الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وبعد : فالله – سبحانه وتعالى – يقول في سورة القارعة : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7)وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9)وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10)نَارٌ حَامِيَةٌ ) [القارعة : 5 – 11] .
والله – سبحانه – يقول : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) [ الكهف : 105] ، في هذه الآيات الكريمات وغيرها يذكر ربنا – سبحانه – ( الميزان ) ووزن الأعمال يوم القيامة ، ويشهد كل عبد ميزانه ويرى أعماله ويأخذ بيده صحيفته ، لكن الآيات تذكر من الموازين ميزان الحسنات ، فحسب فهي التي تثقل فيكون صاحبها في عيشة راضية أو تخف فيكون صاحبها أمه هاوية في نار حامية ، والحسنات تحبط مع الكفر فلا يقام للكافرين يوم القيامة وزنٌ .
هذا وإن أبواب الحسنات خمسة : الأولى : في أداء الواجبات . والثانية في التباعد عن المحرمات . والثالثة : في فعل المندوبات . والرابعة في هجر المكروهات . والخامسة في الاكتفاء بالمباحات .
تلك الخمسة يلزم أن يجتمع كل المؤمنين على ثلاث منها وهي : أداء الواجبات والتباعد عن المحرمات والاكتفاء بالمباحات ، إذًا فبم تثقل الموازين وتتفاوت درجات المؤمنين حتى يكون بين الدرجتين من درجاتهم كما بين السماء والأرض ؟ لابد أن ذلك بسبب ما يفعلونه من مندوب ويهجرونه من مكروه .
ولقد نظر فريق من الناس إلى ما ذكره الأصوليون بيانًا وتعريفًا للمكروه والمندوب فقالوا : إن المكروه ما لا يعاقب فاعله ، وإنما يثاب تاركه إذا تركه لله – تعالى – وأن المندوب ما لا يعاقب تاركه وإنما يثاب فاعله إذا كان قد فعله يقصد به وجه الله – تعالى – تلك النظرة أثمرت عند أصحابها عدم الاكتراث إذا فعل مكروهًا وكان يفعل المباح بحجة أنه لا يعاقب على فعله ولا يكترث إذا ترك نافلة فيسويها بالمباح ، كأنه نظر في كل فعل إلى ما يثمر من سيئات ، ولم ينظر إلى ما أثمر من حسنات ، فهو يقول : مادام ليس في المكروه عقوبة فلا بأس من فعله ، وما دام ليس على ترك المندوب عقوبة فلا بأس من تركه ، فلم ينظر إلا إلى جانب العقوبة ، ولم ينتبه إلى المثوبة التي يفقدها مع أن الله قال : ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ، وقال : ( وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) ، فذكر موازين الحسنات التي أهملها أولئك ، ولم يذكر السيئات ، فكيف تثقل موازينه إذا لم يتتبع بعمله أسباب ثقلها فضلاً عن ذلك الذي لا يكترث بالسيئات فيقع فيها .
والله – تعالى يقول : ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) ، فأين تلك الحسنات التي تذهب السيئات إذا كان هذا يعرف باب الحسنات فيتركها ناظرًا إلى جانب السيئة التي تذهبها الحسنات ، وهو إذا علم أن المكروه يثاب تاركه فعله فلم ينل من المكروه حسنته بتركه له ، وإذا علم أن المندوب يثاب فاعله فلم ينل من المندوب حسنته ، إنه قد استصغر أمر تلك الحسنات فكيف تثقل موازينه ؟ قد صغر في عينه الحصول على تلك الحسنات .
والله – سبحانه وتعالى – يقول : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ، والله سبحانه يقول : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) .
فينبغي على العبد المسلم أن يعرف أن الأعمال موزونة عليه فلا يهمل ذلك الوزن وأن تكون غايته تحصيل الحسنات لأن ربه ذكرها في كتابه حين لم يذكر السيئات فلا ينبغي أن نهمل ما ذكره الله سبحانه ولا نستصغره ولا نحقره ، وعلينا أن نتذكر قول النبي-صلى الله عليه وسلم- : (إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه رضي منكم بما تحقرون ) ، فإذا علمنا أن الله قال : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) ، فكيف يكون من أصحاب السعير بما يحقرون ؟ إن سبيل ذلك أن الشيطان يهون عليهم السيئات فيكثرون منها فتؤجج عليهم نارًا عظيمة كأعواد الحطب تجمع واحدة بعد الأخرى فتوقد بها النار العظيمة ، وقد يكون سبيل ذلك ( بما تحقرون ) أي : من الحسنات فتتركونها استصغارًا لشأنها ، فيأتي ربَّه ولا حسنة له ، فتخفف موازينه فيحق عليه وعيد رب العالمين : (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9)وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10)نَارٌ حَامِيَة ) .
أيها العبد الكريم انظر إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه ابن مسعود : ( إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام في أرض العرب ، ولكن سيرضى منكم بالمحقرات ، وهي الموبقات يوم القيامة ، فاتقوا المظالم ما استطعتم فإن العبد يجيء يوم القيامة يرى أنه يستحقه ، فمازال عبد يقوم يقول : يا رب ظلمني عبد مظلمة فيقول : امح من حسناته ، ما يزال كذلك حتى لا يبقى له حسنة من الذنوب ، وإن مثل ذلك كُسفَّر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرق القوم ليحتطبوا فلم يلبثوا أن حُطبوا فأعظموا النار وطبخوا ما أرادوا وكذلك الذنوب ) ، فهذا تحذير من ارتكاب الذنوب الدقيقة وحث على فعل الحسنات وإن رآها صغيرة ، والله – سبحانه – يقول : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ، وإن الله – سبحانه – رتب الكثير من الأجور العظيمة على فعل النوافل .
فمنها : ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ، ماضية ومستقبلة ، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية) ( مسلم عن أبي قتادة ) .
ومنها : ( ما من عبد مسلم يصلي لله – تعالى – كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة ) (مسلم عن أم حبيبة ) .
ومنها : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة ) ، وفي رواية : ( يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان ) .
ومنها : ( لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ) .
ومنها : ( يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبًا ) .
ومنها : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه ) .
فأيها العبد المسلم إن المصير إما إلى جنة ، وإما إلى نار ، والنار كلنا واردها ، وإنما ينجي الله المتقين ، والتقوى تثمر العمل الصالح ، فإذا رأى أمرًا نظر إلى باب الحسنة فيه فلزمها ، وخاف من باب السيئة فيه فتركها ، فالمصير جليل ، والعمل قليل ، والنار حامية ، والجنة غالية ، فهيا بنا أخا الإسلام النجاة . النجاة .
والله من وراء القصد .