الحمد للَّه ، والصلاة والسلام على خير خلقه وإمام رسله وخاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه . بعد أن سبق لنا الحديث في الحلقة الأولى عن وجوب إنفاق الرجل على زوجته من الحلال ؛ فلا يجوز له أن ينفق من حرام ، وعليه الوزر إن عمد إلى الحرام ، ثم كانت الحلقة الثانية عن الميرات والصدقة ، وهذه الحلقة الثالثة والأخيرة عن إنفاق المرأة ، وهي في بيت زوجها.
رابعـًا : إنفاق المرأة وهي في بيت زوجها :
أ – من كسب زوجها :
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي اللَّه عنه ، عن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال : (( إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فله نصف أجره )) .
وأخرج البخاري ومسلم – أيضـًا – عن عائشة ، رضي اللَّه عنها ، قالت : قال رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – : (( إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة ، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا)).
قال النووي : اعلم أنه لابد للعامل وهو الخازن والزوجة والمملوك من إذن من المالك ، فإن لم يكن إذن أصلاً فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة ، بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه ، والإذن ضربان : الإذن الصريح في النفقة والصدقة . والثاني : الإذن المفهوم من اطراد العرف والعادة ؛ كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به ، واطرد العرف فيه وعلم بالعرف رضا الزوج والمالك به ، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم ، وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف ، وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به ، فإن اضطرب العرف وشك في رضاه أو كان شخصـًا يشح بذلك وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه .
وأما قوله – صلي الله عليه وسلم – : (( وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له )) . فمعناه غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن سابق متناول لذلك القدر وغيره .
ثم قال النووي : واعلم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال وغلمانه ومصالحه وقاصديه من ضيف وابن سبيل وغيرهما ، وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف ، واللَّه أعلم .
قال القاضي عياض في (( الإكمال )) : وجعل هذا دون إذن فيما أنفقت الزوجة والخازن وتصدق به العبد المتصرف في أموال صاحب البيت ما يلزمه من نفقة على عياله وبنيه ومصالحه وللعرف الجاري عندهم من قيامهم عند مغيب أربابهم بمؤن القاصد وإطعام السائل وإضافة الضيف.
روى الترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي أمامة الباهلي أن النبي – صلي الله عليه وسلم- خطب في حجة الوداع ، فقال:(( لا تنفق امرأة شيئـًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها)). قيل : يا رسول اللَّه ، ولا الطعام ؟ قال : (( ذلك أفضل أموالنا )) .
أخرج البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت : تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ، ولا شيء غير ناضح وغير فرسه ، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء ، وأخرز غربه وأعجن ، ولم أكن أحسن أخبز ، وكان يخبز لي جارات من الأنصار ، وكن نسوة صدق . قالت : وكنت أقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – على رأسي ، وهي مني على ثلثي فرسخ ، فجئت يوما والنوى على رأسي ، فلقيت رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ، ثم قال : (( إخ إخ )) ؛ ليحملني خلفه ، فاستحييت أن أسير مع الرجال ، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس ، فعرف رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – أني قد استحييت فمضى ، فجئت الزبير، فقلت : لقيني رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – وعلى رأسي النوى ، ومعه نفر من أصحابه ، فأناخ لأركب ، فاستحييت منه وعرفت غيرتك ،
فقال : والله لحملك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه ، قالت : حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادمٍ يكفيني سياسة الفرس ، فكأنما أعتقني .
فجاءني رجل فقال : يا أم عبد اللَّه ، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك ، قالت : إني إن رخصت لك أبى ذاك الزبير ، فتعال فاطلب إليَّ والزبير شاهد ، فجاء فقال : يا أم عبد اللَّه، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك ، فقالت : ما لك بالمدينة إلا داري ؟ فقال لها الزبير : ما لك أن تمنعي رجلاً فقيرًا يبيع ؟ فكان يبيع إلى أن كسب . فبعته الجارية فدخل الزبير وثمنها في حجري ، فقال : هبيها لي ، قالت : إني قد تصدقت بها .
