المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :-
فإن تكفير المسلمين من الأمور الخطيرة، التي إذا أساء بعض طلاب العلم فهمها لترتب على ذلك مفاسد كبيرة في الدين والدنيا معاً داخل المجتمع المسلم .
إن تكفير شخص مسلم بعينه، حُكمُُ شرعي لا يقوم به إلا بعض أهل العلم، الذين رزقهم الله تعالى بسطة في فهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفهم سلفنا الصالح مع قدرة عالية في الجمع بين الأدلة الشرعية مع مراعاة أحوال الشخص المراد إقامة الحجة عليه . من أجل ذلك قمت بإعداد هذه الرسالة الموجزة، وقد تناولت الحديث فيها عن معنى التكفير، بداية ظهور التكفير ثم تحدثت عن أنواع التكفير وتحذير المسلمين من الوقوع في هذا الأمر الخطير وذكرت أقوال العلماء في مسألة تكفير أشخاص بأعيانهم، ثم ذكرت شروط تكفير المعين وموانع التكفير، ثم ختمت الرسالة ببيان أن التوبة تمحو الكفر بعد ثبوته على شخص بعينه .
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به طلاب العلم في كل مكان . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
معنى التكفير:
التكفير: هو نسبة أحد من أهل القبلة إلي الكفر .
( معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية جـ 1 صـ487 )
نشأة فتنة تكفير المسلمين:
إن أصل فتنة تكفير المسلمين ونشأتها وبداية ظهورها يرجع إلى الخوارج، الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،وكفروه هو ومن معه من الصحابة والتابعين، وذلك بعد حادثة التحكيم التي كانت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين 0
قال ابن حجر العسقلاني :
الخوارج هم جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا . بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على عليّ رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتله عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم . كذلك قال، وهو خلاف ما أطبق عليه اهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع على واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة على وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلي مكة بعد أن بايعا علياً فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلي البصرة يدعون الناس إلي ذلك، فبلغ علياً فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة وانتصر على وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد ان انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك وكان على أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشام فاعتل بأن عثمان قتل مظلوماً وتجب المبادرة إلي الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من على أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بع ذلك، وعلى يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلي أحكم فيهم الحق، فلما طال الأمر خرج على في أهل العراق طالباً قتال أهل الشام فخرج معاوية في أهل الشام قاصداً إلي قتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما أشهراً، وكاد أهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا ندعوكم إلي كتاب الله تعالى وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي وخصوصاً القراء القتال بسبب ذلك تديناً، واحتجوا بقوله تعالى : ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ” . فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا ابعثوا حكماً منكم وحكماً منا ويحضر معهما من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلي ذلك وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج وكتب عليّ بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام : هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين علي ومعاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا كتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلي ذلك فأنكره عليه الخوارج أيضاً . ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عيونها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع العسكران إلي بلادهم إلي أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلي الشام، ورجع علي إلي الكوفة، ففارقة الخوارج وهم ثمانية آلاف وقيل كانوا أكثر من عشرة آلاف وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكاناً يقال له حروراء بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة، ومن ثم قيل لهم الحرورية وكان كبيرهم عبد الله ابن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكرى، وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمى فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج غليهم علي، فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن علياً تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك علياً فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد : لا حكم إلا لله، فقال : كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم : لكم علينا ثلاثة : أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً . وخرجوا شيئاً بعد شيء إلي أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضاً فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه ماله وأهله، وانتقلوا إلي الفعل فاستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، مر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت وكان والياً لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سِّرية وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ علياً فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلي الشام .
فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم غلا دون العشرة ولا قتل ممكن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم . ثم انضم إلي من بقى منهم من مال إلي رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن ابن ملجم، الذي قتل علياً بعد أن دخل علياً في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يُقال له النجيلة ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله عل العراق طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولى الخلافة عبد الله بن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلي مصر، فظهر الخوارج حينئذٍ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق من الإبط وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقاً وفتكوا فيمن يُنسب إلي الإسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقاً بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعوا أولاً ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلي أن أمّر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب .
(فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ12 صـ296: صـ297)
قال البخاري : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ (أي الخوارج) شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ0 وَقَالَ: إِنَّهُمْ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ 0 (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ12 صـ295)
قال القاضي أبو بكر بن العربي:الخوارج صنفان أحدهما يزعم أن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار،والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبداً0
(فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ12 صـ297)
قال ابن تيمية ـ وهو يتحدث عن الخوارج والشيعة ـ: وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَطْعَنُ بَلْ تُكَفِّرُ وُلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُ الْخَوَارِجِ يُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا وَالرَّافِضَةُ يَلْعَنُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ وَلَكِنَّ الْفَسَادَ الظَّاهِرَ كَانَ فِي الْخَوَارِجِ : مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ ؛ فَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِقِتَالِهِمْ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّهِمْ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ وَأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ .
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ13 صـ35)
أنواع التكفير:
ينقسم التكفير إلي نوعين هما : التكفير المطلق، والتكفير المعين، وسوف نتحدث عن الفرق بينهما بإيجاز :-
أولاً : التكفير المطلق :
هو الحكم بالكفر على القول أو الفعل أو الاعتقاد، الذي ينافى أصل الإسلام ويناقضه، وعلى فاعليها على سبيل الإطلاق بدون تحديد أحد بعينه .
ثانياً : التكفير المعَّين :
هو الحكم على شخص معين بالكفر، لإتيانه بأمر يناقض الإسلام بعد استيفاء شروط التكفير فيه، وانتفاء موانعه.
اعلم أخي الكريم : أن إطلاق حكم التكفير على الفعل شيء، وإطلاقه على الأشخاص المعينين شيء آخر، فقد يكون الفعل كفراً، ولا يكون صاحبه كافراً، لانتفاء أحد شروط التكفير، كقيام الحجة مثلاً، أو لوجود شيء من موانع التكفير، كالجهل مثلاً .
مثال :
روى البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . ( البخاري حديث 6780 )
في هذا الحديث نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لعْن هذا الرجل، الذي جلده، مع إصراره على شرب الخمر، لكونه يحب الله ورسوله، مع أن رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ .
( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 3121 )
وَلَكِنَّ لَعْنَ الْمُطْلَقِ ( كما في هذا الحديث ) لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ، ( كما في حديث جلد شارب الخمر الذي أخرجه البخاري ) الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ . وَكَذَلِكَ ” التَّكْفِيرُ الْمُطْلَقُ ” و ” الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ ” . وَلِهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ .
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ10 صـ329 : صـ330 )
التحذير من تكفير المسلمين :
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا . ( البخاري حديث 6103 )
روى البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُسَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ . ( البخاري حديث 6045 )
قال ابن حجر العسقلاني – رحمه الله :
أَنَّ الْحَدِيث سِيقَ لِزَجْرِ الْمُسْلِم عَنْ أَنْ يَقُول ذَلِكَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِم، وَذَلِكَ قَبْل وُجُود فِرْقَة الْخَوَارِج وَغَيْرهمْ .
