في نور القرآن الكريم .. قد جاءكم من اللَّه نور وكتاب مبين

للأستاذ: سيد رزق

مقدمة

كما تشرق الشمس بعد تبدد الغيوم، وكما يكسو الضوء الفضي جنبات الكون بعد ليال مظلمة، تعود مجلة التوحيد لسان حال جماعة أنصار السنة المحمدية – كعهدها – سائرة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، مسترشدة بهداه. تحمل شعار التوحيد، وما أجله وما أسماه!! داعية إلى الحق وإلى طريق قويم في ظلال دولة العلم والإيمان، تخوض مع أمتنا معركتها الرهيبة، أسلحتها أقلام عفة نزيهة مؤمنة باللَّه، لا تخشى فيه لومة لائم، صادعة بالحق مهما خالف ما تواضع الناس عليه، آخذة بحجز الأمة نحو طريق اللَّه الذي يتحقق به النصر الأكيد، وما النصر إلا من عند اللَّه العزيز الحكيم.

وتحت هذا العنوان سأكتب مقالي الذي أسهم به في تحرير مجلة التوحيد. ألتمس في كل مقال قبسًا من نور الذكر الحكيم أوضح به للقارئ جانبًا من جوانب الإسلام من عقيدة وتوجيه، وعبادة وسلوك، ومُثُلٍ وَقِيَمٍ، وإنسانيات واجتماعيات.

ولا أريد أن أتناول هذه الجوانب جانبًا جانبًا حتى لا أثقل على القارئ ببحث علمي رتيب، ولكني سأتنقل بين هذه الجوانب من مقال إلى آخر لأفتح عين القارئ في كل مقال على نور مبين من كتاب اللَّه، يلهم رشدًا في العقيدة مرة وسدادًا في السلوك أخرى، ويهديه إلى عبادة أخلص، وخلق أمثل ومجتمع أفضل وإنسانية أكمل.

هذا هو المنهج الذي أرتضيه، وأرجو أن أكون قد وفقت فيما ارتضيت. وأصبت فيما قصدت: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

الإخلاص مناط العقيدة في الإسلام

العقيدة التي جاء بها القرآن، والعقيدة التي كانت عليها قريش على قدر ما بينهما من تباعد هو تباعد الضدين وتنائي النقيضين وعلى قدر ما بينهم من الاختلاف كما تختلف الظلمات والنور، والظل والحرور، وطهر الإيمان ورجس الكفران على قدر هذا التباعد والتباين .. وعلى قدر هذا الخلف والتنائي نجد سر ذلك يكمن في كلمة واحدة صغيرة في مبناها، عظيمة في معناها!! هي الإخلاص، محور رسالة الإسلام، والهدف الأسمى الذي من أجله أنزل القرآن بقول اللَّه تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.

وقبل أن أوضح هذه الحقيقة، حقيقة الإخلاص كفيصل بين عقيدة قويمة وأوهام سقيمة أريد أن أطوف معكم في كتاب اللَّه سائحين نتتبع المظان ونرتاد المواطن التي تناول فيها القرآن كلمة الإخلاص أو ما يتصل بها بسبب من أسباب الاشتقاق.

الإخلاص في القرآن الكريم

ونخرج من هذه السياحة في كتاب اللَّه لنرى أن كلمة الإخلاص ومشتقاتها قد وردت في إحدى وثلاثين آية في كتاب اللَّه، لكنها جاءت في مناسبات مختلفة واستعمالات متباينة إما لغوية فتلتقي عند غاية واحدة.

تحليل لغوي

فالإخلاص بمعنى التنقية من الشوائب، والتصفية من الأوشاب، واستنقاذ المال من المنازعين، والسر من الدخلاء، والعبادة من الرياء! والعقيدة من الأهواء، والأخوة من الأغراض. والكفاح والجهاد من الإغواء فمحور الإخلاص لغويًّا – اصطفاء وانتقاء وقد وردت كلمة الإخلاص في القرآن الكريم بمعناها اللغوي العام نيفًا وثلاثين مرة.

قال تعالى في سورة يوسف: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا} أي لما يئس إخوة يوسف من إقناعه بترك أخيهم الذي وجد صواع الملك في وعائه بعد أن ألحوا، وعرضوا عليه شتى العروض التي رفضها يوسف؛ لأنها خطته التي رسمها لأخذ أخيه – لما يئسوا: انتحوا ناحية يتشاورون في أمرهم سرًا وكيف يقابلون أباهم بهذه النتيجة الأليمة.

فمعنى الإخلاص لغويًّا هنا واضح، إذ أنهم انفردوا بأنفسهم خالصين لها، بعيدين عن كل دخيل عنهم.