في حديث أسماء أنه للزوج أن يمنع زوجته من الإذن في أمر يخشى ضرره أو عقباه ، وأنه ليس له التحكم في مال زوجته وحقوقها إلا برضاها إذا لم يبح له هو ذلك ، وإنما نهاها عن منعه ، وفيه سؤال الزوج الهبة من زوجته ، وأنه لا يراعى بينهما ثلث المال كما يراعى في الأجنبي ، إذْ كان ثمن المملوكة التي سألها جملة مالها إذا لحق الزوج ، فإذا كانت الهبة له بجميع مالها وقبل ذلك فهو رضا وتسويغ كما لو سوغ ذلك له أجنبي . [ (( الإكمال )) : (ج7، ص78 ) ] .
قال القرطبي : وظاهر هذا السياق يدل على أنه – صلي الله عليه وسلم – عرض عليها الركوب فلم تركب ؛ لأنها استحيت كما قالت ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى اعتذار عن النبي – صلي الله عليه وسلم – في ركوبها معه ، فإنه يحتمل أنها لو اختارت الركوب تركها راكبة وحدها ، ولا يكون فيه من حيث هذا اللفظ دليل على جواز ركوب اثنين على بعير ، فتأمله . [ (( المفهم )) : ( ج5، ص516 ) ] .
وفي قول أسماء : ( أرسل إليَّ أبو بكر بخادم ) دليل على مكارم أخلاق القوم ، فإن أبا بكر، رضي اللَّه عنه ، علم ما كانت عليه ابنته من الضرر والمشقة ، ولم يطالب صهره بشيء من ذلك ، وكان مترقبـًا لإزالة ذلك ، فلما تمكن منه أزاله من عنده . [ (( المفهم )) : (ج5،ص520 ) ] .
روى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب ، رضي اللَّه عنه ، أن فاطمة ، عليها السلام، أتت النبي – صلي الله عليه وسلم – تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى ، وبلغها أنه جاءه رقيق ، فلم تصادفه ، فذكرت ذلك لعائشة ، فلما جاء أخبرته عائشة ، قال : فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا ، فذهبنا نقوم ، فقال : (( على مكانكما )) . فجاء فقعد بيني وبينها ، حتى وجدت برد قدميه على بطني ، فقال : (( ألا أدلكما على خير مما سألتما ؟ إذا أخذتما مضاجعكما ، أو أويتما إلى فراشكما ، فسبحا ثلاثا وثلاثين ، واحمدا ثلاثـًا وثلاثين ، وكبرا أربعـًا وثلاثين ، فهو خير لكما من خادم )) .
وروى أبو داود عن سعد ، رضي اللَّه عنه ، قال : لما بايع رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – النساء ، قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر ، فقالت : يا نبي اللَّه ، إنا كَلٌّ على أبنائنا وآبائنا وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم ؟ فقال : الرطب تأكلنه وتهدينه . رواه أبو داود، كما رواه الحاكم .
قال الخطابي : إنما خص الرطب من الطعام ؛ لأن خطبه أيسر والفساد إليه أسرع إذا ترك فلم يؤكل ، وربما عفن ولم يُنتفع به ، فيصير إلى أن يُلقى ويرمى به ، وليس كذلك اليابس منه ؛ لأنه يبقى على الخزن ، وينتفع به إذا رفع وادخر ، فلم يأذن لهم في استهلاكه ، وقد جرت العادة بين الجيرة والأقارب أن يتهادوا رطب الفاكهة والبقول ، وأن يغرفوا لهم من الطبيخ ، وأن يتحفوا الضيف والزائر بما يحضرهم منها ، فوقعت المسامحة في هذا الباب بأن يترك الاستئذان له ، وأن يجرى على العادة المستحسنة في مثله ، وإنما جاء هذا فيمن ينبسط إليه في ماله من الآباء والأبناء دون الأزواج والزوجات ، فإن الحال بين الوالد والولد ألطف من أن يحتاج معها إلى زيادة استقصاء في الاستثمار للشركة النسبية بينهما والبعضية الموجودة فيهما ، فأما نفقة الزوجة على الزوج فإنها معاوضة على الاستمتاع مقدرة ، وليس لأحدهما أن يفعل إلا بإذن صاحبه .
