الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على خير من بلغ عن ربه ، فجاءنا بشرع كامل ، جاء فيه الحكم الحكيم ، والأمر الرشيد ، والخير العميم ، يفصل به في كل أمر ، وكان من أوضح ذلك : أن حكم الله سبحانه في الأموال حكمًا شاملاً : نظم البيع والشراء ، والدين و القراض ، والصدقة والإحسان ، وشمل الزكاة والنفقة و الكفارات والديات وغير ذلك ، إلا أن كثيرًا من الناس شعروا بقيود الشرع كأنها تكبله وتغله ولا تطلق يده ، فمنهم من قبلها بغير قناعة في نفسه ولكن قبلها لأنها شرع الله ، وعمل بها و التزمها ، و هذا أمارة الإيمان وإن لم يكن ذلك هو كمال الإيمان .
فالعمل بالمشروع إيمان ، أما كمال الإيمان هو ألا يجدوا في أنفسهم حرجًا إذا قضى الله قضاءً ، ويسلموا تسليمًا كاملاً .
ومنهم : من سلك طريق الاحتيال على الأمر المشروع ؛ ليخرج لنفسه مخارج يوهم بها نفسه ومن حوله أنه بذلك يوافق الشرع .
فكان بيع العينة (1) من صور ذلك التحايل ، فجاء الشرع بتحريمه صريحًا (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) .
وكما تحايل أصحاب الخمر على تحليله ، وأصحاب الشحوم – التي حرمها الله – فجملوها وباعوها .
ويتحايل اليوم أصحاب الأموال على الربا بحيل كثيرة : من جوائز وعائد وفوائد وغير ذلك .
* ومنهم من جاء صريحًا في مخالفته للشرع ، فأذن لنفسه فتعامل بالمعاملات المخالفة للشرع ، وهؤلاء على قسمين :
القسم الأول : علموا الحرام فوقعوا فيه ، فهؤلاء عصاة ؛ بل أهل كبائر ينبغي عليهم أن يتوبوا ويرجعوا عن معاصيهم .
القسم الثاني : قالوا : لا يصلح لنا نظام الشرع أن يحكم في أموالنا في عصرنا هذا ، فكانوا مثل كفار مدين قوم شعيب لما قالوا : ( قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ما نشاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ )[هود :87] فهؤلاء خرجوا من الإسلام بما اقترفوا ، ودخلوا في الكفر بما اعتقدوا ونريد أن ننظر إلى انطلاقات الأمم اليوم في تعاملها في المال والتيسيرات المتاحة ، ولكن بنظرة فاحصة فنتدبر ما آل إليه حال الناس اليوم من جراء هذا التعامل المادي حيث ضاع الشيخ في شيخوخته لما لم يستطع كسبًا ، وأُهدرت الكرامات ، و تخلى الإنسان عن إنسانيته في هذا التعامل المادي .
بلغ ذلك أوجه في الأمم الرأسمالية ، فهذه واقعة امرأة مصرية تبحث عن بنتيها ، و قد هاجرتا إلى ألمانيا فشغلتهما بمادياتها بضعة عشر عامًا عن أمهما والأم تبحث عنهما في لهفة شديدة فلما وجدتهما انطلقت إليهما مجنونة تدفعها عاطفة جياشة ، فاستقبلتاها بفتور غريب ؛ لأن المال شغلهما عن كل شيء حتى عن أم حملت ، وولدت ، وأرضعت ، فأين الإنسانية في ذلك ؟! .
ثم بنظرة إلى التيسيرات المادية في الشراء ، صار الرجل في تلك البلاد يخرج من بيته يَشُد بصرَه وسمعَه أساليبُ الدعاية عن المعروضات المغرية ، والتيسيرات البالغة ، و البيوع الحرام ، كل ذلك يغريه بالشراء .
فمن لا يملك يبيع ، ومن لا مال له يشتري ، فيشتري بالصك يحمله أو بالشيك يحرره ، ويتعهد للبنك بالسداد ، والصكوك تباع للبنوك ، ثم يأخذ أقساطًا شهرية أو دورية ، فيشتري ما يريد ، ثم يجتهد للحصول على المال من أجل السداد ، فيضاعف الوقت والجهد للعمل طلبًا للمال .
يجتهد ويركض في سبيل الكسب بما يزيد عن طاقتها .
فمن المعلوم أنه يقصر ويخطئ – ولا بد – في عمله ؛ لأنه يواصل الليل مع النهار ، فيتأخر في نومه – من تعبه – عن عمله أو يقع الخطأ منه لإجهاده أو يضعف إنتاجه ، فينذره مشرفو العمل ، ويتكرر الإنذار مرارًا ، وقد يستمر الأمر حتى يبلغ إلى حد الفصل من عمله فصلاً مسببًا بالإنذارات السابقة والأخطاء المتكررة ، فيحرم من أجر كان يتقاضاه ، فيعجز عن سداد الأقساط والوفاء بالالتزامات فيدخل في سلسلة من المشكلات بسبب البيوع الحرام التي يظنونها تيسيرات ، وبسبب الإكثار من التطلعات ، والجري وراء سراب زائل من أعمال الدنيا ومتاعها الفاني ، وفي ذلك يقول النبي صلي الله عليه وسلم : (والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ؛ فتهلككم كما أهلكتهم) .
ينتهي الأمر بصاحب هذه التطلعات والديون المتراكمات أن يعجز عن السداد .
فإذا عجز عن سداد أجرة مسكنه أخرج منه مطرودًا ، فوجد نفسه في الطريق ، ليس له مأوى ، ولا يجد رحمًا حانية ولا جارًا يعطف عليه ، لأن الحياة صارت مادية أفقدت الجميع الشعور بروابط الأسر والأرحام ؛ لأن الروابط بين الناس هناك هي الأموال والشهوات .
أما العوامل الإنسانية فلا وجود لها البتة .
فإذا الأرض قد تنكرت له ، والمشكلات تكالبت عليه طار صوابه ، وهام في الطرقات على وجهه ، لا يجد من معين ولا مساعد .
فالشفقة والإحسان معانٍ ليس لها في حياتهم موضع في الشتاء القارس والثلج المتراكم في الشوارع ، وإلى جوار ناطحات السحاب ، والسيارات الفارهة في أرقى بلاد الدنيا ترى هؤلاء يهيمون على وجوههم ، كالحة أجسامهم ، لم يمسها الماء منذ سنوات طويلة ، قذرة ملابسهم لم تنل أي نوع من التنظيف أبدًا ، الجو قاس في برودته ، والطرقات مزدحمة بالمارة فيها ، ولا ينتبه إليهم أحد أو يرقّ عليهم أحد .
عندئذ نعلم أن الشرع بضوابطه فيما أحل وحرم من التعامل في المال هو السبيل الأوحد لحفظ الإنسان وحمايته ، فمن أصر فلم يلتفت إلى الشرع ضاع وأضاع ، وذلك جزاء محاربة الله ، والتفريط في شرعه .
فهيا إخوة الإسلام إلى شرع رب العالمين ، ننقذ أنفسنا من الضوائق ، وننجيها من الموبقات .
والله من وراء القصد.