لسماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد للَّه الذي أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم: {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين}، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله أفضل المجاهدين وأصدق المناضلين وأنصح العباد أجمعين صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الكرام الذين باعوا نفوسهم لله، وجاهدوا في سبيله حتى أظهر الله بهم الدين وأعز بهم المؤمنين، وأذل بهم الكافرين، رضي اللَّه عنهم وأكرم مثواهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون، وتنافس فيه المتنافسون – بعد الفرائض – وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة، والعواقب الحميدة لمسلمين، وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق في جهاد أعداء رب العالمين، وهو فرض كفاية على المسلمين إذا قام به من يكفى سقط عن الباقين، وقد يكون في بعض الأحيان من الفرائض العينية التي لا يجوز للمسلم التخلف عنها إلا بعذر شرعي كما لو استنفره الإمام أو حصر بلده العدو أو كان حاضرًا بين الصفين، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة معلومة، ومما ورد في فضل الجهاد والمجاهدين من الكتاب المبين قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}.
ففي الآيات الكريمات يأمر الله عباده المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد خفافًا وثقالاً – أي شيبًا وشبانًا – وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويخبرهم عز وجل أن ذلك خير لهم في الدنيا والآخر، ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم عن الجهاد وسوء نيتهم، وأن ذلك هلاك لهم بقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} الآية، ثم يعاتب نبيه صلى الله عليه وسلم عتابًا لطيفًا على إذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله سبحانه: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}، ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبين الصادقين وفضيحة الكاذبين، ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي لأن إيمانه الصادق بالله واليوم الآخر يمنعه من ذلك، ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد، والنفير مع أهله، ثم يذكر سبحانه أن الذي يستأذن في ترك الجهاد هو هادم الإيمان بالله واليوم الآخر المرتاب فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أعظم حث، وأبلغ تحريض على الجهاد في سبيل الله، والتنفير من التخلف عنه، وقال تعالى في فضل المجاهدين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
ففي هذه الآية الكريم الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله على الله عز وجل وأنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمن أهل الجنة وأنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن، ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي اشتراها منهم وهي نفوسهم، وأموالهم في سبيله سبحانه عن إخلاص ودق وطيب نفس حتى يستوفوا أجرهم كاملاً في الدنيا والآخرة، ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا البيع لما فيه من الفوز العظيم والعاقبة الحميدة والنصر للحق والتأييد لأهله، وجهاد الكفار والمنافقين وإذلالهم ونصر أوليائهم عليهم وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة، وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة من ربنا عز وجل على أن الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله هما التجارة العظيمة المنجية من العذاب الأليم يوم القيامة، ففي ذلك أعظم ترغيب وأكمل تشويق إلى الإيمان والجهاد، ومن المعلوم أن الإيمان بالله ورسوله يتضمن توحيد الله وإخلاص العبادة له سبحانه، كما يتضمن أداء الفرائض وترك المحارم، ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله لكونه من أعظم الشعائر الإسلامية ومن أهم الفرائض، ولكنه سبحانه خصه بالذكر لعظم شأنه، وللترغيب فيه لما يترتب عليه من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي سبق بيان الكثير منها، ثم ذكر سبحانه ما وعد الله به المؤمنين المجاهدين من المغفرة والمساكن الطيبة في دار الكرامة ليعظم شوقهم إلى الجهاد، وتشتد رغبتهم فيه، وليسابقوا إليه ويسارعوا في مشاركة القائمين به، ثم أخبر سبحانه أن من ثواب المجاهدين شيئًا معجلاً يحبونه وهو النصر على الأعداء والفتح القريب على المؤمنين، وفي ذلك غاية التشويق والترغيب.
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه وبيان فضل المجاهدين كثيرة جدًّا، وفيما ذكر سبحانه في هذه الآيات التي سلف ذكرها ما يكفي ويشفي ويحفز الهمم ويحرك النفوس إلى تلك المطالب العالية والمنازل الرفيعة والفوائد الجليلة والعواقب الحميدة، والله المستعان.
أما الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين؛ والتحذير من تركه والإعراض عنه فهي أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، ولكن نذكر منها طرفًا يسيرًا ليعلم المجاهد الصادق شيئًا مما قاله نبيه ورسوله الكريم – عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم – في فضل الجهاد ومنزلة أهله، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها”، وعن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المجاهد في سبيل الله – والله أعلم بمن يجاهد في سبيله – كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة”. خرجه مسلم في صحيحه، وفي لفظ له: “تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة “. وعن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: “ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون الدم والريح ريح المسك “. متفق عليه، وعن أنس – رضي اللَّه عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم “. رواه أحمد والنسائي، وصححه الحاكم، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أي العمل أفضل؟ قال: “إيمان بالله ورسوله “. قيل: ثم ماذا؟ قال: ” الجهاد في سبيل الله “. قيل: ثم ماذا؟ قال: “حج مبرور”. متفق على صحته، وعن أبي عبس بن جبر الأنصاري – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار”.
رواه البخاري في صحيحه، وفيه أيضًا عن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ” إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض “. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق “. وعن أبي عمر – رضي اللَّه عنهما – قال: سمعت رسول الله اللَّه يقول: ” إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم ” رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن القطان، وقال الحافظ في البلوغ: رجاله ثقات، والأحاديث في فضل الجهاد والمجاهدين وبيان ما أعد الله للمجاهدين الصادقين من المنازل العالية، والثواب الجزيل، وفي الترهيب من ترك الجهاد والإعراض عنه كثيرة جدًّا، وفي الحديثين الأخيرين، وما جاء في معناهما الدلالة على أن الإعراض عن الجهاد وعدم تحديث النفس به من شعب النفاق، وأن التشاغل عنه بالتجارة والزراعة والمعاملات الربوية من أسباب ذل المسلمين وتسليط الأعداء عليهم كما هو الواقع، وأن ذلك الذل لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم بالاستقامة على أمر الله والجهاد في سبيله، فنسأل الله أن يمن على المسلمين جميعًا بالرجوع إلى دينه، وأن يصلح قادتهم ويصلح لهم البطانة ويجمع كلمتهم على الحق، ويوفقهم جميعًا للفقه في الدين والجهاد في سبيل رب العالمين، حتى يعزهم ويرفع عنهم الذل، ويكتب لهم النصر على أعدائه وأعدائهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.