هو الإمام المعروف شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية وابن قيمها ، ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة ، سمع الحديث واشتغل بالعلم وبرع في التفسير والحديث وفي علوم متعددة .
وقد لازم شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن عاد من مصر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة حتى مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ؛ فأخذ عنه علمًا جمًّا وانتصر للكثير من آرائه وناله من ذلك ما ناله .
وكان – رحمه الله – فريدًا في بابه في فنون كثيرة ، وكان كثير الطلب للعلم ليلاً ونهارًا ، كثير الابتهال حسن القراءة حسن الخلق كثير التودد ، لا يحسد أحدًا ولا يؤذيه ولا يعيبه ولا يحقد على أحد .
قال ابن كثير – رحمه الله – : وكنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه ، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه .
وقال أيضًا : له من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير ؛ كتب بخطه الحسن شيئًا كثيرًا ، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْره من كتب السلف والخلف ، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله والغالب على الخير والأخلاق الصالحة .
مات – رحمه الله – ثالث عشر من رجب لعام واحد وخمسين وسبعمائة (1) ، وكانت جنازته حافلة بالقضاة والأعيان والصالحين والخاصة والعامة .
وقد خلفه ولده عبد الله على الدرس ؛ فرحم الله علماءنا الأجلاء وشيوخ الإسلام الأوفياء الأتقياء ، وأبقى الله أثرهم وذكرهم في المعاصرين من العلماء وجعلنا لهم تبعًا وأسعدنا الله بالدخول في دعائهم ، والانتفاع بعلمهم ومحبتهم .
ولشيخ الإسلام ابن القيم كتب جمة منه كتابه : (مدارج السالكين) تكلم فيه بكلام جليل ومواعظ جميلة منها : مشاهد المعصية ، نختصر منه حديثًا عن أقسام الناس وتصنيفهم تبعًا للمعاصي التي هم فيها واقعون .
أولاً : المشاهد الحيوانية وقضاء الشهوة : وهو مشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ، ليس لهم همٌّ إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها .
وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هي على أخلاقها وطباعها .
فمنهم من نفسه كلبية ؛ لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ، ونبح كُلَّ كلب يدنو منها ، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ، ولا يسمح لكلب بشيء منها ، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق : ميتة أو مذكى ، خبيث أو طيب ، ولا يستحيي من قبيح .
إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث .
إن أطعمته دار حولك يهز ذيله ، وإن منعته نبحك .
ومنهم من نفسه حمارية ؛ لم يخلق إلا للكد والعلف .
كلما زيد في علفه زيد في كده ، أبكم حيوان وأقله بصيرة ، ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حَمَّله كتابه فلم يحمله معرفة ولا فقهًا ولا عملاً .
ومنهم من نفسه سبعية غضبية ؛ همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته .
طبيعته كطبيعة السبع فيما يصدر منه .
ومنهم من طبعه طبع الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوى عليها ، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه (2) ، وهكذا كثير من الناس .
يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها .
فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقله .
ومنهم : من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التزين بالريش ، وليس وراء ذلك من شيء.
ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما تورث أكلها من شبه نفوسها بها.
والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهوة سوى ميل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك البتة .
ثانيًا : مشد أصحاب الجبر : وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم ، وأنها واقعة بغير قدرتهم .
يقولون : إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر ، وأن الفاعل فيه غيره ، والمحرك له سواه ، وأنه له محضة ، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار هؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر ، وحملوا ذنوبهم عليه ، حتى إنهم يعدون معاصيهم طاعات ، كما حكى الله تعالى عن إخوانهم من المشركين .
بل من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده ، وينسب ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال .
ويقول : ما ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالق ؟ وقد وافق حكمه مشيئته فيه وإرادته منه ؟ .
ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه ؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله إلا محسنًا ؟ .
وهؤلاء أعداء الله حقًّا ، وأولياء إبليس وإخوانه صِدْقًا ، وإذا ناح منهم نائحٌ على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجبًا .
ورأيت من ظلمهم الأقدار واتهامهم الجبار ما يبدو على فلتات اللسان وصفحات الوجوه يشكون الله كما يشكون الخصوم .
ثالثًا : مشهد القدرية النفاة : يشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها بمشيئتهم (دون مشيئة الله تعالى)، وأن الله لم يكتبها ولا شاءها ولا خلق أفعالهم .
وأنه لا يقدر أن يهدي أحدًا ولا يضله إلا بمجرد البيان .
لا أن يلهمه الهدى والضلال والفجور والتقوى فيجعل ذلك في قلبه .
ويشهدون أنه يكون في ملك الله ما لا يشاؤه وأنه يشاء ما لا يكون ، وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله سبحانه .
هؤلاء بذلك ليس لهم حظ في الاستعانة بالله ولا في التوكل عليه والاعتصام به وطلب الهداية منه ؛ لأنهم يظنون أن ذلك لا يدخل تحت مشئة الرب .
الشيطان قد رضي منهم بهذا ؛ فلا يدفعهم إلى المعاصي ولا يزعجهم إليها وله في ذلك غرضان :
أحدهما : أن يقر في قلوبهم صحة هذه العقيدة ، بدليل بعدهم عن المعصية .
الثاني : أن يصطاد على أيديهم الجهال ويوقعهم في بدعهم فإن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية .
أخي القائ الكريم تدبر من كلام ابن القيم هذه السطور السابقة ، يقسم الناس بين جهال ، لهم بالحيوانات شبه ، وبين متعالمين واقعين في الجبر والقدر ، وانظر إلى حال الناس اليوم تراهم لا يخرجون عن تلك الأقسام ؛ بل قد تجد منهم من يجمع بين الحيوانية والقدرية ، أو من يكون منهم جبريًّا في دنياه قدريًّا في أخراه .
أماأهل السنة والجماعة فهم يؤمنون بالقدر خيره وشره ، ويعلمون أن للعبد مشيئة ولا يتحقق من مشيئة العبد إلا ما وافق مشيئة الله ، ويعلمون أن الله تواب رحيم ، وإن وقعوا في المعصية أسرعوا إليه فقبلهم ، وإن غفلوا رجعوا إليه فلم يصدهم ، جعلوا آيات الله هداية لهم ، وسيرة النبي الكريم مرشدًا في عملهم وعبادتهم وسلوكهم .
تدبر أخي القارئ الكريم من هذه المواعظ لتختار الطريق إلى الله في دنياك ، والله يوفقك للخير ويرشدك ويرعاك.
والله من وراء القصد.