بقلم الأستاذ مصطفى عبد اللطيف درويش
ماجستير في الشريعة الإسلامية
(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدًى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا ولله على الناس حجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين) آل عمران: 96 – 97.
جاءت هذه الآيات بعد مقدمات بينت أن بني إسرائيل سقطوا في اللعنة والغضب والذلة والمسكنة لأنهم أحلوا وحرموا بأهوائهم وكما أوحت إليهم الشياطين وليس كما شرع لهم الله تعالى في التوراة (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) ثم جاء الأمر من الله تعالى باتباع ملة إبراهيم (قل صدقَ الله فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين).
ومن عجيب الأمر أن اليهودية والنصرانية والشرك في مكة كل تلك الملل كانت تتنافس في الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام، فجاء النص يبرؤه منها كلها وينسبه إلى الإسلام (ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين) ثم جاء النص يقرر أن أولى الناس بالانتساب إلى إبراهيم هم هؤلاء الذين اتبعوه وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل مجددًا للحنيفية والذين آمنوا برسالته (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا .. ).
وبعد مواجهة بني إسرائيل بالتوراة التي تكشف زيف ما هم عليه وتبين أن الإبراهيمية التي أرادوا الانتساب إليها ملة حنيفية وليست ضلالاً ابتدعوه أو إفكًا شرعوه. بعد كل هذا تأتي الآيات لتبين أول بيت وضع للناس وليس من قبيل المصادفة أن يرفع قواعده رسولان هما خليل الرحمن وإسماعيل عليهما السلام ثم وصف الله تعالى أول بيت وضع للناس فقال (مباركًا وهدًى للعالمين) والرحلة إلى هذا البيت هي رحلة البركة والهداية لمن أراد أن يهتدي فيعود الناس إلى أوطانهم وقد اكتسبوا من هذه الرحلة هداية عادوا بها.
ولعلنا في نظرة سريعة نتعلم ما قد يكتسبه الناس من هداية وبركة جعلها الله تعالى في أول بيت وضع للناس. تبدأ الرحلة بثياب الإحرام وهي أقرب ما تكون إلى أكفان الموتى وهنا تسقط الألقاب والرتب والنياشين وتختفي مظاهر الثياب التي تجعل الناس طبقات فيتساوى في رحلة الهداية الملوك مع سائر الناس والأغنياء مع الفقراء. والقادة مع الجنود وتلك مساواة تتضاءل أمامها كل ما اخترع البشر من نظريات وفلسفات وفي ثياب الإحرام يثوب الناس إلى رشدهم وتستيقظ فيهم الفطرة التي قد تكون مظاهر الدنيا قد جعلتها في سبات عميق .. ألا وهي (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وبعد ثياب الإحرام يدخل الناس في هداية أخرى فينطلق النداء (لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فالحمد والنعمة والملك لله تعالى. فماذا لغير الله تعالى حتى يتجه الناس إليه؟ ويتعلم الناس أن التلبية بحق وصدق لا تكون إلا لله تعالى. وأن البشر وقد كرمهم الله تعالى لا يجوز أبدًا أن يتنازلوا عن هذا التكريم فيتحولوا إلى قطيع من البهائم يوجه التلبية لغير الله تعالى!!
ويرى الناس البيت وعليه الكسوة ويتعلم الناس أنه لا يُكسى في الإسلام إلا البيت، وأنه لا يجوز أن تشبه بيوت الموتى بأول بيت وضع للناس. وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين) رواه البخاري ومسلم. وقد كان من عادة الجاهلية أن يجعلوا الكسوة والعمائم فوق الأنصاب ويحجون إليها كما قال السهيلي (وكان الزبرقان يرفع له بيت من عمائم وثياب وينضح بالزعفران والطيب وكانت بنو تميم تحج ذلك البيت) وتلك هداية ثالثة يتعلمها الناس عند رؤية البيت فيعود الناس إلى أوطانهم وقد تعلموا أن الكسوة على أضرحة الموتى إفك شيطاني لا يجوز في دين الإسلام. ويتجه الناس إلى الحجر الأسود، فيتعلم الناس أنه لا يقبل في الإسلام إلا هذا الحجر كما قال عمر بن الخطاب: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) فيتعلم الناس أن ما كانوا يقبّلونه في بلدانهم من الأحجار والأعتاب إن هو إلا إفك شيطاني لا يمت بصلة إلى دين الإسلام وتلك هداية رابعة.
ويشرع الناس في الطواف (وليطوفوا بالبيت العتيق) ولا طواف إلا بالبيت. هذا شرع الله تعالى لعباده وهي كلها شعائر الله تعالى فيتعلم الناس في بلدانهم أن الطواف بالأنصاب والمقاصير والمقامات من شعائر الشيطان وتلك هداية خامسة.
ويتجه الناس إلى مقام إبراهيم للصلاة (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فيتعلم الناس أن ما يسمونه مقامات الأولياء إن هو إلا إفك شيطاني أراد أن يطفأ به نور الله ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الجاهليون. وتلك هداية سادسة.
ويسعى الناس بين الصفا والمروة وقد تعلموا أنها من شعائر الله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما .. ) فيتعلم الناس أن سعيهم حول التوابيت والمقاصير من شعائر الشيطان وتلك هداية سابعة.
وفي أرض عرفات تضرب الخيام ويقف الناس لا تفارق ألسنتهم كلمة التوحيد والتلبية والذكر لله تعالى فيتعلم الناس أن ضرب الخيام في ساحات ما يسمونه مقامات الأولياء إفك شيطاني ويتعلم الناس أن قولهم “مدد يا فلان” شرعة شيطانية تريد القضاء على دين التوحيد ليردي الشيطان الناس معه في قاع الجحيم وتلك هداية ثامنة. ويتعلم الناس أن الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة ثم إلى منى كلها شعائر ومناسك الله تعالى فيفيق الناس على حقيقة الموالد وتجمعاتهم فيها وأنها إفك شيطاني وتلك هداية تاسعة.
ويأتي يوم العيد وتتوالى الهدايات على الناس فيتعلم الناس من عيد التوحيد ما يعيدهم إلى الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ويفيق الناس على حقيقة أعياد الشرك المسماة موالد حيث الطواف والسعي حول أضرحة الموتى والتقبيل لأنصاب الموتى والعكوف والتجمع باسم الموتى وضرب الخيام والوقوف تقربًا للموتى والنداء والدعاء للموتى والنحر والذبح للموتى .. فلا شيء في الموالد لله ويفيق الناس على حقيقة التوحيد الذي لا يعرف النحر إلا لله تعالى.
وإذا قلت إني قد أحصيت ما تلقاه الناس من الهداية في الرحلة إلى البيت أكون قد ظلمت نفسي.
ويعود الناس إلى أوطانهم .. ولكن العاقل من يحافظ على هداية جعلها الله تعالى في أول بيت وضع للناس فلا يجرفه تيار الضلال والشرك والجاهلية الذي أراد أن يجعل لأضرحة الموتى شعائر ومناسك، يريد أن يضاهي بها شعائر ومناسك الله تعالى التي شرعها للناس عند بيته الحرام الذي جعله (مباركًا وهدًى للعالمين).
يا مقلب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك وجنبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس، وتوفني مسلمًا وألحقني بالصالحين.