وفي حديث عائشة : (( إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت ، ولزوجها أجر بما اكتسب ، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض )) . قال الخطابي: هذا الكلام خارج على عادة الناس بالحجاز وبغيرها من البلدان في أن رب البيت قد يأذن لأهله ولعياله وللخادم في الإنفاق مما يكون في البيت من طعام وإدام ونحوه ، ويطلق أمرهم في الصدقة منه إذا حضر السائل ونزل بهم الضيف فحضهم النبي – صلي الله عليه وسلم – على لزوم هذه العادة واستدامة ذلك الصنيع ، ووعد الأجر والثواب عليه ، وأفرد كل واحد منهم باسمه ليتسارعوا إليه ولا يتقاعدوا عنه .
قال البغوي – عن أبي هريرة في (( المرأة تتصدق من بيت زوجها )) – قال : لا ، إلا من قوتها والأجر بينهما ، ولا يحل أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه . وقال : العمل على هذا عند عامة أهل العلم ، أن المرأة ليس لها أن تتصدق بشيء من مال الزوج دون إذنه ، وكذلك الخادم ، ويأثمان إن فعلا ذلك ، ثم ذكر – أن حديث عائشة على عادة أهل الحجاز – ثم قال كما قال لأسماء : (( لا توعي فيوعى عليك )) . وعلى هذا يخرج ما روي عن عمير مولى آبي اللحم قال : كنت مملوكـًا فسألت رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – أتصدق من مال موالي بشيء ؟ قال : (( نعم ، والأجر بينكما نصفين )) .
ب – إنفاق المرأة من مالها بدون إذن زوجها :
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : لما فتحت مكة على رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – قال : (( ولا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها )) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : عن النبي – صلي الله عليه وسلم – : (( لا يجوز للمرأة أمر من مالها إذا ملك زوجها عصمتها )) .
قال الساعاتي : الظاهر عدم الجواز فيما أنفقته فيما لا يحل شرعـًا ويؤيده ما جاء في حديث واثلة بن الأسقع مرفوعـًا بلفظ : (( ليس للمرأة أن تنتهك من مالها شيئـًا إلا بإذن زوجها إذا ملك عصمتها )) . لأن الانتهاك معناه المبالغة في استقصاء الشيء ، وانتهاك المال معناه التبذير وهو حرام ، أما إذا أنفقته في مباح أو قربة فيستحب لها استئذان زوجها ليرشدها إلى ما فيه المصلحة ؛ لأن الرجل أدرى بالمصالح من النساء في الغالب ، واللَّه أعلم .
وقد ذهب مالك إلى أن المرأة ليس لها التصرف في مالها إلا بإذن زوجها ، وخالفه الشافعي .
قال الخطابي ، رحمه اللَّه – في تعليقه على حديث : (( لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها )) قال -: عند أكثر الفقهاء هذا على معنى حُسن العشرة واستطابة نفس الزوج بذلك ، إلا أن مالك بن أنس قال : ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج . وقد يحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيدة ، وقد ثبت عن الرسول – صلي الله عليه وسلم – أنه قال للنساء : (( تصدقن )) . فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاها بكسائه ، وهذه عطية بغير إذن أزواجهن .
تدبر ، فهذا الحديث نص صريح في جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها الملك لعصمتها ، وكل من أجاب على ذلك بإجابات فهي مدفوعة غير كافية ، خاصة وأن ذلك كان في عيد ، وأخذ النسوة يلقين في حجر بلال ، رضي اللَّه عنه .
