الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . وبعد ، فلقد سبق لنا الحديث عن تطابق الشرع مع الكون وبيان بعض الأمثلة الموضحة لذلك ، ونريد الآن أن نتحدث عن التكامل بين الشرع والكون حيث يكون قدر الله فى خلقه يمهد الكون لتطبيق شرعه والعمل بدينه حتى أن الخلل ليظهر فى حياة الخلق بمخالفة الشرع ، والله سبحانه وتعالى يقول : “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ “.
ونحب أن نشير أولاً إلى الكون فى تكامل أجزائه الدالة على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى . فالذى خلق الشمس وضوءها فى كبد السماء هو الذى خلق العين وإبصارها فى رأس الإنسان والحيوان ، فما قيمة عين تبصر بغير شمس تضىء ، وهذا التكامل يظهر فى الريح تهب مع حرارة الشمس تتسلط على مياة البحر المالحة فتبخر الصالح منها مكونة سحباً ينزلها الله مطراً ويجرى منها أنهاراً فى تكامل بديع . بل إن الله سبحانه جعل ما يفسده الإنسان ماء استخدمه فكدره وعكره ، والله ينقيه بشمس تبخر الصالح منه وتترك ما أفسده وكدره ، كما جعل الله الأرض تبتلعه فترشحه فى طبقاتها حتى تحتفظ به نقياً بعيداً عن المعكرات والمفسدات . بل إن الهواء الذى يخرج من العبد فى تنفسه ، الله خلق نباتاً يستقبله ليعيده كهيئته قبل أن يستنشقه. كل ذلك من صور التكامل فى شرع الله الدال على وحدانيته سبحانه .
والآن حديثنا إنما هو عن التكامل لا بين أجزاء الكون وبعضه ولكن بين كون الله وشرعه حيث إن رب الشرع هو رب الكون ، والتوافق قائم بينهما كأن الشرع جزء من أجزاء الكون، ومن أمثلة ذلك تشريع الزكاة ” .. حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ” .
فالله وزع الأرزاق بالقدر بين الناس يرزقهم سبحانه ، فمن الناس من يرزقهم الله بقدرة أودعها فى أرض منبتة أو مواد قابلة للتشكيل بصنعها ، أو تجارة يقدر لها ربحاً أو قوة فى يد العامل أو قدرة فى ذهن المفكر ، فهذا يرزقه الله بأرضه ونباته ، وهذا بصنعته ، وذاك بتجارته ، وهذا بعمل يده ، وكل ذلك بتقدير الله سبحانه ، ثم قدر الله سبحانه أن يكون من الناس من يفقد الأرض والصنعة والتجارة والقوة . فكيف يجد هذا أسباب عيشه ؟ . الله سبحانه يرزقه بشرعه حيث قال فى شرعه سبحانه : “وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ” ويقول سبحانه : ” وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”.
فكانت منة الله على الغنى أن تجعل رزق الفقير فيما قدره فى مال الغنى من زراعة أو تجارة أو غيرها من أسباب الكسب ، فإن أخرج الزكاة للفقير جعل الله بذلك يد الغنى المنفق هى العليا تفضلاً منه سبحانه ، ثم أنبت فى قلب الفقير محبة للغنى ومودة ، وعلى لسانه دعاءً وثناءً ، وإن أمسكه حُرم كل ذلك واكتسب إثم إمساك المال عن مصارفه ومخالفته لشرع ربه، والله يقدر رزق الفقير من سبب غيره ، لأن الأسباب عند الله لا تنفد . هذا والزكاة فضل الله على الفقير أيضاً إذ رزقهم الله بغير سعى منهم أو تدبير بل بشرع أنزله الله ، وكل ذلك دبره الله فى السماء “وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ” .
ومن التكامل بين كون الله وشرعه أن كلف الله العبد بولده تربية “وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ” فأعد الولد لذلك قدراً فى تطور نشأته وتدرج نموه فجعله يحبو على بطنه ويرضع ثدى أمه ويبقى لهما محتاجاً لا ينطق لا يتكسب حتى يتمكن الوالد من تعليمه الشرع فى مهده ، وهو يحتاج إلى والديه فينفذ ما يرغبان فيه . بل إن الله سبحانه جعل المرأة تحتاج إلى زوجها ويحتاج إليها فلا يستغنى أحدهما عن الآخر حاجة فطرية ” هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ” ” وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ “هذه الحاجة الفطرية تجعل الزوجين فى مسكن واحد يتعاونان لينشأ الولد فى جو الأسرة المملوء بالمحبة والألفة تلبية لحاجات فطرية ” وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ” .
ولو جعل الله الإنسان كهيئة كثير من الحيوان يقف على رجليه بعد ساعة من ولادته ، ويسعى لكسبه بعد أيام ، والأنثى لا تقبل ذكرها إذا حملت فكيف يتمكن الوالد من تربيته ، فالله هيأ الحاجات الفطرية والنمو القدري ليتمكنا من تربيته . فمن أحسن التربية فرباه على الشرع كان له زخراً فى الآخرة ورزقه فى الدنيا بره ومن أعرض عن ذلك لقى فى الدنيا من ولده عقوقاً وفى الآخرة أوزاراً .
والله جلت قدرته خلق الرجل والمرأة وجعل لكل صفات تؤهله لدور يقوم به فى الحياة ، ثم أكمل الله ذلك بشرع شرعه فقال فى حق النساء : ” وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ” ثم قال سبحانه موزعاً عليهم أعباء الحياة : ” وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ” .
وانظر كيف جعل الله إحسان الرجل فى ولده تربية من الأمر الفطرى فغرس الحنان فى قلبه وجعل الإحسان من الولد بوالديه شرعياً ” وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ” وقال سبحانـه : ” وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ” .
إن المسلم الواعي حين ينظر ببصيرته فى الكون ويتدبر بعقله فى الشرع فإن الله يفتح له أمثلة التكامل البديع بين شرع الله وكونه، فيعلم يقيناً أن الحياة لا تكون سعيدة إلا إذا عمل العبد بشرع الله ، حتى قال سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ” فبغير الشرع تكون الدنيا مواتاً لا حياة فيها وتكون ضنكاً لا سعادة فيها . فاللهم يا ذا الجلال والإكرام اجعلنا من أهل الاستقامة على شرعك نبتغى بذلك رضاك والجنة ، وأجرنا بفضلك من معصيتك المؤدية إلى سخطك والنار ، آمين .