بقلم الأستاذ أحمد طه
الإسلام دين اللَّه بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس جميعًا. وليقيم على أساسه أمة الحق والعدل والإحسان. ويمحو به دعائم الباطل والظلم والطغيان. وليس الإسلام فوق مستوى العقول فتضل في فهمه، ولا مخالفًا للفطر فتحيد عنه.
والإنسانية على ضوء الوحي والهداية واحترام العقل والعلم تستطيع أن تحقق مثلها العليا وتبلغ أهدافها الكبرى دون أن تتعثر أو تضل الطريق. وهو وحده سبيل الخلاص وطريق الإنقاذ. إن الإسلام دين القوة وليس في ذلك من شك ومصادر قوته من ذاته، فمشرعه هو القهار قيوم السموات والأرض ذو القوة المتين. ومبلغ هذا الدين صلى الله عليه وسلم الصبار ذو العزيمة الأمين الذي تحمل وبذل من الجهد وقوة الخلق وحارت قريش في زلزلته وتهوين دعوته مواجههًا صامدًا معتصمًا باللَّه وحده يعلنها في وجوههم واضحة لتسمع الدنيا كلها ((واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك دونه ما تركته)). وهو القائل صلى الله عليه وسلم في حديث الإمام مسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير – ويحدد معالم القوة – احرص على ما ينفعك واستعن باللَّه ولا تعجز)). كتاب هذا الدين هو القرآن والفرقان: الذي تحدى وأعجز كل إنسان بلسان هذا الدين هو العربي الذي أخرس كل لسان وأبان. خلفاؤه الراشدون الذين أعلوا كلمة اللَّه وحققوا حياة الحق والعدل وأصلحوا دنياهم بدينهم حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس ورفرفت رايتهم على نواحي الشرق والغرب. قواده الخالدين الذين أذلوا بسيوفهم رقاب قيصر وكسرى وصارت تيجانهم تحت أقدامهم، ألا فكل من لم يكن قوي النفس والبأس قوي العزيمة والإرادة قوي الإنسانية والروح. قوي الخلق والدين قوي الأمل قوي العدة والعتاد ففي إسلامه خداع.
ذلك لأن الإسلام عز في الدنيا وفوز في الآخرة. وهو قوة في العقل وقوة في اللسان وقوة في البدن وقوة في الروح. أما إنه قوة في العقل فلأنه يفرض عليك قبول الإيمان بالآيات والدلائل. حتى معرفة اللَّه عز وجل وتوحيده بالحجة واليقين. مثال هذه الحجة في القرآن ما قصه الله علينا في شأن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. مع قومه: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، وهكذا كانت قوة الإسلام في العقل تصحيح للعقيدة والعبادة وتعميق للإيمان بالفكر والتأمل. أما قوة الإسلام في اللسان فبالبلاغة، والبلاغة معجزة الدين وأداته وهي قوة في الفكر وقوة في العبارة وقوة في العاطفة. وصدق الله إذ يقول: {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغًا} أما قول قوة الإسلام في اليد فأمرها حكيم. ذلك لأن الله موحيه قد علم أن العقل بسلطانه واللسان ببيانه وهي مدى قوته أيضًا لا يغنيان عن الحق شيئًا إذا ما تبلد الحس وتحكمت النفس وعميت البصيرة فجعل من قوة العضد زائدًا عن حقه وداعيًا إلى حكمه ومنفذًا لشرعه. وفي الحكمة أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ومعنى ذلك أن الله كتب على المسلمين القتال في سبيل دينهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وفي سبيل حياتهم وبقائهم آمنين أعزاء أقوياء لا يسامون الخسف والعذاب والذلة والهوان، بل فرض إعداد العدة وعتاد الحرب إرهابًا لعدو الله وعدوهم. وأمرهم أن يقابلوا اعتداء المعتدين بمثله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) – (فمن اعتدى علكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، ومن هذا يتضح أن قوة الإسلام في الحكمة والرحمة والعدل. لا قوة السفه والقسوة والجور. بل قوة تدفع البغي والعدوان وتدافع الأثرة والطغيان ليقوم المجتمع والحياة على أساس كريم قويم.