( فتح الباري جـ10 صـ481 )
قال الشوكاني – رحمه الله :
إن الحكم على الرجل بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر ، لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة أن من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما، هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيح و غيرهما ” من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه . أي رجع، وفي لفظ في الصحيح، فقد كفر أحدهما، ففي هذه الأحاديث، ما ورد موردها أعظم زاجراً وأكبر واعظاً عن السراع في التكفير، وقد قال عز وجل : ” وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ” ( النحل : 106 ) فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك، لاسيما مع الجهل بمخالفتها الطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فِعلٍ كفري لم يُرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلي ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ، يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه . ( السيل الجرار للشوكاني جـ 4 صـ578 )
أقوال أهل العلم في تكفير المُعيَّن :-
سوف نذكر بعض أقوال أهل العلم في مسألة تكفير أشخاص بأعيانهم :-
1- مالك بن أنس :-
سُئل مالك بن أنس عن رجل نادى رجلاً باسمه، فقال : لبيك اللهم لبيك أعليه شيء ؟ قال مالك : إن كان جاهلاً أو على وجه السفه فلا شيء عليه . ( البيان والتحصيل لابن رشد جـ16 صـ370 )
2- الإمام الطحاوي :
قال الطحاوى – رحمه الله – عند حديثه عن أهل القبلة وتقريره لعقيدة السلف الصالح ” لا نشهد عليهم بالكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلي الله تعالى .
(شرح العقيدة الطحاوية لأبي العز الحنفي ج2 ص131)
3- القاضي عياض :
قال القاضي عياض وهو يتحدث عن فضائل الصحابة :
أما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها، بسببها، وكلهم عدول، رضي الله عنهم أجمعين ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يُخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة، لأنهم مجتهدون، اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل الدماء وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم .
( معارج القبول لحافظ حكمي جـ 2 صـ505 : صـ506 )
4- ابن حزم- رحمه الله : من تأول من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق فهو معذور مأجور آجراً واحداً لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه إذ لم يعتمده لقول الله تعالى: ” وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ” وإن كان مصيباً فله أجران أجر لإصابته وأجر آخر لطلبه إياه وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو فاسق لجراءته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام فإن عند عن الحق معارضاً لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان على ما بينا قبل.
( الفصل في الملل والأهواء لابن حزم جـ3 صـ144 )
5- الإمام ابن تيمية :-
قال أحمد بن تيمية – رحمه الله :- لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ وَمَنْ ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ . (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ12 صـ466 )
وقال رحمه الله أيضاً :
لَا يَكْفُرُ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ . وَالزَّكَاةَ وَاسْتَحَلَّ الْخَمْرَ ؛ وَالزِّنَا . ( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ7 صـ619 )
وقال رحمه الله أيضاً :
أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا : وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ . ( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ3 صـ229 )
وقال رحمه الله :-
إِنَّ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالتَّكْفِيرَ وَالتَّفْسِيقَ هُوَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ فِي هَذَا حُكْمٌ وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ إيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ .
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ5 صـ554 )
6- ابن كثير :-
قال ابن كثير – رحمه الله :- في ترجمة معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم كما قدمنا، وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفا وخلفا، وقد شهدت الاحاديث الصحيحة بالاسلام للفريقين من الطرفين – أهل العراق وأهل الشام – كما ثبت في الحديث الصحيح ” تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق ” ( مسلم – الزكاة حديث 150 ) فكانت المارقة الخوارج، وقتلهم علي وأصحابه .
( البداية والنهاية لابن كثير جـ 8 صـ129 )
شروط تكفير المعيَّن :-
إن طلاق كلمة الكفر على شخص بعينه مسألة خطيرة، ولذا يجب على أهل العلم التأكد أولاً من كفر الشخص كفراً صريحاً يخرجه عن دائرة الإسلام، وذلك قبل إطلاق لفظ الكفر عليه، ويُشْتَرَطُ لتكفير شخص بعينه شرطان، وسوف نتحدث عنها بإيجاز شديد :-
الشرط الأول : أن يقصد الشخص بقوله الكُفْرَ صراحة :-
من المعلوم عند أهل العلم باللغة العربية أن بعض الألفاظ لها معانٍ متعددة، فربما قال الإنسان كلمة وقصد معنى غير المعنى الكفري لها، أو قال قولاً يستلزم أموراً مكفرة لم يقصدها ولم يلتزمها، فمثل هذا الشخص لا يجوز إطلاق كلمة الكفر عليه . فالنية لها أثر كبير في مسألة تكفير شخص بعينه .
