أخرج البخاري ومسلم في ( صحيحهما ) عن حكيم بن حزام ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا – أو قال : حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) .
وفي رواية : ( أو يقول لصاحبه : اختر ) .
وقد أخرجا الحديث أيضًا عن ابن عمر ، رضي الله عنهما .
وأخرجه أحمد كذلك عن أبي هريرة وسمرة بن جندب ، وأبي برزة الأسلمي ، كما جاء الحديث عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهم أجمعين .
وحلقة هذا العدد في مقدمات للكلام عن أثر الاعتقاد في العمل، ثم عن عمل أهل الإسلام بأحكامه، وغربة الإسلام بين أهله، وأثر ذلك عليهم سعادة وشقاوة، ثم عن أطيب المكاسب.
عقيدة تقود السلوك كله:
روى البخاري عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : إنما نزل أول ما نزل من القرآن من سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدًا ، ولو نزل : لا تزنوا ، لقالوا : لا ندع الزنا أبدًا ، لقد نزل بمكة على محمد – صلى الله عليه وسلم – وإني لجارية ألعب : ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ ) [ القمر : 46] ، وما نزلت سورة ( البقرة ) و ( النساء ) إلا وأنا عنده .
فانظر – رعاك الله تعالى – ترى أن الإسلام ربط أوامره بالاعتقاد في الجنة والنار ، فحكم الأسواق بقوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1)الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2)وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ) [ المطففين : 1 – 6] .
ومن ذلك ما جاء في حديثنا اليوم : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) .
وكذلك حديث جابر مرفوعًا : ( رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى ) ، وكذلك قول الله سبحانه : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [ البقرة : 278، 279] ، بل وجاء حكم البيوت أيضًا باعتقاد صحيح ، فتسعد البيوت بتلك الأحكام في مثل قوله تعالى : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) [ البقرة : 223] ، وقوله : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) [ البقرة : 232] .
ومن ذلك ما ذكره في سورة ( النساء ) من قوله : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ – حتى قال سبحانه – تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [النساء : 11 – 14] .
ويتواصل في شرع الله الحكيم أن تحكم العقيدة الصحيحة الأسواق والبيوت والطرقات وسائر حياة الخلق وأماكن عيشهم وأعمالهم ، حتى البول والغائط ؛ لحديث أبي داود عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( اتقوا الملاعن الثلاث ، البراز في الموارد ، وقارعة الطريق ، والظل ) .
ومعاملة الرجل لضيفه وجاره ، وحفظه للسانه : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ) . [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
الإسلام صلاح الدنيا والآخرة :
دخل الإسلام على الناس بعقيدة توافق الفطرة، فلما اعتنقوه ودانوا له، دخل بين الرجل وزوجه، فجعل الجنة للمرأة إذا أسعدت زوجها في مثل حديث: ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ).
وحذرها بحديث : ( إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) .
وكذلك تسعد المرأة بقوله تعالى: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) [ النساء: 19].
وكذلك ينظم البيت كله بمثل قوله – صلى الله عليه وسلم – : ( كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت ) ، فجاءت الأحكام في ذلك متكاملة ، يُسعد الرجل زوجته وولده ، فيدخل بإسعادهم الجنة ، وتراعي المرأة حق زوجها وبيته فيكون مصيرها بذلك إلى الجنة تنعم فيها ، ليس ذلك فحسب ؛ بل يبلغ ذلك إلى الحيوان ؛ لحديث : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ). رواه مسلم من حديث شداد بن أوس .
ومن ذلك حديث ابن عمر ، رضي الله عنه ، قال : عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها ، فلم تطعمها ، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ، فقال الله لها : لا أنت أطعمتها ولا سقيتها ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض ) .
غربة الإسلام وشقاء الدنيا والآخرة :
أخرج مسلم في ( صحيحه ) عن أبي هريرة وابن عمر ، رضي الله عنهما : ( بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) .
فدخل الإسلام أول ما دخل على الناس فنظروا إليه نظرة تعجب واستغراب : ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب ) [ ص : 4 ، 5] .
فتعجبوا من التوحيد وتعجبوا من بشرية الرسول – صلى الله عليه وسلم – : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ) [الفرقان : 7 ، 8 ] .
بل كان ذلك في الأمم السابقة أيضًا : ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ(23)فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ(24)أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ) [القمر: 23 – 25] .
فجاء الإسلام إلى قوم رفضوه لغربته ؛ لأنه جعل الآلهة إلهًا واحدًا ، وتعجبوا أن يحكم حياتهم من أموال وأزواج وغير ذلك ، وقد سبق في قوم مدين أن قال لهم شعيب : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) [ هود : 84] ، فأجابوه : ( قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) [ هود : 87] .
ولكن الإسلام أخذ القوم بالحجة البينة والإقناع الموافق للفطرة ، فلما استجابوا له كانوا في انقياد سلس وطاعة تامة ، حيث ألف الله بين قلوبهم بعد فرقة ، وحببهم في بعضهم بعد عداوة، فلما دعاهم يوم بدر للقتال ولم يكن خروجهم له ، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكلم أبو بكر وعمر وأحسنا ، فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد يا رسول الله – يعني الأنصار – فقال سعد : والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخضها البحر لأخضناها ، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا ، وقال المقداد بن الأسود ، رضي الله عنه ، لا نقول كما قال قوم موسى : ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ) ، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك ، فأشرق وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – وسره قوله . رواه البخاري .
