السنة الحسنة والسنة السيئة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد نبي الهدى والرحمة، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله في صدر النهار، قال فجاء قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباءِ متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) إلى آخر الآية (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) النساء

والآية التي في الحشر (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ)) الحشر

تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره، حتى قال ولو بشق تمرة، قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنه مذهبةٌ، فقال رسول الله (مَن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن يَنقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)

هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة، باب (الحث على الصدقة ولو بشق تمرة) برقم، وفي كتاب العلم باب (من سن في الإسلام سنة حسنة أو سيئة)، كما أخرجه الإمام الترمذي في كتاب العلم باب (ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة) برقم، وكذا الإمام النسائي في سننه في كتاب الزكاة باب (التحريض على الصدقة) برقم، وأخرجه أيضًا الإمام ابن ماجه في سننه في المقدمة باب (من سن في الإسلام سنة حسنة أو سيئة) برقم، والإمام أحمد في المسند برقم،

 شرح الحديث

أولاً شرح المفردات

قوله (في صدر النهار) أي في أوله

قوله (مجتابي النمار) النمار بكسر النون جمع نَمِرَةٍ بفتحها وهي ثياب صوف فيها تنمير، والعباء جمع عَباءة، وعباية لغتان بمعنى واحد

و(مجتابي النمار) أي خرقوها وقوروها، والجوب القطع اجتاب أي قطع

قوله (فتمعر وجه رسول الله ) بالعين المهملة أي تغير كما في رواية النسائي، أي انتفض وتلون

قوله (رأيت كومين من طعام وثياب) كومين هو بفتح الكاف وضمها، قال ابن سراج هو بضم اسمٌ لما كُوِّمَ، وبالفتح المرة الواحدة، قال والكُومة بالضم الصُّبْرَةُ، والكوم العظيم من كل شيء، والكوم المكان المرتفع كالرابية، قال القاضي فالفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية

قوله (حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل) أي يستنير فرحًا وسرورًا

قوله (كأنه مذهبةٌ) قال النووي ضبطوه بوجهين؛ أحدهما وهو المشهور، وبه جزم القاضي والجمهور

(مذهبة) بذال معجمة وفتح الهاء بعدها باء موحدة، والثاني ولم يذكر الحميدي في الجمع بين الصحيحين غيره (مدهُنة) بدال مهملة وضم الهاء بعدها نون، وشرحه الحميدي هو وغيره ممن فسر هذه الرواية إن صحت فقال المدهن الإناء الذي يدهن فيه، وهو أيضًا اسم للنقرة في الجبل يتجمع فيها ماء المطر، فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء، وبصفاء الدهن والمدهن

وقال القاضي عياض في (المشارق) وغيره من الأئمة هذا تصحيف، وهو بذال المعجمة والباء الموحدة، وهو المعروف في الروايات، قال وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره؛ أحدهما معناه فضة مُذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود، وتجعل فيه خطوطًا مذهبة يرى بعضها إثر بعض

ثانيًا ما في الحديث من المعاني والفوائد

يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه إنهم كانوا جالسين عند رسول الله في أول النهار، فجاء قوم من الأعراب كما جاء في رواية الإمام مسلم، يظهر عليهم الفقر وسوء الحال، فهم حفاة عراة يلبسون عباءً من الصوف ليست على هيئة الثياب المعتادة، وإنما هم قطعوا أوساطها وخرقوها وأدخلوا رءوسهم فيها، فعندما رآهم رسول الله على هذا الحال تلون وجهه وانقبض متأثرًا بما هم عليه، ومع ذلك جاءوا متقلدي سيوفهم مستعدون لإجابة رسول الله إذا أمرهم بجهاد أو غزو، فدخل رسول الله بيته لعله يجد ما يسد حاجتهم فلم يجد شيئًا، فخرج رسول الله فأمر بلالاً رضي الله عنه، فأذن أي بصلاة الظهر وأقام فصلى رسول الله، ثم خطب الناس، فكان في خطبته أن قرأ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) النساء، وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) الحشر

