لماذا التوحيد (3)

للأستاذ الشيخ: محمد عبد المجيد الشافعي

الرئيس العام للجماعة ورئيس التحرير

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين

والتوحيد أو الإيمان باللَّه الواحد ضرورة حضارية فلا ترقى البشرية ولا تسعد الإنسانية إلا إذا كان الإنسان حرًا غير مستعبد وطليقا غير مقيد إلا بقيد من الفضيلة أو حد من حدود الأخلاق إيقاضا للضمائر وإحياء للمشاعر وإرهاقا للأحاسيس في المؤمنين، فلا يعيشون كما يعيش أولئك الملحدون والوجديون والدهريون الذين يحيون كما تحيا البهائم كل همهم تحصيل الشهوات وإدراك الملذات غير مبالين بصالح المجتمع ولا بمصير الشعب، ولا بمقدرات الأمة فهم عبيد الشهوة من مال أو جاه أو سلطان أو نساء أو سمعة أو رياء.

ومصدر كل هذا: البغى بغير الحق والإفساد في الأرض وهتك العرض عقيدة ملحدة لا تؤمن بيوم الحساب ولا تخشى يوم التناد، فهم ينكرون وجود اللَّه ويظنون وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، ألا مرد لهم إلى اللَّه كما يحكى عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [سورة الجاثية: 24].

لذا بعث اللَّه الرسل بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم اللَّه من ينصره ورسله بالغيب إن اللَّه قوى عزيز.

1 – وهل يقوم الناس بالقسط إلا إذا آمنوا بالبعث والجزاء؟

2 – وهل ينصر الناس ربهم ورسله مسترخصين أنفسهم وأموالهم إلا إذا كان هناك ثواب.

3 – وهل يرعوى المجرمون والمفسدون عن فسادهم والعابثون عن عبثهم إلا إذا أيقنوا أن هناك رادع من عقاب؟

4 – وهل يؤمن الناس بهذا وذاك إلا إذا آمنوا باللَّه الواحد، وأنه على كل شيء قدير، وأنه حكم عدل وأن عدله يوزن بالذرة كما أخبرنا سبحانه وتعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [سورة الزلزلة: 7، 8] وأنه قادر على أن يعيد خلقهم بعد موتهم وهو أهون عليه كما قال سبحانه {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [سورة الروم: 27].

ومن ثم كان التوحيد ضرورة تمد المجتمعات البشرية بكافة وسائل الحضارة وتصلهم بكل أسباب المدنية وتحوطهم بسياج من العقيدة الصافية والأخلاق الفاضلة والآداب العالية والأفكار السامية ليعلموا أن الإنسانية عزة وكرامة وأن الحياة البهيمية ذلة ومهانة، وأن العزة لا تتحقق إلا بصفاء العقيدة باللَّه الواحد ونقاء السريرة وسلامة الطوية وحسن النية وسمو الروح وطهر القلب وزكاة النفس.

وأن كل أولئك لا تنبع إلا من الأخلاق الكريمة وأن الأخيرة مصدرها الإيمان بالجزاء {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [سورة الأنبياء: 25]، ويقول عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [سورة الذاريات: 56: 58]، كما يقول أيضا {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل: 36].

فهذا نوح يحكى اللَّه عنه فيقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)} [سورة نوح: 1: 4].

وهذا هود عليه السلام يقول لقوم عاد {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)} [سورة هود: 50].

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)} [سورة هود: 61].

{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا اللَّه ما لكم من إله غيره … } [سورة هود: 84]، وبعد ما يقص علينا في سورة هود قصة موسى وأن الملأ من قوم فرعون اتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد، يقول ربنا سبحانه وتعالى لنبينا الكريم عليه الصلاة والسلام {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْءَالِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [سورة هود: 100: 102]، كأن اللَّه يريد أن يبين لنا أن الناس ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد من دون اللَّه ودعائهم، وأن دعاءهم لا يغني ولا يفيد وأن دعاء غير اللَّه والتحاكم إلى غير الإله الواحد لا يزيد الناس إلا خسارًا ودمارًا.