وهذه الآية مثل في الإعجاز تذكر كتب السيرة أن أعرابيًّا سمع هذه الآية فخر ساجدًا وقال: أشهد أن بشرًا لا يستطيع أن يقول هذا الكلام.

وفي سورة يوسف أيضًا {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي أن الملك بعد أن تبين له براءة يوسف ونزاهته وحكمته، طلبه صفيًا خالصًا له يستعين به في تصريف ملكه وتدبير أمره.

وحول هذا المعنى اللغوي للإخلاص بمعنى الاستصفاء والانتقاء وردت الآيات الآتية:

يقول اللَّه تعالى في سورة النحل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ}.

وفي سورة الأنعام: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء}.

وفي هذه الآية مظهر لانحراف عقيدة العرب، وأنهم يشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به اللَّه فيحرمون ما في بطون الأنعام[1] على إناثهم ويختصون بها ذكورهم، وإذا كان ما في البطون ميتة اشتركوا فيها.

وفي سورة البقرة: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

وفي هذه الآية تحد من القرآن لليهود الذين يزعمون أنهم شعب اللَّه المختار، وأن الآخرة لهم دون غيرهم .. وهنا يقول لهم القرآن: ما دامت الآخرة لكم دون الناس لِمَ تكرهون الموت في سبيل اللَّه مع أنه في الحقيقة يقربكم مما تحبون!!

وفي سورة الأعراف: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

أي أن ما في الدنيا من طيبات ونعيم ستكون يوم القيامة متاعًا خاصًا بالمؤمنين.

وفي سورة الأحزاب: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.

وفي سورة ص: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.

أي أن اللَّه اصطفى هؤلاء الأنبياء وميزهم بصفة خاصة بهم هي التمثيل الدائم للدار الآخرة.

وفي سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا}.

هذه الآيات كلها وردت فيها مشتقات شتى من كلمة الإخلاص، استعملت فيها بالمعنى اللغوي وهو الانتقاء والاستصفاء.

والعباد المخلصون (بفتح اللام):

وفي إطار المعنى اللغوي تحدث القرآن الكريم عن العباد المخلصين. وهم على مستوى من الإيمان رفيع، وعلى عقيدة أسمى وأمثل، فعبوديتهم خالصة للَّه، وعقيدتهم خالصة من رئاء الناس، وكفاحهم خالص من هوى النفوس.

وهذه هي منزلتهم عند اللَّه.

فيوسف -عليه السلام- عندما تطادره الفاحشة فيستعصم، فتتسلط عليه بالبغي والأذى فينقذه ربه بحكمته وتقديره، وتلك تكرمة من اللَّه لعبد صادق من عباده: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.

وهؤلاء العباد المخلصون لا يستهويهم إعراء، ولا يتسلط عليهم إغواء، وهذا هو اهتراف الشيطان مصدر كل ضلال على وجه الأرض. قال تعالى في سورة الحجر: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، وقال تعالى في سورة ص: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}.

وفي سورة الصافات ذكر العباد المخلصون في خمسة مواضع تنزيهًا لهم عن مصير سيء ينتهي إليه الضالون: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ. وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}. أو تنزيهًا لهم عن عقيدة زائفة ضالة: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلاَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.

وفي الموضع الخامس من مواضع العباد المخلصين في سورة الصافات يرد القرآن الكريم على دعوى المشركين! إذ قالوا: لو أن عندنا كتابًا من كتب السماء كالتوراة والإنجيل لسارعنا إلى الإسلام وكنا من أخلص العباد: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.

الإخلاص مناط العقيدة الصحيحة

بقي علينا أن نرى موقف القرآن من الإخلاص في مجال العقيدة والإيمان، وقد عرفنا أن الإخلاص مناط العقيدة، وأساس قبولها، وبرهان صدقه، بل لأجله وحده أرسل اللَّه رسوله محمدًا عليه الصلاة والسلام، فقد كانت للقوم من قبله عقيدة لكنها غير خالصة للَّه رب العالمين، ويكفى أن نتصور هذه الحقيقة ليتبين صدق ما قررت.

فالقرآن الكريم لم يذكر كلمة أخلص، أو إخلاص، أو مخلص بكسر اللام إلا مقرونة بالدين، إلا آية واحدة في سورة البقرة ذكر فيها كلمة المخلصين تعلقت مباشرة باللَّه وذلك قوله تعالى: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}، وذلك لأن المحادثة هنا بين المسلمين وأهل الكتاب والكل على دين السماء، وما يتميز به المسلمون هو الإخلاص.

(يتبع)


[1]  .لم يكن هذا حكما ما عندهم في كل النعام وأنما خاص، على ما أعتقد بالبحيرة والسائبة التي نهى عنهما القرآن أساسا.