ثم حث رسول الله على الصدقة فقال (تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره)، حتى قال (ولو بشق تمرة)، فتباطأ ناس كما جاء في رواية مسلم الأخرى، فقام رجل من الأنصار، فخرج على بيته فجاء بصرة من فضة معه في يده، كادت كفه تعجز عن حملها، بل قد عجزت حتى وضعها بين يدي رسول الله، فلما رأى أصحاب النبي ذاك الرجل وما جاء به، قاموا فخرجوا إلى بيوتهم وتتابعت صدقاتهم حتى رأى جرير رضي الله عنه كما حدَّث كومين من الطعام والثياب وغيرهما قد جمعت في المسجد عند رسول الله، حينئذٍ تهلل وجه رسول الله واستنار فرحًا وسرورًا، لما حصل من هذه المسابقة التي فيها سد حاجة هؤلاء الفقراء الذين قال عنهم إن عامتهم أي معظمهم من مضر ثم قال بعدما تبين له أنهم كلهم من مضر وهم من أشراف قبائل العرب، وقد ذكر العلماء أن في اختياره آية النساء التي فيها (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)) حث على سد حاجتهم لأنهم من أرحامكم ومن ذوي قراباتكم، وأما آية سورة الحشر ففيها الحث على الأعمال التي يقدمها الإنسان لغده أي ليوم القيامة فهنا حث على المبادرة بالأعمال الصالحة التي ينتفع بها الإنسان يوم لا ينفع مال ولا بنون

 السنة الحسنة والبدعة الحسنة

يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث (هذا الحديث مخصص لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (كل بدعة ضلالة)، وبين في كتاب صلاة الجمعة أن البدعة تنقسم إلى خمسة أقسام واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة، ثم مثل للبدعة الواجبة بنظر أدلة المتكلمين للرد على الملحدين والمبتدعين، ومثل للمندوبة بتأليف كتب العلم وبناء المدارس وغير ذلك، ومثل للبدعة المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، قال والحرام والمكروه ظاهران اهـ

وبالنظر في هذا الكلام نجد أنه يتوجه بأمرين

أحدهما تسمية هذه بالبدع إنما يراد به البدعة اللغوية، التي هي ما أحدث على غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية فهي اختراع عبادة تضاهي المشروعة من غير أن يأذن بها الشرع

ثانيهما أن الأمور التي ذكرها سَواء في البدعة الواجبة أو المندوبة إنما يندرج في المصالح المرسلة، وليست من الابتداع في الدين من شيء، وأما التوسع في المطعم والملبس والمسكن فهو من المباحات الشرعية؛ لقول الحق تبارك وتعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ))، وليست من الابتداع في شيء

ويقول الإمام النووي يستدل من يستدل من أهل الأهواء ويدورون في فلك البدعة في صلوات وأذكار وأدعية، وتوسل بالأموات واعتقاد في الأشجار والأحجار، ويسمون تلك الأمور بالبدعة الحسنة، وكلام رسول الله واضح في قوله (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموا عنه ذلك وكذا التابعون، ومضت القرون الثلاثة على هدي محمد، ثم ظهرت البدع بعد ذلك وأطلت برؤوسها بين فئات من المسلمين، وإن كانت البدع العقدية قد ظهرت قبل ذلك، لكن تصدى لها أصحاب رسول الله والتابعون وأئمة الهدى رضوان الله على الجميع، وذلك مثل بدعة القدرية والخوارج والمعتزلة والروافض

ولا شك أن هناك فرقًا عظيمًا وبونًا شاسعًا بين السنة والبدعة، فالسنة كما بينها رسول الله منها سنة حسنة، ومنها سنة سيئة

 السنة السيئة

تشمل البدعة، وكذا المعصية

فأما البدعة فهي سيئة وإن استحسنها من استحسنها، وذلك لقول النبي (كل بدعة ضلالة)، وقوله (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه، وفي رواية لمسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذه الرواية عند مسلم أعم من الرواية الأخرى؛ لأنها تشمل من أحدث البدعة ومن تابع عليها من أحدثها، ومعلوم أن لقبول العمل عند الله تعالى شرطين، الإخلاص لله تعالى، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ومتابعة الرسول، وهو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا))، قال (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا)) أي ما كان موافقًا لشرع الله تعالى (وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا))، وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لابد أن يكون خالصًا لله صوابًا على شريعة رسول الله

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله كان إذا خطب يوم الجمعة قال (أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) وقال (فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) رواه الدارمي في سننه وقال عثمان بن حاضر دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما فقلت أوصني، فقال (نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع) رواه الدارمي، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة) رواه محمد بن نصر المروزي في السنة له، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه (وإياكم وما يبتدع، فإن ما ابتدع ضلالة) رواه أبو داود

