أن تنظر فتجد الله رب العزة قد ضاعف الأجور على الصالحات من الأعمال ،  وقد ضاعف البناء في الإنسان والحيوان والنبات ، فكلاهما عطاء الله ليقيم الحجة على الخلق فى شرعه بكونه فقال سبحانه وتعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }[ البقرة:261].

ويقول جلت قدرته : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير } [ البقرة : 265 ] . 

فيضرب سبحانه الأمثال للناس فى عطائه للأجور والحسنات بعطائه فى البذور والنبات ، وهو سبحانه يرشد بالنظر لتلك الآيات فى قوله سبحانه : { وفي الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون وفى السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } [ الذاريات : 20-23 ] . 

فالله سبحانه الذى أعطى من النطفة جنيناً ثم أخرجه وحفظه حتى صيره رجلاً ، والذي أنبت من البذرة نبتة رعاها سبحانه حتى صارت شجرة ، هو الذى جعل ليلة القدر خيراً من ألف شهر ، وهو الذى جعل الصلاة فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، فيما سواه ، وهو الذي قال : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } .

ومن التطابق أيضاً أن دعوة الله سبحانه فى كتابه وسنة نبيه هى النور الهادى الذى يحيي الله به موات الأنفس :

{ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعلمون } ، فهو سبحانه ينزل من السماء ماءً يحيي به الأرض بعد موتها ، وينزل من السماء وحياً يحيي به الأنفس بعد موتها ، ولذا ذكر الله فى كتابه : { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله }، فقسم الناس إلى مستجيب لشرعه وميت ، ويقول سبحانه مبيناً حياة المؤمنين { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } فالوحى مادة حياة النفوس كما أن المطر مادة حياة الأرض بل إنه سبحانه ليقول :{ وإن لكم فى الأنعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين } فالله هو الذى غذاها بالعشب ثم سقانا منها لبناً خالصاً أخرجه من بين فرث ودم ، وجعل ذلك عبرة لنا لنعتبر ، فنعلم أنه بشرعه يخرج من النفوس بكدرها صالحات من الأعمال ، الإيمان يحببه لنا ويزينه في قلوبنا { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم وكرة إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدين . فضلاً من الله ونعمة والله عليهم حكيم } . 

ومن التطابق أن الله حمى العبد فى بدنه من المضرات من حوله فى كونه ، فما يجرح الجسم فى أى موضع منه إلا ونسرع لجرحه تطهيراً خوفاً من المؤذيات المحيطة حوله فى كل مكان وكل زمان ، وحمى الله العين بدمعها والفم بلعابه والأنف بمخاطه والأذن بشمعها والمسام بعرقها ، بل إن الله حمى الحلق فلا يدخل الطعام فى موضع الهواء ، وحمى الصدر من مضار فى الهواء الذى يستنشقه بما جعل فى النفس من حمايات وهكذا ،وما صراخ الناس من ثقب حدث فى الأوزون إلا مثال لحماية الله الكونية العامة لخلقه من المضار التى لا تحصى من حولهم ، ويطابق ذلك فى شرعه أن الله حمى الإنسان فى حياته بشرعه الذى شرعه من المضرات التى حوله فى كل مكان ، من أمثلها الشيطان والنفس والكافرين والمنافقين ، بل والأقربين .

فقال سبحانه عن كيد الشيطان الذى أعرف الخلق إلا من رحم ربى { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً }وعن كيد المنافقين فيقول سبحانه : { وإن تصيروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }.

والله سبحانه يرطب قلوب المؤمنين ويبين لهم مصدر عزتهم وحمايتهم من الكافرين فى قوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .

وعداوات الإنسان فى الأرض متعددة فالله يقول عنها : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } {الأخلاق يؤمئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وعن المنافقين { هم العدو فاحذرهم قائلهم الله أنى يوفكون } وعن الكافرين {إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبيناً} وعن الأهل { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } وعن النفس {إن النفس لأمارة بالسوء إلا رحم ربى}.

والله سبحانه يبين أن فى شرعه حماية لعبده من كل تلك العداوات ، فيحمى عباده من الشيطان { إن عبادى ليس لك عليهم سلطان غلا من اتبعك من الغاوين } . والإيمان سبب تأييد الله للمؤمنين { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } ويقول عن يوسف {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }                     بل يصلح الله بشرعه العداوات { ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم } ويقول سبحانه عن أثر الإيمان { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم }أما عن النفس فيقول سبحانه {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } ويقول : {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} .

فكما حمى الكون بقدره فلقد حمى الإنسان بشرعه ، بل ينبغى أن تكون عنايتنا بالحماية الشرعية أكثر من الكونية ، لأن الكونية لا دخل للبشر فيها ، أما الشرعية فهى محل التكليف من العباد ، بل وهى باب الفرح المشروع والسعادة فى الدارين .

فيقول سبحانه :{ قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الزوق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون . قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }. 

ويقول سبحانه : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } .

ويقول سبحانه : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً ومن كفر ذلك فأولئك هم الفاسقون } .

فمقاصد التكاليف الشرعية حماية النفس والمال والعرض والدين والوطن ، ومن التطابق أيضاً أن الله جعل فى كونه وشرعه أهم كل شئ أيسره ، فإذا نظرت إلى مواد الأرض من ذهب ونحاس وحديد وصخور وتراب لوجدت التراب أيسرها حصولاً ، وهو أيضاً أهمها لحاجة الخلق . ولو تدبرت فى حاجة الناس إلى الطعام والماء والهواء لوجدت أن اليسر فى الحصول عليها متدرج مع الأهمية فى الحاجة إليها فأهم كل شئ أيسره فى كون الله ، وهو كذلك فى شرع الله .

فإن أهم كلمات الشرع هى ( لا إله إلا الله ) وهى أيسر الكلمات نطقاً فلا تتحرك الشفتان عند النطق بها ، وهى أيسر الكلمات كتابة حتى خلت من النقط تيسيراً من الله لها .

وكذلك إن أداء الفرائض قد يسره الله، لأنها أهم الأعمال وهكذا حتى أن موسى لما سأل ربه أن يعلمه شيئاً يذكر به قال له: يا موسى قل لا إله إلا الله، فقال موسى: يا رب كل الناس يقولنا . قال : يا موسى قل لا إله غلا الله فإنه لو وضعت لا إله إلا الله في كفة والسموات والأرض وعامرهن فى كفه لرجحت بهن لا إله إلا الله .

والله سبحانه يقول : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } وتبعاً لهذه القاعدة لا بد أن يكون اسم الله الأعظم هو أيسر الأسماء ، فهو عند كثير من أهل العلم ( الله ) وكذلك الذين يظنون إن اسم الله العظيم قد أخفاء الله عن سائر خلقه ويدعون أنه الله اختص بعض الناس يسرون به لبعضهم ويفترون القصص والحكايات فى العلم اللدنى واختصاص بعض الأقطاب بالعلم والأسرار . إن هذه القاعدة : أهم كل شئ أيسره ، والجنة ميسرة للسالكين ( اعلموا فكل ميسر لما خلق له ) تجعلنا نؤمن بتيسير الله رب العالمين حتى أن الفقهاء استنبطوا من الشرع قاعدة أصولية ( المشقة تجلب التيسير ) والمولى سبحانه يقول : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .

هذا غيض من فيض البارى سبحانه الذى خلق الإنسان علم القرآن وأبدع الأكوان وأتقن الشرع ، فكونه دال على أنه هو المشرع وشرعه دال على انه هو المكون ؛ فمن تدبر أدرك ، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون .

أما عن التكامل فموعدنا معه فى مقال آخر الله وراء القصد .