من أحكام البيع (1)

أخرج البخاري ومسلم في ( صحيحهما ) عن حكيم بن حزام ، رضي الله عنه ، قال : قال ‏رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا – أو قال : حتى يتفرقا- ‏فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) . ‏

وفي رواية : ( أو يقول لصاحبه : اختر ) .‏

وقد أخرجا الحديث أيضًا عن ابن عمر ، رضي الله عنهما .‏

وأخرجه أحمد كذلك عن أبي هريرة وسمرة بن جندب ، وأبي برزة الأسلمي ، كما جاء ‏الحديث عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهم أجمعين .‏

وحلقة هذا العدد في مقدمات للكلام عن أثر الاعتقاد في العمل، ثم عن عمل أهل الإسلام ‏بأحكامه، وغربة الإسلام بين أهله، وأثر ذلك عليهم سعادة وشقاوة، ثم عن أطيب ‏المكاسب.‏

عقيدة تقود السلوك كله:‏

روى البخاري عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : إنما نزل أول ما نزل من القرآن من ‏سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال ‏والحرام ، ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدًا ، ولو نزل : ‏لا تزنوا ، لقالوا : لا ندع الزنا أبدًا ، لقد نزل بمكة على محمد – صلى الله عليه وسلم – ‏وإني لجارية ألعب  : ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ ) [ القمر : 46] ، وما ‏نزلت سورة ( البقرة ) و ( النساء ) إلا وأنا عنده .‏

فانظر – رعاك الله تعالى – ترى أن الإسلام ربط أوامره بالاعتقاد في الجنة والنار ، فحكم ‏الأسواق بقوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1)الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2)وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ ‏وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ ‏الْعَالَمِين ) [ المطففين : 1 – 6] .‏

ومن ذلك ما جاء في حديثنا اليوم : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك ‏لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) .‏

وكذلك حديث جابر مرفوعًا : ( رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى ) ‏‏، وكذلك قول الله سبحانه : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ ‏مُؤْمِنِينَ(278)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [ البقرة : 278، 279] ، بل ‏وجاء حكم البيوت أيضًا باعتقاد صحيح ، فتسعد البيوت بتلك الأحكام في مثل قوله تعالى : ‏‏( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ ‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) [ البقرة : 223] ، وقوله : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا ‏تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ ‏بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) [ البقرة : 232] .‏

ومن ذلك ما ذكره في سورة ( النساء ) من قوله : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ‏الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ – حتى قال سبحانه – تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ ‏الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ‏‏[النساء : 11 – 14] .‏

ويتواصل في شرع الله الحكيم أن تحكم العقيدة الصحيحة الأسواق والبيوت والطرقات وسائر ‏حياة الخلق وأماكن عيشهم وأعمالهم ، حتى البول والغائط ؛ لحديث أبي داود عن معاذ بن ‏جبل ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( اتقوا الملاعن الثلاث ، ‏البراز في الموارد ، وقارعة الطريق ، والظل ) .‏

ومعاملة الرجل لضيفه وجاره ، وحفظه للسانه : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن ‏إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ‏فليقل خيرًا أو ليصمت ) . [ أخرجه البخاري ومسلم ] .‏

الإسلام صلاح الدنيا والآخرة :‏

دخل الإسلام على الناس بعقيدة توافق الفطرة، فلما اعتنقوه ودانوا له، دخل بين الرجل ‏وزوجه، فجعل الجنة للمرأة إذا أسعدت زوجها في مثل حديث: ( أيما امرأة ماتت ‏وزوجها عنها راض دخلت الجنة ).‏

وحذرها بحديث : ( إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) .‏

وكذلك تسعد المرأة بقوله تعالى: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا ‏شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) [ النساء: 19].‏

وكذلك ينظم البيت كله بمثل قوله – صلى الله عليه وسلم – : ( كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت ‏‏) ، فجاءت الأحكام في ذلك متكاملة ، يُسعد الرجل زوجته وولده ، فيدخل بإسعادهم ‏الجنة ، وتراعي المرأة حق زوجها وبيته فيكون مصيرها بذلك إلى الجنة تنعم فيها ، ليس ‏ذلك فحسب ؛ بل يبلغ ذلك إلى الحيوان ؛ لحديث : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، ‏فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ‏ذبيحته ). رواه مسلم من حديث شداد بن أوس .‏

ومن ذلك حديث ابن عمر ، رضي الله عنه ، قال : عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : (‏دخلت امرأة النار في هرة ربطتها ، فلم تطعمها ، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ، ‏فقال الله لها : لا أنت أطعمتها ولا سقيتها ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض ) .‏