وقال سهل بن عبد الله التستري (ما أحدث أحد في العلم شيئًا إلا سئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السنة سَلِم، وإلا فلا) أورده ابن حجر في فتح الباري 

وأورد الشاطبي في كتابه الاعتصام قولة الإمام مالك رحمه الله المشهورة (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا))

وأما المعصية فإن المعاصي سيئة كذلك، فمن سنَّ معصية في مكان أو زمان لم تكن معروفة قبله فإنه يحمل وزره، ووزر من ارتكبها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وقد صح بذاك الخبر عن رسول الله، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال (ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سنَّ القتل) متفق عليه

وقد حذر الشرع من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين وبين عظيم جزاء ذلك لأن في إشاعتها والمجاهرة بها دعوة للعمل بها في مجتمعات المسلمين، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) وقال (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) رواه البخاري ومسلم

 السنة الحسنة

والسنة الحسنة تنقسم قسمين

الأول السنة المشروعة ثم تترك أو تموت، فيجددها من يجددها أو يحييها من يحييها كقيام رمضان بإمام، فإن النبي شرع لأمته في أول الأمر الصلاة بإمام في قيام رمضان، ثم تخلف خوفًا من أن تفرض على الأمة وذلك لشفقته على أمته، ثم ترك ذلك في آخر عهد النبي، وكذا في عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم في أول عهد الفاروق عمر رضي الله عنه، ثم رأى عمر رضي الله عنه أن يجمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، وأما قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح (نِعْمَ البدعة هذه) كما في صحيح البخاري برقم، فالمراد البدعة من حيث اللغة لا من حيث الشرع، وهناك سنن هجرها الناس فمن أحياها فله أجرها وأجر من عمل بها بعده إلى ما شاء الله تعالى

والقسم الثاني من السنن الحسنة أن يكون الإنسان أول من يبادر إليها مثل حال الأنصاري الذي بادر بالصدقة فكان هو الذي سنها فتتابع الناس بعد ذلك ووافقوه على ما فعل

كمال شريعة الإسلام وعدم احتياجها للبدع

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب إعلام الموقعين في الجزء الرابع في بيان كمال الشريعة وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به، فرسالته عمومًان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص؛ عموم بالنسبة للمرسَل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تخرج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به، وقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علمًا وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن، والجنة والنار، ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين، وعرفهم معبودهم وإلاههم أتم تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه، بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم، وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يُعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن، ما لم يُعرفه نبي غيره، وكذلك عرفهم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد، والرَّدَّ على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده، اللهم إلاَّ من يبلغه إياه، ويبينه ويوضح منه ما خفي عليه، وكذلك عرَّفهم من مكايد الحروب وعناد العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدوٌّ أبدًا، وكذلك عرفهم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها، وما يتحرزون به من كيده ومكره، وما يدفعون به شره، وكذلك عرفهم من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها، وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه، وكذلك عرفهم من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة

وبالجملة فجاءهم بخيري الدنيا والآخرة، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالمَ شريعةٌ أكمل منها ناقصة، تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن بالناس حاجةً إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك، وقلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم اهـ

وفي هذا الحديث من الفوائد

 حث المسلمين على الصدقة لسد حاجة الفقراء والمعوزين

 مشروعية جمع الناس والخطبة فيهم من أجل ما ينزل ببعض المسلمين

 ترغيب الخطيب الناس باستعمال النصوص القرآنية والحديثية في الأمر الذي يريد بيانه للناس

 فرح المسلم بما يحدث من الخير للمسلمين، وبما يفعله المسلمون ويقدمونه من وجوه الخير

 أن الإنسان يتصدق بما عنده ولو كان صغيرًا في نظره؛ لقول الرسول (ولو بشق تمرة) لأنه من الصغير يتوفر الكبير، ومن القليل يجتمع الكثير

 الترغيب في فعل السنن والمبادرة إليها، وإحياء السنن التي أماتها الناس

 الترهيب من السنن السيئة والابتداع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى

نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق عموم المسلمين للعمل بسنة الحبيب المصطفى، والبعد عن البدع والإقلاع عنها وعن المعاصي، وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداة مهتدين

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين