الإسراء والمعراج

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

سورة بنى إسرائيل. وتسمى (سورة الإسراء)

التسبيح: تنذيه اللَّه جل ثناؤه من كل سوء

وأصل (التسبيح) التنزيه، والتقديس، والتبرئة من النقائص. معنى (سبحان اللَّه) نزيه اللَّه.

وقيل: قوله (سبحانك) أى أنزهك يارب من كل سوء أبرئك.

وأصل (عبد) المعبد المذلل اغيره، إما بالمك والقهر. والكل – بهذا المعنى – عبيد اللَّه لأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يدبر كل أمرهم.

وإما أن يكون العبد هو الذي أذل نفسه وعبدها، فيكون جمعه عبادًا، فهو إما عبد للطاغوت، وهو المشرك الوثنى الذي يعبد الموتى، ويتخذ الأنداد من دون اللَّه، وهو في الواقع عبد الشيطان.

والعبد الكريم الناصح لنفسه: هو الذي عرف لنفسه قدرها، فعرف لمن يذلها ويخضعها، فعبد لله وحده، المؤمنون في ذلك درجات. أعلاهم المرسلون. وأعلاهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم كان لقب (عبد اللَّه) أحب لقب إلى قلبه.

وكان بعبوديته الشاكرة الصابرة – يزيد ربه معرفة به، ونور بصيرة، وهدى وحكمة ورشدًا، ورحمة وشفقة بالناس، فيزداد عبودية، وحبًا لربه، ورضى به ربًا، ورضى بسنته وتدبره له في كل شأن، وشكرًا لعطائه وفضله، وفهما لسننه، واستقامة على ما تقتضيه حتى كان هو العبد المعبد قلببه حقيقة لربه، فكان الذي يقدر وحده من دون أهل الأرض جميعًا على حمل الأماانة العظمى عن ربه سبحانه، ليخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، إلى هدى الرسالة الرشيدة، وعلمها المنزل من الحكيم الخبير، شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة تطمئن بها القلوب إلى ربها، وفي إخلاص العبادة له، والاستقامة على سننه الكونية وشرائعه التي تهدى المتبع لها إلى أقوم سبيل وأهداها في بلوغه كل غاية حميدة، يوفر اللَّه له بها أسباب السعادة، والعيش الرغد الهنئ، والحياة الطيبة في الأولى والأخرى.

وكانت قريش قد بالغت في أذى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بعد موت عمه أبى طالب، وخديجة الصديقة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها وأرضاها، حتى خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد ضاقت عليه مكة – إلى الطائف يعرض على سادة ثقيف وأشرافهم، أن يؤوه وينصروه، حتى يبلغ رسالة ربه، ويعدهم على ذلك فلاح الدنيا والآخرة. فردوه أشنع رد وأقبحه، وأغروا به سفهاءهم يرجمونه بالحجارة، وما زالوا يطاردونه حتى كلوا زأعيوا، فعادوا أدراجهم، فجلس وكان به r من الهم والحزن ما يصوره دعاؤه الذي ناجى به ربه، إذ يقول ((اللهم إنى أشكوا ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى؟ إلى قريب يتجهمنى – وفي رواية: إلى يعيد، أم عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك سخط فلا أبالى؛ ولكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة: من أن ينزل بى غضبك، أو يحل سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)).

وكان جلوسه أمام بستان عتبة وشيبة ابنى ربيعة، ألد أعدائه وأعنف المشركين في أذاه بمكة. فلما رأياه كذلك رقق اللَّه قلباهما، وأرسلا إليه صلى الله عليه وسلم غلامهما النصرانى النصرانى عداس، يقطف من عنب، فحين مد رسول اللَّه يده يتناوله سمى اللَّه، فقال له عداس: واللَّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أى البلاد أنت يا عداس؟ فقال: من نينوى، فقال له من قرية الرجل فقال له: الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس، في لهفة ودهشة: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له: ذاك أخى. كان نبى وأنا نبى. فأكب عداس يقبل رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويديه وقدميه؟ احذره أن يفتنك عن دينك. فدينك خير من دينه. فقال: يا سيدى ما في الأرض خير من هذا. لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبى.

ثم بعث اللَّه إليه – إستجابة لشكاته ودعائه – جبريل، ومعه ملك الجبال. فقال له ملك الجبال: مرنى فيهم بما شئت، مرنى أن أطبق عليهم الأخشبين – الجبلين اللذين بينهما وادى مكة والطائف – فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((دعهم، لعل اللَّه أن يخرج من أصلابهم من يعبده)).