غربة الإسلام وشقاء الدنيا والآخرة :‏

أخرج مسلم في ( صحيحه ) عن أبي هريرة وابن عمر ، رضي الله عنهما : ( بدأ الإسلام ‏غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) .‏

فدخل الإسلام أول ما دخل على الناس فنظروا إليه نظرة تعجب واستغراب : ( وَعَجِبُوا أَنْ ‏جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ ‏عُجَاب ) [ ص : 4 ، 5] .‏

فتعجبوا من التوحيد وتعجبوا من بشرية الرسول – صلى الله عليه وسلم – : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا ‏الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)‏

أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ) [‏الفرقان : 7 ، 8 ] .‏

بل كان ذلك في الأمم السابقة أيضًا : ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ(23)فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ ‏إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ(24)أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ) [القمر: 23 – ‏‏25] .‏

فجاء الإسلام إلى قوم رفضوه لغربته ؛ لأنه جعل الآلهة إلهًا واحدًا ، وتعجبوا أن يحكم ‏حياتهم من أموال وأزواج وغير ذلك ، وقد سبق في قوم مدين أن قال لهم شعيب : ( اعْبُدُوا ‏اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) [ هود : 84] ، فأجابوه : ( قَالُوا ‏يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ‏مَا نَشَاءُ ) [ هود : 87] .‏

ولكن الإسلام أخذ القوم بالحجة البينة والإقناع الموافق للفطرة ، فلما استجابوا له كانوا في ‏انقياد سلس وطاعة تامة ، حيث ألف الله بين قلوبهم بعد فرقة ، وحببهم في بعضهم بعد ‏عداوة، فلما دعاهم يوم بدر للقتال ولم يكن خروجهم له ، فشاورهم النبي صلى الله عليه ‏وسلم ، فتكلم أبو بكر وعمر وأحسنا ، فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد يا رسول الله – ‏يعني الأنصار – فقال سعد : والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخضها البحر لأخضناها ‏‏، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا ، وقال المقداد بن الأسود ، رضي الله ‏عنه ، لا نقول كما قال قوم موسى : ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ) ، ولكنا نقاتل عن يمينك ‏وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك ، فأشرق وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – وسره قوله . ‏رواه البخاري .‏

ومن ذلك طاعة الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك للنبي – صلى الله عليه وسلم – ، وقد دعى بعضهم ‏الملوكُ ليرفعوه عندهم ، ففضلوا الشدة التي هم فيها على حياة الملوك . [ يراجع لذلك حديث ‏كعب بن مالك عند البخاري ومسلم ، فإنه فيه نفائس وفوائد كثيرة ] .‏

ومن طاعتهم لما نزل قول الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ ‏وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) [ المائدة : 90] حملها صحابي فقرأها على أصحابه ‏يشربون الخمر ، حتى بلغ قوله تعالى : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون ) [ المائدة : 91] وبعضهم ‏كأسه في يده لم يشرب بقيته ، قالوا انتهينا ربنا ، انتهينا ربنا ، وكُسرت دنان الخمر ، ‏حتى سالت الخمر في سكك المدينة .‏

ومن ذلك لما نزل قول الله عز وجل : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ ) [ النور : 31] ‏انقلب كل رجل إلى أهله أسرعن فشهدن صلاة الفجر كأن على رءوسهن الغربان .‏

وذلك ما رواه البخاري عن عائشة، رضي الله عنها: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، ‏أنزل الله: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ ) أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي ‏فاختمرن بها .‏

لكن طال بالناس الزمان ، وأثرت فيهم وسوسة الشيطان : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ ‏بِالْفَحْشَاءِ ) [ البقرة : 268] ، نقضوا على أنفسهم عرى الإسلام ، كما جاء في حديث أحمد ‏عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( لينقضن عرى الإسلام عروة ‏عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، وأولهن نقضًا الحكم ، وآخرهن ‏الصلاة ) . ‏

فلم يوقع ذلك بهم السعادة التي توهموها ، إنما كان مثلهم كالعطشان يجري وراء السراب ‏فلا يبلغه ، حتى يموت فيلقى ربه فيحاسبه على سعيه ؛ لأنهم اغتروا بالكافرين ، ‏فظنوهم سعداء بتركهم الشرائع وعدم التزامهم الدين الذي ارتضاه رب العالمين : ( وَالَّذِينَ ‏كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ  يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ ‏شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ النور : 39] ، تدبر فإن الآية ‏تنطبق على كل من يغتر بمظاهر الكافرين ، سواء كان كافرًا أو متشبهًا بالكافرين في ترك ‏الشرائع ونقض عرى الإسلام ، لكن السعادة في قوله تعالى : ( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ ‏عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ البقرة : 38] ، وقوله تعالى : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا ‏يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه : ‏‏123 ، 124] .‏