روى البخاري عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
( البخاري حديث 1 )
قال ابن تيمية : لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ يَكْفُرُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِكُفْرِهِ فَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَفَرَ حِينَئِذٍ “
وقال أيضاً :- كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَنْفُونَ أَلْفَاظًا أَوْ يُثْبِتُونَهَا بَلْ يَنْفُونَ مَعَانِيَ أَوْ يُثْبِتُونَهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِأُمُورِ هِيَ كُفْرٌ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِالْمُلَازَمَةِ بَلْ يَتَنَاقَضُونَ وَمَا أَكْثَرَ تَنَاقُضِ النَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْبَابِ وَلَيْسَ التَّنَاقُضُ كُفْرًا . (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 5صـ 306)
مثال :
قال تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ “
( البقرة : 104 )
قال البغوي :كان المسلمون يقولون :راعنا يا رسول الله، من المراعاة أي أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا، وكانت هذه اللفظة سباً قبيحا بلغة اليهود، قيل: كان معناها عندهم اسمع لا سمعت. وقيل: هي من الرعونة فكانوا إذا أرادوا إطلاق الحُمق على أحد قالوا : راعنا، فنهى الله المسلمين من إطلاق هذه الكلمة، حتى لا يتخذها اليهود وسيلة لسب النبي -صلى الله عليه وسلم- جهاراًَ . ( تفسير البغوى جـ1 صـ102 )
الشرط الثاني : قيام الحُجة الواضحة :
المقصود بقيام الحجة على الشخص المسلم المراد تكفيره، هو إخباره بما جاء في القرآن الكريم، وبما أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته الشريفة، بفهم سلفنا الصالح، رضي الله عنهم أجمعين .
ويجب أن نراعي اختلاف أحوال الناس من حيث قُرْب عهدهم بالإسلام أو قدمهم فيه، ومن حيث انتشار العِلْم في الأماكن التي يسكنون فيها أو قصوره عنها، كما يجب أن نراعي كذلك حال السُّنَّة التي جحدها الجاحد من حيث ظهورها وخفاؤها . فإن كانت السنة خافية، أو كان المكان الذي يسكنون فيه، ينتشر فيه الجهل، أو كان الشخص قريب عهد بإسلام أو لم يبلغه العلم بالسُّنَّة، أُشترط قيام الحجة، في هذه الحالة .
ويُشترط في قيام الحجة أن توضح إيضاحاً تاماً حتى تظهر معاندة من خالفها بعد ذلك لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، حتى لا تكون لهذا الشخص الذي قامت عليه الحجة، حجة بعد ذلك .
ويُشترط أيضاً عند قيام الحجة على شخص معين انه كان صاحب شبهة، يجب إزالة هذه الشبهة عنه .
قال ابن تيمية :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ وَمَنْ ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ .
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ12 صـ466 )
موانع تكفير شخص بعينه :
موانع تكفير بشخص بعينه أربعة، سوف نتحدث عنها بإيجاز :
أولاً الخطأ :
إن الخطأ الذي يقع فيه المسلم يعتبر أحد الأعذار التي تمنع إطلاق لفظ الكفر على شخص بعينه .
روى مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ }
قَالَ دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ قَدْ فَعَلْتُ { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا }قَالَ قَدْ فَعَلْتُ{ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا }قَالَ قَدْ فَعَلْتُ .
( مسلم حديث 126 )
روى ابن ماجه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ .
( حديث صحيح ) ( صحيح ابن ماجه للألباني حديث 1664 )
إن الخطأ غير المعتمد، الذي يقع فيه المسلم سواء في مسائل العقيدة أو الأمور الفقهية خطأ مغفور لصاحبه، ما لم تقم عليه الحجة الواضحة .
الخطأ في الاجتهاد :
قال ابن تيمية- رحمه الله : أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فَتَكْفِيرُ كُلِّ مُخْطِئٍ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ .
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 7 صـ685 )
إن خطأ العالم المجتهد، الذي لا يُعاقب على خطئه، وله أجر واحد عند الله تعالى، يُشترطُ له ثلاثة شروط هي :-
أولاً : أن قصده متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- .
ثانياً : أن يبذل قصارى جهده للوصول إلي الحق والصواب .
ثالثاً : أن يكون متبعاً في اجتهاده دليلاً شرعياً إلا أن هذا الدليل تخلف فيه شرط قبوله في الاستدلال – والعالم لا يعلم ذلك – كالصحة، وعدم النسخ، وعدم التخصيص، ونحو ذلك، أو أخطأ في فهم المقصود من هذا الدليل.
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ20 صـ30 : صـ31 )
ثانياً : الجهل :
إن الجهل ببعض أمور العقيدة والأحكام الشرعية يعتبر أحد الأعذار التي تمنع تكفير المعيَّن .
قال ابن تيمية : مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ وُجُودُ الْعِلْمِ التَّامِّ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا إذَا كَانَ مُقِرًّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا جَهِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كُفْرُهُ .
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 7 صـ538 )
قال تعالى : ” رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ” . ( النساء : 165 )
وقال سبحانه : ” مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا “
( الإسراء : 15 )
قال ابن تيمية : تعليقاً على هذه الآية :
لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ؛ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَمْرَ يَحْرُمُ لَمْ يَكْفُرْ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ إيجَابِ هَذَا وَتَحْرِيمِ هَذَا ؛ بَلْ وَلَمْ يُعَاقَبْ حَتَّى تَبْلُغَهُ الْحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ .
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ11 صـ406 )
لقد جاءت أحاديث كثيرة في السنة النبوية المطهرة تدل على قبول العذر بالجهل سواء كان ذلك في مسائل العقيدة أو في الأحكام الشرعية، وقد ذكرنا بعضاً منها عند الحديث عن العذر بالجهل في السُّنَّة .
ثالثاً : العجز :
إن الشريعة الإسلامية الغرَّاء تناسب أحوال الناس في كل مكان وزمان، وتراعي اختلاق قدراتهم البشرية، ولذا كانت الأحكام الشرعية في حال الضرورة مختلفة عن الأحكام في حال اليُسْر والرخاء .
قال تعالى : ” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا ” ( الطلاق : 7 )
وقال سبحانه : ” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ” . ( البقرة : 286 )
ولذا فإن عجز المسلم عن أداء ما شرعه الله تعالى يعتبر من الموانع التي تمنع تكفير شخص بعينه . مثل أن تصل دعوة الإسلام إلي بعض الناس في دار الكفر، فيؤمنوا بها ويدخلوا في دين الله سراً، ولم يتمكنوا من ترك بلاد الكفر والهجرة إلي دار الإسلام، ولم يتمكنوا أيضاً من إظهار شعائر الإسلام الظاهرة، وليس عندهم من أهل العلم من يعلمهم جميع أحكام الشريعة الإسلامية، فمثل هؤلاء يعذرون بعجزهم .
قال ابن تيمية :
مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ إمَّا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ : مِثْلُ أَنْ لَا تَبْلُغَهُ الرِّسَالَةُ أَوْ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْأَصْلِ ؛ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَسَائِر أَهْلِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ بِحَسَبِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَبِهِ أُمِرُوا إذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْإِتْمَامِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ } ” ( مسلم حديث 2664 )
( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ12 صـ478 : صـ479 )
الأدلة على العجز من موانع تكفير المعيَّن :
1-قال تعالى : ” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ” ( النساء : 97 : 99 )
2-وقال سبحانه : ” وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ” ( النساء : 75 )
قال ابن تيمية رحمه الله : عن هذه الآية : أُولَئِكَ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ إقَامَةِ دِينِهِمْ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْهُ .
( فتاوى ابن تيمية جـ19 صـ220 )
3-لما هاجر بعض الصحابة إلي الحبشة وقابلوا النجاشي، الذي كان يدين هو وقومه بالنصرانية، وقرءوا عليه القرآن، أسلم وعرض قومه الدخول في الإسلام فرفضوا إلا عدد قليل منهم . عجز النجاشي ومن معه من المسلمين عن إظهار شعائر الإسلام بين قومهم، ومن ذلك لم يكفره الله تعالى، بل أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلى على النجاشي لما مات، صلاة الجنازة، لأنه مات بين قوم غير مسلمين ، فلم يصل عليه أحد .
روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ .
( البخاري حديث 1327 / مسلم حديث 951 )
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَعَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا .
( البخاري حديث 1318 )
قال الله تعالى : ” وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ” . ( آل عمران : 199 )
روى ابن جريرعن قتادة قال نزلت هذه الآية في النَّجاشي، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله -صلى الله عليه وسلم- وصدَّقوا به.
( تفسير الطبري جـ 6 صـ218 : صـ219 )
رابعاً : الإكراه :
الإكراه : كل ما ادى بشخص، لو لم يفعل المأمور به، إلي ضرب أو أخذ مال أو قطع رزقه يستحقه ونحو ذلك، والإكراه يُعتبر من موانع تكفير المعين .
قال تعالى : ” مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” ( النحل : 106 )
قال الإمام القرطبي – رحمه الله :
أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر . ( تفسير القرطبي جـ10 صـ190 )
وقال ابن كثير – رحمه الله :
اتفق العلماء على أنه يجوز أن يُوَالى المكرَه على الكفر ( أي الذي أكرهه على الكفر )، إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يستقتل ( أي بطلب من الذي يريد أن يجعله يكفر أن يقتله )، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحَد، أحَد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا وهو ثابت على ذلك .
( تفسير ابن كثير جـ 8 صـ359 )
شروط الإكراه :
وَشُرُوط الْإِكْرَاه أَرْبَعَة :
الْأَوَّل : أَنْ يَكُون فَاعِله قَادِرًا عَلَى إِيقَاع مَا يُهَدِّد بِهِ وَالْمَأْمُور عَاجِزًا عَنْ الدَّفْع وَلَوْ بِالْفِرَارِ .
الثَّانِي : أَنْ يَغْلِب عَلَى ظَنّه أَنَّهُ إِذَا اِمْتَنَعَ أَوْقَعَ بِهِ ذَلِكَ .
الثَّالِث : أَنْ يَكُون مَا هَدَّدَهُ بِهِ فَوْرِيًّا، فَلَوْ قَالَ إِنْ لَمْ تَفْعَل كَذَا ضَرَبْتُك غَدًا لَا يُعَدّ مُكْرَهًا وَيُسْتَثْنَى مَا إِذَا ذَكَرَ زَمَنًا قَرِيبًا جِدًّا أَوْ جَرَتْ الْعَادَة بِأَنَّهُ لَا يُخْلِف .
الرَّابِع : أَنْ لَا يَظْهَر مِنْ الْمَأْمُور مَا يَدُلّ عَلَى اِخْتِيَاره، وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْفِعْل مَا هُوَ مُحَرَّم عَلَى التَّأْبِيد كَقَتْلِ النَّفْس بِغَيْرِ حَقّ . ( فتح الباري جـ12 صـ326 )
التوبة تمحوا الكفر بعد ثبوته على المعيَّن :
أجمع أهل على أن التوبة النصوح هي المانع الوحيد، الذي يمنع تكفير المعين إذا رجع عن الكفر الذي قد ثبت عليه.
قال ابن حزم :
اتفقوا على أن التوبة من الكفر مقبولة . ( مراتب الإجماع صـ272 )
قال تعالى : ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ” . ( الزمر : 53 )
وقال سبحانه : ” لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” .
( المائدة : 73 : 74 )
وقال جلَّ شأنه : ” إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ” . ( البروج : 10 )
وقال سبحانه : ” قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ” . ( الأنفال : 38 )