ثم عاد إلى مكة، وفي طريقه صرف إليه نفرًا من الجن يستمعون القرآن – وقد قص اللَّه نبأهم في سورتى الأحقاف، والجن – ولو أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقتلوا أهل مكة لقتلوهم الساعة. ولكنه صلى الله عليه وسلم صرفهم لينذروا قومهم.

فلما دنا من مكة ذهب مولاه زيد بن حارثة رضى اللَّه عنه إلى المطعم بن عدى، فسأله أن يصحبهما في دخول مكة، ليدفع عنهما أذى أهل مكة، الذين حرشهم وزادهم شرًا ما بلغهم من فعل سفهاء أهل الطائف بهم، ولم يلبث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن رد إليه جواره مشكورًا، وأبى إلا جوار ربه القوى العزيز، البر الرحيم.

وفي أمسية هذا اليوم – ألذي رد فيه جوار مطعم بن عدى – جاءه جبريل يبلغه دعوة حبيبه الأجل الأعلى سبحانه، ليناجيه مناجاة الحبيب حبيبه ما الصفى، الذي انخلع من كل نفسه البشرية وكل انفعالاتهم ولا آلامه ولا أحزانه. ولكن يذكر ربه الذي حمله أمانة الرسالة يبلغها لعباده، وأعطاه الشفاء والرحمة ليدفعهما إليهم، ويعمل جهده حتى ينتفعوا بهما، لينالوا عافية وسعادة الأولى والآخرة. فيقول لملك الجبال، وقد تبرأ من أن يغضب لنفسه، بل أن يخسربها، ويرىلها حقًا، أو شيئًا مع ربه ((دعهم، لعل اللَّه أن يخرج من أصلابهم من يعبده)).

ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم البراق، ومشى جبريل وميكائيل في ركابه من المسجد الحرام – مسجد مكة – إلى المسجد الأقصى بيت المقدس. ثم عرج كذلك إلى فوق السموات العلى، وقد أعد اللَّه في كل سماء من خير أهل الأرض من الأنبياء، ومن أهل السماء من يتلقون عبد اللَّه، ورسول اللَّه وحبيب اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ((مرحبًا به. ولنعم المجئ جاء))، ((مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، أو الأبن الصالح)) حتى رفع إلى سدرة المنتهى فرأى جبريل على صورته اللكية العظيمة التى خلقه اللَّه عليها.

ثم تتقدم وتقدم حتى كان حيث لا يعلم إلا اللَّه وحده حيث يسمع صريف الأقلام، وكان له صلى الله عليه وسلم من ربه ما أذهب عن قلبه الهم والحزن، وشرح صدره أوسع الشرح، وثبت قلبه أتم التثبيت بأن العاقبة له، والنصر معقود بلوائه.

ثم كانت خلعة الوصل والمحبة، وآية الحب الدائم حتى يرتفع إلى الرفيق الأعلى، والمنحة الكريمة، والعطية السنية من الحبيب لحبيبه، في هذه الليلة الكريمة. هي الصلاة، التي هي الصلة بين العبد وربه، والتي كانت قرة عين عبد اللَّه ورسوله الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.

والروايات كثيرة في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة تفيد التواتر المثبت قطعًا لمعجزة الإسراء والمعراج.

واعلم بأن هذا إنما هو من علم الغيب، الذي نؤمن به كما ورد وثبت، ولا نجادل فيه، ولا نقيس عليه، فلا شك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان له تلك الليلة حالة خاصة بها ثم له ما أراد به من هذه المعجزة، ولقى من لقى من الملائكة والمرسلين من حياه ورحب به هذا الترحيب، وأن جبريل استفتح أبواب السموات، ووجد في كل سماء رسولاً من السابقين، واللَّه أعلم كيف كان ذلك، لا يعلم كنهة إلا اللَّه وحده.

ولا نمارى فيما أراه ربنا من ىياته الكبرى لنبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة الكريمة ونسأل اللَّه أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وقول اللَّه تعالى (بعبده) يدل دلالة واضحة أتم الوضوح لمن شرح اللَّه صدره للإسلام وعرف هذا العبد الكريم من صحيح سيرته، وهدى رسالته صلى الله عليه وسلم – إن هاتين المعجزتين – الإسراء والمعراج – كانتا بجسمه صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، بقدر اللَّه القوى الكبير المتعال، الذي يسخر السموات والأرض ومن فيهما، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، وإنما مره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون.

إعداد محمد رشدى خليل