أعظم المهن

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعد،

فنستهل كتابنا هذا الموسوم بــ “الواعظ ” بالتذكير بأن الوعظ ليس عملا دنيويا كما هو مقرر في نفوس بعض العوام، وأن القائم به دون أهل الرياسة وأصحاب المال وأرذال المفكرين الأقزام، بل هو أسمى الأعمال وأعظم المهن والوظائف والأشغال، كيف لا وقد قام به رب الأرباب واختص به أشرف العباد وجعله ميراث أهل التقوى الأمجاد، فكم من مرة يبين الله لنا في كتابه وعظه للعباد وأنه القائم به لشرف منزلته، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: آية 231]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: آية 58]. وقال: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: آية 90].

ويذكر لنا على لسان أنبيائه قيامهم بهذه الوظيفة السامية

فهود لما وعظ قومه اعترضوا عليه فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: آية 136].

وأنبياء بني إسرائيل وأتباعهم لا يملون من وعظ العباد حتى تعجبت طائفة منهم وقالوا: “وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)

وهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقوم واعظا في قومه: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }(سبأ: 46)

وها هو في أول مواقف الوعظ العلني يقف على جبل الصفا وقد علا صوته بالوعظ والتذكير والتخويف فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: ((يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ)) – لِبُطُونِ قُرَيْشٍ – حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ )) قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2]

فالناس في حاجة ماسة للوعظ ولا ينفكون عنه أبدا في حياتهم لتبقى حجة الله قائمة على العباد وليظل الحق واضحا لدى العيان فالضال يهتدي بالوعظ، والشارد نلم شعثه بالذكر، والعاصي يعود إلى صوابه بالوحي،فالكلمات إن خرجت من القلب التقي أعملت فيه إخباتا ورجوعا إلى الدين النقي.

قال العرباض بن سارية: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))(1)

فلا تقل وما تنفع الكلمات وقد كثرت البليات وانتشرت المعاصي والمنكرات وتبجح أهل الباطل على الدين واستهانوا بالمحرمات! ! هذه النظرة البائسة ليس لها ميزان في الإسلام وقد أمرنا الله بالوعظ حتى ولو فسد أهل الزمان لئلا يصيبنا الله بعذاب إذ تركنا الوعظ والنصح بالسنة والقرآن: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117)

فكم من موعظة فتح الله لها قلوب العباد والبلاد فتغيرت الأحوال وانقشع الغيم وتبدد الظلام

قال الشيخ علي الطنطاوي:

” إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة، فلا تقولوا قد شبعنا من الخطب، إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ، الذي يلقيه أمثالي من مساكين الأدباء، أما الخطب فلم تسمعوها إلا قليلاً، الخطب العبقريات الخالدات التي لا تنسج من حروف، ولا تؤلف من كلمات، ولكنها تنسج من خيوط النور الذي يضيء طريق الحق لكل قلب، وتحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس.

ولا تقولوا: وماذا تصنع الخطب؟

إن خطب ديموسئين صبت الحياة في عروق أمة كادت تفقد الحياة ، وهي كلمات وقفت سداً منيعاً في وجه أعظم قائد عرفته القرون الأولى ، الإسكندر ، ووجه أبيه من قبله : فيليب .

وخطبة طارق بن زياد هي التي فتحت الأندلس. وخطبة الحجاج أخضعت يوماً العراق، وأطفأت نار الفتن التي كانت مشتعلة فيه، ثم وجهته إلى المعركة الماجدة، ففتح واحد من قواد الحجاج أكثر مما فتحت فرنسا في عصورها كلها، وبلغ الصين، وحمل الإسلام إلى هذه البلاد كلها، فاستقر فيها إلى يوم القيامة، ذلك هو قتيبة بن مسلم.

ولما اجتاح نابليون بروسيا، ما أعاد لها حريتها، ولا ردَّ عليها عزمها، إلا خطب (فِختِه) التي صارت لقومه كالمعلقات يحفظها في المدارس الطلاب. . . (2)

وفي كتابنا الواعظ ذكر لما يحتاجه الخطيب من موضوعات تتناسب مع خطب الشهر ليتخير منها ما يروق له بما يتناسب مع الزمان والمكان، إضافة إلى جملة من الفوائد وضعناها في كتابنا بما ينمي ملكة الداعية وذلك بذكر بعض الأحكام ونقل الكثير من الفوائد والدرر وما وقع فيه الدعاة من أخطاء وأوهام، إلى غير ذلك مما نرجوا نفعه في الدنيا ويوم الحشر والتناد

ونسأله سبحانه أن يتقبل منا صالح القول والعمل وأن يجنبنا السهو والغلط وأن يصرف عنا شر الأشرار وكيد الفجار والله المستعان وهو نعم الركن والجوار.