وأن الناس اتبعوا أمر فرعون ولم يتبعوا أمر اللَّه فقد اتخذوه إلها من دون اللَّه، وكذلك كل من يتبع قول حاكم أو عالم أو شيخ طريقة أو رئيس جماعة أو واعظ يخالف أمر اللَّه ولا يتفق مع القرآن والسنة فقد اتخذه ندًا لله، بل يكون قد عبد من دون اللَّه كما يحكي لنا عدى بن حاتم حينما دخل على رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام فوجده يقرأ قول اللَّه عز وجل {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم من دون اللَّه … } فقال عدى يا رسول اللَّه، واللَّه ما عبدناهم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((ألم يكونوا يحلون لكم الحرام ويحرمون لكم الحلال فتتبعوهم)) فتلك عبادتهم وبهذا يشركون باللَّه ما لم ينزل به سلطانا، والشرك أعظم الظلم كما يبن لنا ذلك القرآن الكريم في قول اللَّه تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [سورة لقمان: 13].

والتوحيد أو عبادة اللَّه الواحد يرفض السحر والعيافة والكهانة والعرافة لأنها جميعًا ضرب من ضروب التنجيم والتجيم هو معرفة المستقبل وما سينزل من مطر وما سيقع من نفع أو ضرر برصد النجوم وهو أمر منهى عنه، كما قال البخاري في صحيحه: قال قتاده: ((خلق اللَّه النجوم لثلاث، زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها)) وقال ابن رجب ((الماذون في تعلمه من التجيم هو علم التسيير لا علم التاثير فإنه باطل محرم)) وأما التسيير فيتعلم منه ما يحتاج إليه المرء في الاهتداء إلى الطريق ومعرفة القبلة عند الجمهور.

ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رضي اللَّه عنه: التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، ويروى بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((من اقتبس بابا من علم النجوم لغير ما ذكر اللَّه اقتبس شعبة من السحر. المنجم كاهن والكاهن ساحر والساحر كافر)).

والعرافة وما أدراك ما العرافة، شر مستطير وبلاء كبير على العراف نفسه لأنه يدعى على الغيب وعلى الذي يسأله إذا صدقه فقد كذب صريح القرآن الكريم لأن الغيب كله لله.

والعراف هو ذلك الذي يتعاطى معرفة مكان الشيء المسروق ومكان الضالة وهو الذي يدعى إظهار الأمور الغيبية وتعريفها للناس قبل وقوعها، وهذا منه تحكم على الغيب وتعاط لعلم قد استأثر اللَّه به فلا يعلم الغيب إلا اللَّه. ولهذا يقول اللَّه عز وجل: {إن اللَّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ما تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت} [سورة لقمان: 34]. وادعاء علم الغيب من الكبائر كما قال الذهبي.

والوحيد يعنى عبادة الإله الواحد لا يرفض صنعة التنجيم إلا لخطرها، وأنها تفضى بالمسلمين إلى عدم الأخذ بالأسباب وعدم سلوك السنن الكونية التي سنها اللَّه للناس حتى يتمكنوا من كسب معركة الحياة التي تتطلب من المسلم كياسة وفطنة وذكاء ويقظة – وأن يعلم أن الغيب كله لله حتى لا يتواكل لأن التواكل يؤدى بالإنسان إلى الجمود كذلك الذي ينتظر من السماء أن تمطر ذهبا وفضة وهكذا تنحدر الأمة التي لا تعرف التوحيد إلى التواكل وهذا ينتهي بها إلى الجمود والأخير يهوى بها إلى الحضيض ثم تكون الاستكانة والذلة واللَّه لا يرضى المذلة للمؤمنين كما يقول سبحانه: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [سورة المنافقين: 8]، ولهذا يحذر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من العرافة لخطرها وشرها فيقول رواية عن مسلم عن حفصة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((من أنى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).

ويدخل في مفهوم العرافة أو التنجيم أصحاب النجوم وضاربوا الرمل وفاتحو الكتاب وكاتب الحجاب وأهل الكشف والجفر وأهل الاستخارة غير الشرعية المدعين التعرف والتعيين؛ المخبرين بالأمور الغيبية والمعرفين بها الناس.

وإلى العدد القادم إن شاء الله