وقال البيهقي : إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شعيب صحيح ، فمن أثبت عمرو بن شعيب لزمه إثبات هذا إلا أن الأحاديث المعارضة له أصح إسنادًا ، وفيها وفي الآيات التي احتج بها الشافعي دلالة على نفوذ تصرفها في مالها دون الزوج ، فيكون حديث عمرو بن شعيب محمولاً على الأدب والاختيار كما أشار إليه الشافعي ، واللَّه تعالى أعلم .
وقال الشوكاني ، رحمه اللَّه : وقد استدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز للمرأة أن تعطي عطية من مالها بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدة . وقد اختلف في ذلك .
قال الليث : لا يجوز لها مطلقـًا لا في الثلث ولا فيما دونه إلا في الشيء التافه .
وقال طاوس ومالك : إنه يجوز لها أن تعطي مالها بغير إذنه في الثلث لا فيما فوقه فلا يجوز إلا بإذنه .
وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز لها مطلقـًا من غير إذن من الزوج إذا لم تكن سفيهة ، فإذا كانت سفيهة لم يجز .
قال في (( الفتح )) : وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة .
ومن جملة أدلة الجمهور حديث جابر المذكور قبل هذا(1) . وحملوا حديث الباب – أي حديث عمرو بن شعيب : (( لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها )) – حملوه على ما إذا كانت سفيهة غير رشيدة ، وحمل مالك أدلة الجمهور على الشيء اليسير ، وجعل حده الثلث فيما دونه .
ومن جملة أدلة الجمهور الأحاديث المتقدمة في أول الباب(2) القاضية بأنه يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه ، وإذا جاز لها ذلك في ماله بغير إذنه ، فبالأولى الجواز في مالها .
والأولى أن يقال : يتعين الأخذ بعموم حديث عبد اللَّه بن عمرو ، رضي اللَّه عنهما ، وما ورد من الواقعات المخالفة له تكون مقصورة على مواردها ومخصصة لمثل من وقعت لها من هذا العموم ، وأما مجرد الاحتمالات فليست مما تقوم به حجة . ( انتهى كلام الشوكاني من (( نيل الأوطار )) ) .
وفي حديث أسماء مع الزبير في شأن الجارية وبيعها وتصدقها بثمن الجارية ، وطلب الزبير للمال ؛ في ذلك يقول القرطبي : ( وبيعها للجارية بغير إذن الزبير يدل على أن للمرأة التصرف في مالها بالبيع والابتياع من غير إذنه ، وليس له منعها من ذلك إذا لم يضره ذلك في خروجها ومشافهتها للرجال بالبيع والابتياع ، فله منعها مما يؤدي إلى ذلك ) .
وسؤاله لها أن تهبه ثمن الجارية دليل على أن الزوج ليس له أن يتحكم عليها في مالها بأخذ ولا غيره ؛ إذ لا ملك له في ذلك ، وإنما له فيه حق التجمل وكفاية بعض المؤن ، وصدقتها بثمن الجارية بغير إذن دليل على جواز هبة المرأة بعض مالها بغير إذن الزوج . [((المفهم)): ( ج5 ، ص522، 523) ] .
وذهب إلى ذلك أيضـًا الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على الحديث رقم ( 775 )، فليراجع في (( السلسلة الصحيحة )) (1).
جـ- صدقة المرأة على زوجها :
عن أبي سعيد الخدري ، رضي اللَّه عنه : خرج رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم – في أضحى أو فطر إلى المصلى ، ثم انصرف ، فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة ، فقال : (( أيها الناس ، تصدقوا )) . فمر على النساء، فقال: (( يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار )) . فقلن : وبم ذلك يا رسول اللَّه ؟ قال : (( تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء )) . ثم انصرف ، فلما صار إلى منزله ، جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه ، فقيل : يا رسول الله ، هذه زينب ، فقال: (( أي الزيانب ؟ )) فقيل : امرأة ابن مسعود ، قال : (( نعم ، ائذنوا لها )) . فأذن لها ، قالت : يا نبي اللَّه ، إنك أمرت اليوم بالصدقة ، وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به ، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم ، فقال النبي – صلي الله عليه وسلم – : (( صدق ابن مسعود ، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم )) .
