الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه وبعد:
فإن الشرع الحنيف جاء بحفظ الدين والعقل والمال والعرض والنفس ، فحفظ العرض من مقاصد الشرع الشريف ، وإن من أهم وسائل الشرع لحفظ العرض والنسل : تشريع الزواج ، لذلك وضع الشرع للزواج أحكامًا مفصلة لا تزال هي العاملة في بيوت المسلمين إلى اليوم ، وإن محاولة الخروج عنها سبب في مخاطر لا يحتملها الناس ، بل وعودة إلى الجاهلية بظلامها وانتكاسة إلى حياة الحيوان في الغابات ، بل أضل ، نعوذ بالله من ذلك .
والناظر في كتب الفقه يجدها قد فصلت تلك الأحكام تفصيلاً ، وجاء العمل بها منقولاً نقلاً كاملاً بالنص ونقلاً واضحًا مفصلاً بالتطبيق والعمل ، ولا تزال القوانين العاملة في بلاد المسلمين المنظمة لأحكام الزواج والطلاق والميراث وما يتعلق بها مستمدة من الشريعة الإسلامية ، تعتمد أقوال الفقهاء وتختار من بينها ، فكلما تم تغيير في القانون كان على القائمين بصياغته مراعاة استمداد ذلك من أقوال فقهاء المسلمين .
ولكن قد يميل المشرع عند صياغة القانون إلى أن يأخذ بقول فقهي مرجوح ويترك القول الراجح ، إما لأنه يلتزم مذهبًا ، مثل نكاح المرأة بغير ولي (2) ، مع أن الأحاديث قد صحت، إن لم نقل تواترت في : ( لا نكاح إلا بولي ) ، فالحديث مروي عن أبي موسى الأشعري وابن عباس وجابر وأبي هريرة وعائشة وعمران بن حصين وأنس بن مالك ، والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة ، وقال به من فقهاء التابعين سعيد بن المسيب والحسن البصري وشريح وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال سفيان الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وهو المفهوم من قوله تعالى : ( فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) [ البقرة : 232] .
قال القرطبي : في الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي ؛ لأن أخت معقل كانت ثيبًا ، ولو كان الأمر إليها لزوجت نفسها ، ولم تحتج إلى وليها ، أو يكون ترك القول الراجح لأمر آخر ، مثل قانون الوصية الواجبة الذي راعى الأحفاد عند موت الآباء قبل الأجداد ، فجعل لهم ميراثًا ، ومستنده عند المشرعين قول فقهي مرجوح .
ولما كان الزواج والطلاق والميراث من أمور القضاء ، وإنما الحاجة فيها للفتوى تكون مستندًا للقضاء ، لذا كان على المفتي أن يراعي موافقة القانون المأخوذ من الشريعة الإسلامية ولو كان مرجوحًا ، عند الإفتاء في مسألة من مسائل القضاء ، ذلك لأن الخصم عندما لا يرضى تلك الفتوى فإنه يلجأ للقضاء ، وحسمًا للفوضى ، حيث إن ذلك القول لم يخرج عن أقوال المسلمين .
هذا ، أما من خرج عن الالتزام بما أخذ به القانون وتراضى مع خصومه على مخالفة القانون، فإن الفتوى في حقه لا تكون إلا بالراجح الذي قام عليه الدليل .
أعني بذلك أن من لم يعقد الزواج على الطريقة الرسمية ؛ أي لم يسجله بطريق المأذون الشرعي في المحكمة ، وارتضى بالزواج العرفي ، فإننا نقول له : إن التسجيل الرسمي من المباحات التي إذا ألزم بها ولي الأمر فصارت ملزمة ومخالفتها حرام شرعًا ، هذه واحدة ، أما الثانية : فإننا نفتيه بأن الزواج لا يصح إلا بالولي ، بالترتيب الذي جاء به الشرع في أحكامه مع التزامه سائر الأحكام الشرعية الأخرى من الإشهار والإشهاد والصداق وغير ذلك.
