{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]
وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء، وإمام المرسلين، وبعد:
بين يدي المقال:
فهذا هو المقال الثالث والأخير في هذا الموضوع: خدمة المرأة زوجها، وهذه المسألة فرع عن الحقوق الزوجية التي شرعها الله للزوجين، وقد سبق أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حقوق مشتركة بين الزوجين.
القسم الثاني: حقوق للزوج على زوجته.
القسم الثالث: حقوق للزوجة على زوجها.
ومن أدلة هذه الحقوق في الجملة:
قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228].
ولحديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال: «… ألا إن لكم على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا» [أخرجه الترمذي (3087) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (4100)، وابن ماجه (3055)].
والحقوق الزوجية إنما شرعت لحفظ السكن والمودة والرحمة، وصيانة الأسرة، ورفع الشقاق والتخاصم بين الزوجين، ولم تشرع لإيقاع التنازع والتناحر والندية التي تؤدي لتفكيك الأسرة وتنتهي بها إلى الطلاق، وتشتيت الأولاد، ونظرة واحدة إلى تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تبين لك حجم هذه المشكلة، وسأنقل لك تقرير العام الماضي 2021 م لعدد حالات الزواج، وعدد حالات الطلاق الموثق لتعرف حجم المشكلة:
بلغت عدد عقود الزواج الموثق: 880,041 عقدًا، وبلغت عدد عقود الطلاق الموثقة: 254,777 عقدًا، وبلغت عدد حالات الخلع: 9,197 حالة خلع.
النسبة المئوية لعدد عقود الطلاق إلى عقود الزواج: 28.93 %.
أي: أن كل 100 عقد زواج يقابلها تقريبًا: 28 إلى 29 عقد طلاق، وهذه نسبة مئوية مرتفعة للغاية.
وأنا أعزو هذا لثلاثة أسباب مترابطة:
الأول: النشاط الملحوظ للكثير من الجمعيات النسوية والتيارات التي تتبعها في وسائل الإعلام في البرامج، والأعمال الدرامية، والأدبيات التي تبث عبر وسائل الإعلام المختلفة.
الثاني: تنازل الأسر عن تربية الأبناء وتوعيتهم بالحياة الزوجية، وما يترتب عليها من تحمل للمسؤوليات.
الثالث: التناقص الملحوظ في البرامج الدعوية التي تعنى بالأسرة، على أن البرامج الدعوية التي تعنى بذلك على قلتها إن لم نقل ندرتها لا تتعدى المساجد.
فينبغي للأسرة والدعاة والمصلحين والموجهين والمربين التنبه لهذا الأمر الذي أصبح ظاهرة، ومحاولة إيجاد سبل الوقاية والعلاج في طريقين متوازيين.
والباحث لا يريد أن يسطح هذه المشكلة، أو أن يلتف حولها، ولا يريد أيضًا أن يحيد عن موضوع المقال: خدمة المرأة زوجها، لكن لم تعد هذه المسألة مجرد خلاف فقهي وقع بين الفقهاء بقدر ما أصبح تكأة ينطلق منها من يريد تفكيك الأسر وإيجاد التنازع والشقاق والندية فيها فلينتبه لذلك.
أولاً: معنى وجوب خدمة المرأة زوجها:
أن عليها وجوبًا الخدمة الباطنة في البيت من التنظيف والفرش، وإعداد الطعام، وغسل الثياب، ورعاية الولد، في مقابل وجوب نفقة الرجل على الزوجة في المأكل والمشرب، والملبس والسكنى.
ثانيًا: معنى عدم الوجوب عند القائلين به يتعدى ترك خدمة الزوج فإنه يعني عندهم: أنه يجب على الزوج ترفيهُ المرأةِ، وقيامه بخدمتها، وكنسه للبيت وفرشه، وإعداده للطعام، وغسيله للثياب بنفسه إن لم يستطع أن يخدمها خادمًا، هذا بالإضافة إلى وجوب النفقة عليه للزوجة في المأكل والمشرب، والملبس والسكنى؛ فالنفقة عندهم في مقابلة حق الاستمتاع.
قال أبو إسحاق الشيرازي في المهذب (2 / 482): «ولا يجب عليها خدمته في الخبز والطحن والطبخ والغسل وغيرها من الخدم؛ لأن المعقود عليها من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه».
ثالثًا: تحرير محل النزاع في مسألة خدمة المرأة زوجها:
1 ـ ذكر محل الاتفاق والإجماع:
أ _ أجمع أهل العلم على مشروعية خدمة المرأة زوجها، سواء أكانت ممن تخدم نفسها أو ممن لا تخدم نفسها، فلا خلاف بينهما في ذلك وهذا إجماع على أقل ما قيل في المسألة.
ب _ أجمعوا على أن الرجل يكفي المرأة الزمنة أو صاحبة العاهة الخدمة.
ج _ عامة العلماء متفقون على أنه إذا أعسر الزوج بنفقة الخادم ألا يفرق بين الرجل وامرأته.
الإقناع في مسائل الإجماع، لأبي الحسن ابن القطان (2 / 59)، الموسوعة الفقهية الكويتية (19/44)]]
2- تحرير محل الخلاف:
بعد اتفاق الفقهاء على مشروعية خدمة المرأة لزوجها اختلفوا في الحكم الفقهي لذلك على قولين في الجملة:
القول الأول: وجوب خدمة المرأة زوجها، وهو ظاهر قول الحنفية، والمالكية، وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي ِإسحاق الجُوزجاني، وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة.
قال ابن شاس في عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة (2 / 597): «فإن كانت إلى الضعة ما هي في نفسها وصداقها، وليس فيه ما يشتري به خادم، فليس على الزوج أن يُخْدِمَها، وعليها الخدمة الباطنة من عجن، وطبخ وكنس وفرش واستسقاء ماء إذا كان الماء معها، وعمل البيت كله.
وإن كان زوجها مليئًا، إلا أنه في الحال مثلها أو أشف، ما لم يكن من أشراف الناس الذين لا يمتهنون نساءهم في الخدمة، وإن كن دونهم في القدر.
وأما الغزل والنسج، فليس له ذلك عليها بحال، إلا أن تطوع.
وإذا كان معسرًا، فليس عليه إِخْدُامها، وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليها الخدمة الباطنة، كما هي على الدنية».
وقال ابن تيمية ” الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية”، للبعلي (ص 212): «وتجب خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال: فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة»
القول الثاني: عدم وجوب خدمة المرأة زوجها، وهو ظاهر قول الشافعية، والحنابلة، والظاهرية فهو عندهم موضع استحباب، وإحسان عشرة.
قال ابن قدامة في المغني (7 / 296): «ولكن الأولى لها فعل ما جرت العادة بقيامها به؛ لأنه العادة، ولا تصلح الحال إلا به، ولا تنتظم المعيشة بدونه».
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بالوجوب بأمرين في الجملة:
الأول: أن عقد النكاح عقد على الاستمتاع بغير خلاف، وهو عقد مطلق فيما دون ذلك، والعقود المطلقة تحمل على العرف، والعرف السائد أيام نزول الوحي خدمة المرأة زوجها، كما سيأتي بعد قليل.
وقال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (5/186): «فإن العقود المطلقة إنما تنزّل على العرف، والعرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلة».
وإلى ذلك مال الحافظ ابن حجر خلافًا للشافعية، قال في فتح الباري (9 / 324): «والذي يترجح حمل الأمر في ذلك على عوائد البلاد فإنها مختلفة في هذا الباب».
الثاني: الاستدلال بالوحيين.
أما القرآن: فقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]
وقد أوجب الله سبحانه نفقة المرأة وكسوتها ومسكنها، فيقابل ذلك خدمتها له، بما جرت به عادة الأزواج.
ولا يقال: النفقة في مقابلة الاستمتاع؛ لأمرين:
الأول: أن المهر يقدمه الرجل في مقابلة البضع، ففي حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها.
