الحمد لله سبحانه وتعالى أتقن خلقه بحكمته ، وأنزل الشرع فأتمه برحمته ، وجعل للناس يومًا يرجعون فيه إلى الله ، فيحاسب العباد على ما قدموا : ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَةْ(10) نَارٌ حَامِيَة) [ القارعة : 6 – 11] ، أجارنا الله وإياكم منها ، ورزقنا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، والله سبحانه جعل الغيب له وحده لا يعلمه أحد سواه ، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، وهو سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) [ الجن : 26 ، 27] ، لكن الله سبحانه وتعالى جعل من الغيب الذي لم يطلع عليه أحدٌ من خلقه أبدًا : (علم الساعة) ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) [لقمان : 34] ، ولكن الناس في كل زمان يبحثون عن وقتها ، ويريدون الوصول إلى موعدها ، فقال تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) [الأعراف : 187] .
ويقول سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا(42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا(43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا(44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا(45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) [ النازعات : 42 – 46] .
إلا أن الله ، عز وجل ، قال : ( لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) ، حتى بعد ظهور العلامات الكبرى ، فهي (كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلاً أو نهارًا) ، والمراد بـ : ( ثَقُلَتْ ) أي علم وقتها ، فهي تأتي بغتة ، وذلك متحقق حتى بعد ظهور أشراطها سواء الصغرى أو الكبرى . فالله عرفنا أن الساعة قريبة : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) [ القمر : 1] ، لكن الذين يؤمنون بها يستعدون للقاء الله فيها بالصالح من العمل ولا يشغلون أنفسهم بمعرفة وقتها إيمانًا منهم أن الله سبحانه أخفى علمها عن الخلق جميعًا حتى الملائكة والرسل : (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ، فيقول سبحانه : ( اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) [ الشورى : 17 ، 18] ، ويقول سبحانه : ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ) [ الأحزاب : 63] .
فالإخفاء ثلاثة أنواع : إخفاء ذكر ، وإخفاء قرب ، وإخفاء وقت ، والساعة لم يخف الله ذكرها ولم يخف قرب وقوعها ، وإنما أخفى علم وقتها ووقوعها ، فهو أن الله لم يذكر للخلق وقتًا محددًا تقوم فيه الساعة ، وهذا هو ما دل عليه الكتاب والسنة ، فليس في الكتاب والسنة تحديد لوقت قيامها ، بل النص الصريح الذي لا يحتمل التأويل أن علم ذلك موكول إلى الله تعالى لا يعلم به ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وكل ما قيل من توقع قيام الساعة فهو ظن وتخمين باطل مردود على قائله لمخالفة كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – .
ويقول ابن كثير في (الفتن والملاحم) : لا يعلم مقدار ما مضى إلا الله ، عز وجل ، والذي في كتب الإسرائيليين وأهل الكتاب من تحديد ما سلف بألوف أو مئات من السنين قد نص غير واحد من العلماء على تخبطهم فيه وتغليطهم وهم جديرون بذلك حقيقون به .
(ثم قال): وكل حديث ورد فيه تحديد وقت يوم القيامة على التعيين لا يثبت إسناده.
ويعقب شيخ الإسلام ابن تيمية على مثل هذه المقالات بقوله : وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن دين الإسلام محرمة فيه ، فيجب إنكارها والنهي عنها على المسلمين على كل قادر بالعلم والبيان واليد واللسان ، فإن ذلك من أعظم ما أوجبه الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل ، وسوس الملك .
وأما عن علامات الساعة ؛ فإن أولها بعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – لحديث : (بُعثت أنا والساعة كهاتين) ، وقرن بين السبابة والوسطى . لحديث : (كادت الساعة أن تسبقني) ، فإذا كان قرب الساعة مذكور منذ حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فما بالكم بالأيام التي بعده، وما بالكم بالأحداث التي قبل الساعة ، مثل المهدي وغيره من العلامات الصغرى والكبرى، فهي أقرب من الساعة خاصة بالنسبة لمن بعد موت النبي – صلى الله عليه وسلم – .
ففي حديث النواس عند مسلم وغيره ؛ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذكر الدجال ذات غداة فخفّض فيه ورفّع حتى ظنناه في طائفة النخل فقال غير الدجال أخوف عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ) إلى آخر الحديث ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال: (ما شأنكم ؟) . قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفّضت فيه ورفّعت حتى ظنناه في طائفة النخل ، فكأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل لهم لن يظهر وأنا فيكم ، ومعلوم أن الدجال من العلامات الكبرى للساعة ، فالإشتغال بمعرفة وقت ذلك ، إما تحصيل ما هو معلوم ؛ لأن العلم بالقرب قائم، أو انشغال بما لا يفيد في العمل الذي ينجي العبد بين يدي ربه.
لذا فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لما سأله بعض من سأله : متى الساعة ؟ قال للسائل: (ويحك وما أعددت لها) ، ثم أشار إلى غلام في القوم ، يقول أنس بن مالك ، رضي الله عنه: وكان من أقراني ، فقال : إن يؤخر هذا تقوم الساعة قبل أن يشيب ، أي تموتون قبل أن يدركه الشيب ، فأرشدهم إلى ما ينبغي أن يعرفوه وهو أن موتهم قريب ، وحياتهم قصيرة ، وهي مدة العمل التي ينبغي أن يغتنموها ليستعدوا للقاء الله ، ويستعدون للحساب .
وبعد ؛ فاشتغال الناس بوقت الساعة وتحديد زمان للفتن بعد أن علّمنا الشرع قرب وقوعها ، اشتغال بما لا ينبني عليه العمل ؛ فأنا أعرف أن أجلي سابق على الساعة ، فعليّ إذًا أن اجتهد في العمل الذي ينجيني بين يدي الله ، هذا والانشغال بالتحديد لزمان الفتن من الدجال وغيره ينبغي أن ينهى عنه أهل العلم ، فلا يدخل فيه أحد ؛ لأنه لا طريق للعلم به إلا الشرع ، ولا دليل من الشرع . فكيف نعلمه ؟ والعجيب أن تجد رواج الكتب التي تكتب عن ذلك ، واشتغال الناس بها كثير ، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : (ويحك ما أعددت لها) . فهلا أحصينا أعمالنا قبل الموت، عالمين أن الساعة قريب، وأن الموت لأحدنا أقرب منه ؟! فاللهم اهدنا للصواب ، ووفقنا لصالح العمل ، إنك مجيب الدعاء يا رب العالمين .