لذا ينبغي أن نعلم أن الزواج بالطريق الرسمي فيه الإشهار والتسجيل والشهود ، وبالطريق العرفي لابد من الالتزام بالصحيح في الشرع من الولي والإشهار وعدم التواطؤ على الكتمان.
أخرج الترمذي وابن ماجه في ( سننه ) عن محمد بن حاطب الجمحي قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت ) .
وأخرج الترمذي وابن ماجه عن عائشة ، وأخرج أحمد وابن حبان عن الزبير أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( أعلنوا النكاح ) .
قال البغوي في ( شرح السنة ) : الصوت معناه إعلان النكاح واضطراب الصوت به، والذكر في الناس ، كما يقال : فلان ذهب صوته في الناس ، وقال أيضًا : وضرب الدف في العرس والختان رخصة .
قال في ( المرقاة ) : ( أعلنوا هذا النكاح ) ؛ أي : بالبينة ، فالأمر للوجوب أو بالإظهار والإشهار ، فالأمر للاستحباب ، ثم قال : فالتحقيق أنه لا خلاف في اشتراط الإعلان ، وإنما الخلاف بعد ذلك في أن الإعلان المشروط هل يحصل بالإشهاد حتى لا يضره بعده توصيته للشهود بالكتمان أو لا يحصل بمجرد الإشهاد حتى يضره التوصية بالكتمان فيكون غير مشهر إذا أوصى بالكتمان .
ثم قال : فالحاصل أن شرط الإشهاد يحصل في ضمنه شرط الإعلان ، فكل إشهاد إعلان ، ولا ينعكس ، كما لو أعلنوا بحضرة صبيان أو عبيد ، ثم قال : المراد الترغيب إلى إعلان أمر النكاح بحيث لا يخفى على الأباعد ، فالسنة إعلان النكاح بضرب الدف وأصوات الحاضرين بالتهنئة أو النغمة في إنشاد الشعر المباح .
قال المباركفوري في ( تحفة الأحوذي ) قلت : الظاهر عندي – والله تعالى أعلم – أن المراد بالصوت هاهنا الغناء المباح ، فإن الغناء المباح بالدف جائز في العرس ، يدل عليه حديث الربيع بنت معوذ عند البخاري ، وفيه : فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر .
قال المهلب : في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف والغناء المباح . ( انتهى ) .
وأخرج الطبراني من حديث السائب بن يزيد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقيل له : أترخص للناس في هذا – أي اللهو – ؟ قال : ( نعم ، إنه نكاح لا سفاح ، أشيدوا بالنكاح ) .
وقال أيضًا : قال الحافظ : الأحاديث القوية – أي في ضرب الدف – فيها الإذن في ذلك للنساء ، فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن . ( انتهى ) .
قلت – القائل المباركفوري – وكذلك الغناء المباح في العرس مختص بالنساء ، فلا يجوز للرجال .
وفي ( الموطأ ) أن عمر بن الخطاب أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة ، فقال : هذا نكاح سر ولا أجيزه .
وذكر ابن عبد البر عن الحسن أن رجلاً تزوج امرأة فأسر ذلك ، فكان يختلف إليها في منزلها، فرآه جار لها يدخل عليها ، فقذفه بها ، فخاصمه إلى عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا كان يدخل على جارتي ولا أعلمه تزوجها ، فقال له : قد تزوجت امرأة على شيء دون فأخفيت ذلك ، قال : فمن شهدكم ؟ قال : أشهدنا بعض أهلنا ، قال : فدرأ الحد عن قاذفه ، وقال : أعلنوا هذا النكاح ، وحصنوا هذه الفروج !
وروي عن طاوس قال : أتي عمر بامرأة قد حملت من رجل ، فقالت : تزوجني فلان ، فقال: إني تزوجتها بشهادة من أمي وأختي ، ففرق بينهما ودرأ عنهما الحد ، وقال : لا نكاح إلا بولى .