ومن ذلك طاعة الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك للنبي – صلى الله عليه وسلم – ، وقد دعى بعضهم الملوكُ ليرفعوه عندهم ، ففضلوا الشدة التي هم فيها على حياة الملوك . [ يراجع لذلك حديث كعب بن مالك عند البخاري ومسلم ، فإنه فيه نفائس وفوائد كثيرة ] .
ومن طاعتهم لما نزل قول الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) [ المائدة : 90] حملها صحابي فقرأها على أصحابه يشربون الخمر ، حتى بلغ قوله تعالى : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون ) [ المائدة : 91] وبعضهم كأسه في يده لم يشرب بقيته ، قالوا انتهينا ربنا ، انتهينا ربنا ، وكُسرت دنان الخمر ، حتى سالت الخمر في سكك المدينة .
ومن ذلك لما نزل قول الله عز وجل : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ ) [ النور : 31] انقلب كل رجل إلى أهله أسرعن فشهدن صلاة الفجر كأن على رءوسهن الغربان .
وذلك ما رواه البخاري عن عائشة، رضي الله عنها: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، أنزل الله: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ ) أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها .
لكن طال بالناس الزمان ، وأثرت فيهم وسوسة الشيطان : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ) [ البقرة : 268] ، نقضوا على أنفسهم عرى الإسلام ، كما جاء في حديث أحمد عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( لينقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، وأولهن نقضًا الحكم ، وآخرهن الصلاة ) .
فلم يوقع ذلك بهم السعادة التي توهموها ، إنما كان مثلهم كالعطشان يجري وراء السراب فلا يبلغه ، حتى يموت فيلقى ربه فيحاسبه على سعيه ؛ لأنهم اغتروا بالكافرين ، فظنوهم سعداء بتركهم الشرائع وعدم التزامهم الدين الذي ارتضاه رب العالمين : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ النور : 39] ، تدبر فإن الآية تنطبق على كل من يغتر بمظاهر الكافرين ، سواء كان كافرًا أو متشبهًا بالكافرين في ترك الشرائع ونقض عرى الإسلام ، لكن السعادة في قوله تعالى : ( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ البقرة : 38] ، وقوله تعالى : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه : 123 ، 124] .
فلما غر الناس بريق الشهوات أخرجوا الإسلام من الأسواق ، فصار من يعمل بإسلامه في الأسواق غريبًا ، ثم أخرجوه من البيوت ، فصار من يلتزم بإسلامه في بيته غريبًا حتى أخرجوه من المساجد ، فصارت البدع فاشية منتشرة ، من عمل بالسنة صار عند الناس غريبًا، فطوبي للغرباء .
فضل التجارة وسائر المكاسب الحلال :
قال القرطبي في قوله تعالى في سورة ( المزمل ) : ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) [ المزمل : 20] ، قال : سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله والإحسان والإفضال ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله ، وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من جالب يجلب طعامًا من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ) ، ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) [ المزمل : 20] .
وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئًا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرًا محتسبًا فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ الآية .
وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبيتي رحلي ، أبتغي من فضل الله ضاربًا في الأرض . ( انتهى ) .
لاحظ أن حديث علقمة مرسل ، والآخران من قول ابن مسعود وابن عمر ، وكفي بهما شهادة لفضل التجارة ، والآية فوق ذلك كله دليل فضل عظيم . وقد روى الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا : ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة ) (1) .
قال القرطبي : ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارة عن أداء الفرائض ، فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية : ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) [ النور : 37] ، ويقول القرطبي في هذه الآية مع الأحاديث : رد على المتصوفة الجهلة لأن الله تعالى حرم أكل الأموال بالباطل وأحلها بالتجارة ، وهذا بين . ( انتهى بتصرف يسير ) .
قال ابن القيم في (زاد المعاد) : فإن قيل : فما أطيب المكاسب وأحلها ؟ قيل : هذا فيه ثلاثة أقوال للفقهاء :
أحدها : أنه كسب التجار .
والثاني : أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة ؛ كالحجامة ونحوها .
والثالث : أنه الزراعة .
ولكل قول من هذه وجه في الترجيح أثرًا ونظرًا ، والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وهو كسب الغانمين وما أبيح على لسان الشارع، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره ، وأثنى على أهله ما لم يثن على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخير خلقه ، حيث يقول : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) .
قال ابن حجر في ( الفتح ) : وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب ، قال الماوردي : أصول المكاسب : الزراعة ، والتجارة ، والصنعة ، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة ، قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة ؛ لأنها أقرب إلى التوكل ، وتعقبه النووي بحديث المقدام : ( ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده ) ، وأن الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد ، قال : فإن كان زارعًا فهو أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد ، ولما فيه من التوكل ، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب ؛ ولأنه لابد فيه في العادة أن يأكل منه بغير عوض .
قلت – القائل ابن حجر – : وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد ، وهو مكسب النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ، وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى ، وخذلان كلمة أعدائه ، والنفع الأخروي ، قال : ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل لما ذكرنا .
ثم قال ابن حجر : والحق أن ذلك مختلف المراتب ، وقد يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والعلم عند الله .
قال ابن المنذر : إنما يفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل .
قال ابن حجر : ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب ، بل من الله تعالى بهذه الواسطة ، ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو وكسر النفس بذلك والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير .
والحمد لله رب العالمين .
——
(1) ضعيف ، وانظر ( ضعيف الجامع ) (2501) .