وأخرج البخاري ومسلم عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول اللَّه ، هل لي من أجر في بني أبي سلمة ؛ أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني ؟ قال : (( نعم ، لك أجر ما أنفقت عليهم )) .
قال ابن حجر في (( الفتح )) : واستدل بهذا الحديث – حديث أبي سعيد الخدري – على جواز دفع المرأة زكاة مالها إلى زوجها ، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة ، وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد ، كذا أطلق بعضهم ، ورواية المنع عنه مقيدة بالوارث ( ثم قال عن ابن قدامة : والأظهر الجواز مطلقًا ) ، إلا للأبوين والولد ، وحملوا الصدقة في الحديث على الواجبة لقولها : ( أتجزئ عني ) ، وقيل : إنها صدقة تطوع ؛ لقول النبي – صلي الله عليه وسلم – في حديث أبي سعيد : (( زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم )) ؛ لأن الولد لا يُعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع .
قال ابن حجر : وفي هذا الإجماع نظر ؛ لأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من يلزم المعطي نفقته ، والأم لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه .
ثم قال ابن حجر : ويؤيد المذهب الأول ( أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم ) ، فلما ذكرت الصدقة ولم يستفصلها عن تطوع ولا واجب فكأنه قال : تجزئ عنك فرضًا كان أو تطوعًا .
وأما ولدها : فليس في الحديث تصريح بأنها تعطي ولدها من زكاتها ، بل معناه : إذا أعطت زوجها فأنفق على ولدها أحق من الأجانب ، فالإجزاء يقع بالإعطاء للزوج ، والوصول إلى الولد بعد بلوغ الزكاة محلها .
قال ابن المنذر : أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة ؛ لأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن الزكاة .
وخلاصة ذلك : أن الصدقة والزكاة في مال المرأة يجوز أن تعطيها لزوجها إذا كان فقيرًا أو مسكينًا ، ولا يصبح الزوج غنيًّا بمال زوجته الغنية ؛ لأنه لا يحق له التصرف في مالها إذا لم تأذن له فيه ، وأنها وولدها تأكل من ذلك المال الذي يملكه الزوج بإخراج الزوجة زكاة مالها له ، وتكون عندئذ لها أن تأكل منه ، وأن تطعم أبناءها منه ، حيث أنه إنفاق من مال ملكه الزوج بطريق مشروع ، واللَّه أعلم .
———————
(1) هذا كلام الشوكاني في (( نيل الأوطار )) ، والمقصود بحديث جابر ما رواه البخاري ومسلم في صلاة العيد وخطبته ، وعظة النبي – صلي الله عليه وسلم – للنساء ، وقول جابر: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن .
(2) المقصود أحاديث ثلاثة : أولها حديث عائشة : (( إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت … )) إلخ . وحديث أبي هريرة : (( إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فله نصف أجره )) . وحديث أسماء في قول النبي – صلي الله عليه وسلم -: (( ارضخي ما استطعتِ ولا توعي فيوعي اللَّه عليك )) .
(3) وما أشرنا إليه مما في معناه يدل على أن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف بمالها الخاص بها إلا بإذن زوجها ؛ وذلك من تمام القوامة التي جعلها ربنا تبارك وتعالى له عليها ، ولكن لا ينبغي للزوج إذا كان مسلمـًا صادقـًا أن يستغل هذا الحكم فيتجبر على زوجته ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا خير عليها منه ، وما أشبه هذا الحق بحق ولي البنت التي لا يجوز لها أن تزوج نفسها بدون إذن وليها ، فإذا أعضلها رفعت الأمر إلى القاضي الشرعي لينصفها، وكذلك الحكم في مال المرأة إذا جار عليها زوجها فمنعها من التصرف المشروع في مالها ، فالقاضي ينصفها أيضـًا بلا إشكال على الحكم نفسه ، وإنما الإشكال في سوء التصرف به ، فتأمل . اهـ . من (( السلسلة الصحيحة )) للألباني .