والإسلام بعد ذلك قوة في الروح لأنه يمحص ويزكي جوهرها بالصيام والقيام وسائر العبادات. وإذا ما عرض كل منا على نفسه مرامى العقيدة الإسلامية لوجدها كلها تتجه إلى القوة أو إلى ما تحصل به القوة. فالصلاة قوة روحية قلبية بذكرك ومناجاتك لربك وصلتك به وقوة جسدية بالوضوء والطهور وبعد ذلك قوة عسكرية بالحركة والترتيب والنظام.
ولما كانت بهذه المنزلة من القوة كانت آخر ما يفقد من الدين. فلما أضاعها أكثر المدعين الإسلام اسمًا ونسبًا أضاع الله عليهم عزهم ومكانتهم. وهانوا لى عدوهم. والزكاة فريضة اجتماعية فيها تقوية للضعيف بمساعدته وتمكين للمجتمع بالتعاون والتعاطف {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} والحج فريضة لها أثرها ومنافعها فهو يهدي إلى التعارف والتآلف بين مختلف الشعوب والقبائل ألا وإن أشد ما يظهر به القوة بيننا وتنظيم به حياتنا هو الوحدة والجماعة. وهما لباب الدعوة الإسلامية فالوحدة هي الأساس لأنها توحيد لله بعد إشراك واتخاذ وحده إلهًا لا معبود غيره ولا رب سواه له مقاليد السموات والأرض وتوحيد للأمة بعد شتات وتوحيد للكلمة والجماعة بعد تفرق بأن يكون كتابهم هو العام والحاكم بينهم وأن يكون نبيهم صلى الله عليه وسلم هو الإمام القدوة وحده {لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة} أما الجماعة فهي البناء والجهود والتشييد لأنها جملة الشعوب وجمعة القلوب التي ألف بينها وأصلح من شأنها وأعز من كيانها ورفع من مكانتها هذا الدين العظيم الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قامت سياسة الإسلام على استدامة القوة بين المسلمين بالمحافظة على الوحدة والحرص على الجماعة حتى أوجب الله قتال الطائفة التي تبغي على جماعة المسلمين: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والحرص على الجماعة يتجلى في هذه الصلاة إنما يعظم أمرها ويضاعف أجرها إذا أديت في جماعة وشرع الله هذه الجماعة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات ثم تكثر، وتزداد في صلاة الجمعة كل أسبوع ثم تعظم في صلاة العيدين في كل عام ثم تضخم في أداء الحج مرة على الأقل في كل العمر، على هذا كان إسلام رسولنا صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
وعلى هذه القوة والتماسك كانت بطولة خالد وسعد وأبو عبيدة رضي اللَّه عنهم، كانت هذه الأمة العظيمة تعرف الحق والهداية والصراط المستقيم في كتابها وتعرف العزة والجهاد والسيف لأعدائها: كانوا يجمعون بين قيادة المعركة وإمامة الصلاة. فلما شتت الوحدة وتفرقت الجماعة والكلمة وأصبح الكتاب تمائم يعلقها مرضاهم على اصدور وتجارة للقراء ورياء تبدلت الحال بعد عزة واستخلاف إلى تخاذل واستضعاف وأصبح مسلمو اليوم على أخلاف العبيد يطأطأ بعضهم ولا يندى لهم جبين وتنقص عزتهم فلا يحمي لهم أنف تنزل بهم المحنة فيتخاذلون تخاذل القطيع عاث فيه الذئب تلم بهم الشدة فيتواكلون تواكل الأخوة دب فيهم الحسد، كأن الإسلام الذي كان عامل القوة والاستخلاف أصبح اليوم علة ضعف واختلاف.