فلما غر الناس بريق الشهوات أخرجوا الإسلام من الأسواق ، فصار من يعمل بإسلامه في ‏الأسواق غريبًا ، ثم أخرجوه من البيوت ، فصار من يلتزم بإسلامه في بيته غريبًا حتى ‏أخرجوه من المساجد ، فصارت البدع فاشية منتشرة ، من عمل بالسنة صار عند الناس غريبًا‏‏، فطوبي للغرباء .‏

فضل التجارة وسائر المكاسب الحلال :‏

قال القرطبي في قوله تعالى في سورة ( المزمل ) : ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَءَاخَرُونَ ‏يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) [ المزمل : 20] ‏‏، قال : سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة ‏على نفسه وعياله والإحسان والإفضال ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ ‏لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله ، وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم : ( ما من جالب يجلب طعامًا من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته ‏عند الله منزلة الشهداء ) ، ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ‏الْأَرْضِ ) [ المزمل : 20] .‏

وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئًا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرًا محتسبًا فباعه ‏بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ الآية .‏

وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين ‏شعبيتي رحلي ، أبتغي من فضل الله ضاربًا في الأرض . ( انتهى ) .‏

لاحظ أن حديث علقمة مرسل ، والآخران من قول ابن مسعود وابن عمر ، وكفي بهما شهادة ‏لفضل التجارة ، والآية فوق ذلك كله دليل فضل عظيم . وقد روى الدارقطني عن ابن عمر ‏مرفوعًا : ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة ) (1) .‏

قال القرطبي : ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارة عن أداء الفرائض ، فإذا جاء وقت الصلاة ‏ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية : ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ ‏عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) [ النور : 37] ، ويقول القرطبي في هذه الآية مع الأحاديث : رد على ‏المتصوفة الجهلة لأن الله تعالى حرم أكل الأموال بالباطل وأحلها بالتجارة ، وهذا بين . ( ‏انتهى بتصرف يسير ) .‏

قال ابن القيم في (زاد المعاد) : فإن قيل : فما أطيب المكاسب وأحلها ؟ قيل : هذا فيه ثلاثة ‏أقوال للفقهاء :‏

أحدها : أنه كسب التجار .‏

والثاني : أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة ؛ كالحجامة ونحوها .‏

والثالث : أنه الزراعة .‏

ولكل قول من هذه وجه في الترجيح أثرًا ونظرًا ، والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه ‏رزق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وهو كسب الغانمين وما أبيح على لسان الشارع، وهذا ‏الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره ، وأثنى على أهله ما لم يثن على غيرهم، ‏ولهذا اختاره الله لخير خلقه ، حيث يقول : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد ‏الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من ‏خالف أمري ) .‏

قال ابن حجر في ( الفتح ) : وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب ، قال الماوردي : أصول ‏المكاسب : الزراعة ، والتجارة ، والصنعة ، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة ، ‏قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة ؛ لأنها أقرب إلى التوكل ، وتعقبه النووي بحديث ‏المقدام : ( ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده ) ، وأن الصواب أن أطيب ‏الكسب ما كان بعمل اليد ، قال : فإن كان زارعًا فهو أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من ‏كونه عمل اليد ، ولما فيه من التوكل ، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب ؛ ولأنه لابد ‏فيه في العادة أن يأكل منه بغير عوض .‏

قلت – القائل ابن حجر – : وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد ، ‏وهو مكسب النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ، وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة ‏الله تعالى ، وخذلان كلمة أعدائه ، والنفع الأخروي ، قال : ومن لم يعمل بيده فالزراعة في ‏حقه أفضل لما ذكرنا .‏

ثم قال ابن حجر : والحق أن ذلك مختلف المراتب ، وقد يختلف باختلاف الأحوال ‏والأشخاص، والعلم عند الله .‏

قال ابن المنذر : إنما يفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل .‏

قال ابن حجر : ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب ، بل من الله تعالى بهذه ‏الواسطة ، ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو وكسر النفس بذلك ‏والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير .‏

والحمد لله رب العالمين .‏

——

‏(1) ضعيف ، وانظر ( ضعيف الجامع ) (2501) .‏