قال: يا رسول الله: مالي؟
قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها». أخرجه البخاري (5312) ومسلم (1493).
فجعل صلى الله عليه وسلم المهر في مقابلة البضع.
وأما الاستمتاع فكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فبقيت النفقة في مقابلة الخدمة.
الثاني: قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34].
فإذا أوجبنا على الرجل ترفيه المرأة فإما أن يُخْدِمَها خادمًا فإن أعسر به أخدمها نفسه، كانت القوامة عليه لها على عكس الحكم الشرعي.
الثالث: حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: فالأمير الذي على الناس راع عليهم، وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم …». أخرجه البخاري (2409)، ومسلم (1829).
فرعاية المرأة في بيت زوجها وولده التي ستسأل عنها قد عينها العرف بالخدمة.
الرابع: عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن فاطمة – رضي الله عنها – اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – سبي فانطلقت فلم تجده ولقيت عائشة – رضي الله عنها – فأخبرتها فلما جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبرته عائشة بمجيء فاطمة – رضي الله عنها – إليها.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على مكانكما.
فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري.
ثم قال: ألا أعلمكما خيرًا مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعًا وثلاثين وتسبحاه ثلاثًا وثلاثين وتحمداه ثلاثًا وثلاثين فهو خير لكما من خادم». [أخرجه البخاري (3113)، (5361)، (5362)، (6318)، ومسلم (7090)]
وموضع الشاهد فيه:
1 ـ خدمة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ لعلي ـ رضي الله عنه ـ، مع علم النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره.
2 ـ أن ذلك موضع شكاية، فهو موضع قضاء فلا يقال أقرها على إحسان.
3 ـ أنها طلبت خادمًا من أبيها وليس من علي ـ رضي الله عنه ـ.
الخامس: صح عن أسماء أنها قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله، وكان له فرس وكنت أسوسه، وكنت أحتش له، وأقوم عليه.
وصح عنها أنها كانت تعلف فرسه، وتسقى الماء، وتخرز الدلو وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ. [أخرجه البخاري (3151)، (5224)، ومسلم (5822)]
قال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (5/186): «ولما رأى أسماء والعلف على رأسها، والزبير معه، لم يقل له: لا خدمة عليها، وإن هذا ظلم لها، بل أقره على استخدامها.
ـ وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية، هذا أمر لا ريب فيه».
وقد حمله المانعون من الوجوب على الاستحباب، قال ابن قدامة في المغني (7 / 296): «فأما قسم النبي – صلى الله عليه وسلم – بين علي وفاطمة، فعلى ما تليق به الأخلاق المرضية، ومجرى العادة، لا على سبيل الإيجاب.
كما قد روي عن أسماء بنت أبي بكر، أنها كانت تقوم بفرس الزبير، وتلتقط له النوى، وتحمله على رأسها، ولم يكن ذلك واجبًا عليها.
ولهذا لا يجب على الزوج القيام بمصالح خارج البيت، ولا الزيادة على ما يجب لها من النفقة والكسوة.
ولكن الأولى لها فعل ما جرت العادة بقيامها به؛ لأنه العادة، ولا تصلح الحال إلا به، ولا تنتظم المعيشة بدونه».
ولهم غير ذلك من الأدلة التي تدور حول إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لخدمة النساء للصحابة.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني بأمرين في الجملة:
الأول: أن عقد النكاح عقد على الاستمتاع، وليس الاستخدام.
الثاني: أن الأصل براءة الذمة من عهدة الوجوب، فلا يقال بها إلا بدليل.
وقد سلموا للفريق الأول بما استدلوا به غير أنهم حملوه على أدنى مراتب الطلب، وهو الإحسان والاستحباب.
فهذا غاية ما يقال في هذه المسألة ولا يخفى على القارئ اللبيب ما الراجح من المذهبين، وإلى أي كفة يميل استدلال الفريقين.
هذا والله أعلم، وإلى لقاء قريب