الإنسان الضعيف

الحمد لله وحده ، خلق الإنسان ، علمه البيان ، فجعل أصل الخلقة ضعيفًا ، سواء كان في الماء نطفة ، أو في الطين مادة ، ثم أخرجه من بطن أمه بعد أن صوره ونفخ فيه من روحه : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) [ الروم : 54] .

فالله الذي خلق الإنسان في ضعفه جعل له أسباب القوة التي جبر بها عجزه ، فمنها أسباب قدرية ، وأسباب شرعية ، أما الأسباب القدرية فهي أسباب خلقها في الإنسان نفسه وفي الكون من حوله ؛ ليستعين بها على حياته في الأرض : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(79)وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(80)وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) [ النحل : 78 – 81] ، ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ  ) [النحل : 72] ، وكذلك الشمس والقمر والليل والنهار والأهل والعشيرة .

فهذه أسباب قدرية كونية يستعين بها المؤمن والكافر جبرًا لعجزه وتقوية لضعفه ، إلا أن رب الأسباب سبحانه هو الذي يسخرها كما يشاء ، فالذي يعتمد على الأسباب من دون الله فهو المشرك ، ومن تخلى عن الأسباب فطلب حاجته بغير سببها ، فهذه أمارة ذهاب الدين والعقل معًا ؛ لأن الذي يطلب الولد من غير زوج أو الشبع من غير طعام وغير ذلك ، لم يبق له من عقل ولا دين ؛ لأن الذي شرع الدين : (  خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) [ البقرة : 29] ، وأما المؤمن فهو الذي يأخذ بالأسباب توكلاً على الله الذي سببها ؛ لأنه القادر على سلبها : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ) [ الأنعام : 46] ، ويقول سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ) [ الملك : 30] ، ويقول سبحانه : ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ الأنعام : 17] ، فذلك شأن المسلم في الاستعانة بالأسباب القدرية أن يستعين بها عالمًا أن المعين والقادر المدبر هو الله ، فلما لجأ ابن نوح إلى جبل يعتصم به من الماء كان من المغرقين ؛ لأنه سلب أسباب العصمة إلا من السفينة ، ولما أراد القوم لإبراهيم إحراقًا كانت عليه بردًا وسلامًا ؛ لأن الله سلبها الإحراق على إبراهيم ، وإن بقيت على غيره ملتهبة ، تلك هي الأسباب القدرية يستمدها المؤمن والكافر ، والله يجعل منها ما يشاء حيث شاء بتدبيره وحكمته سبحانه .

وأما الأسباب الشرعية ؛ فهي كالتي ذكرها رب العزة سبحانه في قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) [ البقرة : 45] ، وقال سبحانه : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين ) [ البقرة : 153] ، وهذا النوع من الاستعانة الشرعية هي المقصود من عباد الله المؤمنين ، وهي التي يمتد عونها ليشمل حاجات العبد في الدنيا والآخرة ، وهي العبادة المشروعة : ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(59)أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60)

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61)أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(62)أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(63)أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ النمل : 59 – 64] .

فالأسباب الشرعية لا يستمد منها إلا المؤمن ، وهي لا تترك شيئًا إلا دخلته ، فلما ضاق نوح بقومه قال : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر ) [ القمر : 10] ، فنصره الله سبحانه ، فصنع للسفينة بحرًا ، ولما ألقي إبراهيم في النار ويونس في البحر نجاهم الله بالذكر والدعاء ؛ لذا شرع الله سبحانه صلاة الاستخارة ، وصلاة الاستسقاء ، وسن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لمن حَزبه أمر ، فكان يفزع للصلاة كلما حزبه أمر ، فباب الله مفتوح في الدعاء والاستغاثة لمن أراد ، والله عزيز لا يُغلب ، حكيم في شرعه وقدره ، وهو على كل شيء قدير .

فعلى المسلمين أن يعرفوا ذلك ، فيتعرفوا إلى ربهم في الرخاء والشدة ، ويكثروا من دعائه في كل حين لينجيهم .

فانظر أخا الإسلام إلى هذه الأسباب التي يجبر الله بها العجز ، ويقوي بها الضعف الذي منها القدرية التي تمد المؤمن والكافر ، ومنها الأسباب الشرعية يستطيعها المؤمن دون الكافر ، ويستطيعها في كل وقت في البحر كان أو في النار ، ويطلب بها كل حاجة ومطلب وإن كان عسيرًا ؛ لأنه يسأل القادر سبحانه ، وذلك يدعونا أن نحرص على الإيمان والأسباب المتفرعة منه من صلاة وصبر وصدقة ودعاء .

والله من وراء القصد .