وعن عروة بن الزبير قال : لا يصلح نكاح السر ، وقال نافع : ليس في الإسلام نكاح سر .
وقال عبد الله بن عتبة : شر النكاح نكاح السر ، قال أبو عمر : نكاح السر عند مالك وأصحابه ؛ أن يستكتم الشهود ، أو يكون عليه من الشهود رجل وامرأتان ، ونحو ذلك مما يقصد به إلى التستر وترك الإعلان .
وعن مالك قال : لو تزوج ببينة (3) وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح ، وإن تزوج بغير بينة على غير استسرار جاز واستشهد فيها يستقبلان ، وعن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين يستكتهما قال : يفرق بينهما بتطليقة ، ولا يجوز النكاح ولها صداقها إن كان أصابها ، ولا يعاقب الشاهدان إن كان جهلا ذلك ، وإن كانا أتيا ذلك بمعرفة أن ذلك لا يصلح عوقبا .
وفي ( مسند ) أحمد عن أبي حسن المازني – تميم بن عمرو ، بدري شهد العقبة – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يكره نكاح السر حتى يُضرب بدف ، ويُقال : أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم .
وبعد فقد نقلت هذا من أقوال أهل العلم لأبين قولهم في إعلان النكاح ، ومعلوم أن التسجيل في المحاكم أمر حادث في العصور المتأخرة ؛ أي أن كل الزواج سابقًا – على مر العصور – كان هو المسمى اليوم بالزواج العرفي ، إذ لم يكن هناك زواج رسمي يسجل في المحاكم كحال الناس اليوم .
لكن نبتت نابتة سوء أفسدت الأعراض وأجهضت الحوامل ، بل ووقع من ورائها سفك الدماء إزالة للعار ، وإنما ذلك لأنهم سموا ما تتفق عليه المرأة مع رجل ، وقد يكتبان بينهما ورقة ويحضران شاهدين ، ثم يوصونهما بالكتمان ويقولون : زواج عرفي !!
والحق أن هذا خدن ؛ لخلوه من الولي ، ولتواطؤ أصحابه على الكتمان وعدم الإشهار وضرب الدف .
لذا فإنه يجب على كل مؤمن غيور أن ينبه الناس جميعًا إلى أن الزواج العرفي لابد فيه من الإعلان وضرب الدف ، أما الزواج السري الذي يتواطئون فيه على الكتمان فهو حرام ، لا ينبغي إقراره في المسلمين ، فهو صورة من زنا الجاهلية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وليتق الله كل من يحاول أن يسرق من كلام الفقهاء وشواذ الأقوال والآراء ما يصحح به مثل هذا الزواج ، وإلا فعليه إثم كل فرج استبيح ، وكل حمل أجهض ، وليعلم أن الشرع جاء بحفظ الأعراض ، وجعل الأموال ، بل والدماء فداءً للأعراض ، والله أعلم .
والله من وراء القصد .
———-
(1) الخدن : اتفاق سر بين رجل وامرأة على المعاشرة ، وقد كان متعارفًا عليه في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام قضى عليه بالتحريم ، وكانوا في الجاهلية يرون أن الزنا : أن لا يتورع من يعاشر ، والخدن : ألا يزني إلا بواحدة وتزني به .
(2) والولاية ترتيب شرعي وليست اختيارًا عرفيًا ، فالمرأة الحرة – غير الأمة - الأحق بتزويجها أبوها بكرًا كانت أو ثيبًا ، فإن لم يكن الأب ولها ولد فولدها ، فإن لم يكن فالأخ الشقيق ، ثم الأخ لأب ، ثم الأقرب والأقرب من عصبتها ، كالميراث ، فإن لم يكن لها أولياء فالسلطان أو نائبه ، فإن زوج الحاكم أو الولي البعيد مع وجود ولي أقرب منهما نسبًا لم يصح النكاح .
(3) البينة : الشهود .